Reader Mode

عندما نذكر “الفتوة” تتوارد إلى أذهاننا صور أبطال من الشباب مفعمين حيوية من مفرق رأسهم إلى أخمص قدميهم، أمثال علي بن أبي طالب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وألب أرسلان، ومحمد الفاتح، وأولو باطلي حسن . ومهما تعدد مفهوم الفتوة عبر تاريخها، فإن أخص معانيها هو الخضوع أمام ربوبية “الواحد الأحد” لا غير، والتضحية بكافة أنواعها في سبيل المعاني الإيمانية وروح الدين والحياة القلبية، والصمود أمام جميع المعتقدات والمفاهيم والتصرفات الباطلة، والارتباط بالحق في كل زمان ومكان، والإفصاح عنه بكل قوة.
إن روح الفتوة بهذا المعنى، يَسمو أصحابُها بإراداتهم، ويُحكِمون السيطرة على أهوائهم، ويجددون محاسبة أنفسهم مرات كل يوم، يعيدون النظر في تصرفاتهم ويقبضون على زمامها، ينفضون الغبار عن أنفسهم ويحققون انبعاثا في عالمهم القلبي ويثبتون أنهم أحياء، يشحذون أرواحهم بأسمى المشاعر وأرقّ المعاني ويحلقون بها في عوالم وراء المنظور. تلك النفوس السامقة التي تجسدت فيهم معاني الفتوة بأفضل صورها، يمثلون الدماء النقية التي تتدفق في شرايين المجتمع الذي يعيشون فيه ويبعثون فيه النضرة والنماء.
وما دامت المجتمعات تملك أمثال هؤلاء الذين يمثلون عصارة الحياة وقوامها، فستبقى سعيدة. أما إذا فَقَدَتْهُم، فالسير محتوم في طريق الموت والفناء إذ صاروا كمن قُطِعتْ شرايينه وبدأ الدم ينزف منها قطرة قطرة.
إن روح الفتوة من أقوى ضمانات المجتمع وجودًا وبقاء، وإن الأبطال الذين يمثلون هذه الروح، كالرايات يرفرفون فوق حصونه، وكالعيون يسهرون على ثغوره، وكالآذان يرهفون الأسماع لكل أصوات العداء والخصومة وأنفاسها، يرون ويسمعون ويتهيأون لكل طارئ غير مترددين في اقتحام الأهوال وساحات الردى.
تتلاحق في أذهانهم أمواج الألم، وتهبّ على أرواحهم نسائم الحزن، وتتجزأ حياتهم -التي تتجاوز حركة عقارب الساعة- حسب هذه الأنسام، إلى أن تنعكس أنغامها المملوءة أسىً أو فرحًا من أوتار قلوبهم على مَن حولهم.
أجل! هؤلاء يعلنون عن كل فجر يلوح في آفاقهم بصوت جهوريّ وكأنه ابتهالات تضرع، وينشرونه حواليهم حتى يدندن العالم بأصواتهم. فإن أبصروا في جبهاتهم ثغرة أو خللاً، أو تراءت لهم أعلام آمالهم ترفرف حزنًا وأسىً، تأوّهوا ألمًا وكأنما في حلوقهم غصة.
إنّ تَفوُّق القوى العظمى في العُدّة والتكنولوجيا لا يقلقهم أو يدفع بهم إلى أتون اليأس والاستسلام. الشيء الوحيد الذي يقلقهم ويتلوّون منه ألمًا هو اضطراب جبهتهم أو بروز المشكلات في ثغورهم، أو ظهور سلوك سلبي أو غير حكيم في صفوفهم. أما إن كانت الصفوف متراصة متينة، والثغور حصينة أبيّة، والقلوب تنبض بنبض واحد، فهم مُوقنون بأنهم يستطيعون تجاوز كل الصعاب وتخطي كل العقبات.
هؤلاء الأبطال على أهبة الاستعداد دومًا لاقتحام خطوط النار من أجل المبادئ والمثل العليا، ومواجهة أخطر البلايا، والنضال ضد أشرس الأعداء، ليكملوا الأعمال التي بدأوها، ويحققوا الوعود التي قطعوها لأمتهم. وهم في اجتيازهم لطريقهم الصعب المحفوف بالمهالك هذا، لا ينشغلون بمدح الناس لهم وثناء الجماهير عليهم، ولا بالمخاطر التي تنتظرهم عند كل منعطف من منعطفات طريقهم. لا التصفيق يغريهم ولا النقد المجحف يثبّط هممهم؛ كالجياد الأصيلة يسعون إلى غايتهم السامية طيلة حياتهم، لا يفترون ولا يتوقفون ولا يستريحون.
إنهم إزاء أنفسهم ونواقصها منضبطون أيما انضباط، حازمون أيما حزم، أما إزاء أخطاء رفاق الدرب وعيوبهم فهم قمة في الصفح واللين. لا ينتقدون أحدًا أو ينتقصون من قدره، ولا يبالون بنقد جانَبَ الإنصاف والحقيقة، يعملون بصمت ودون أي مظاهر زائفة، يحرصون على ألا يثيروا غريزة الغيرة أو الحسد لدى الأصحاب والخصوم على حد سواء.
يندمجون في المجتمع الذي يعيشون فيه لينيروا طريقه ويرفعوه إلى المستوى الإنساني اللائق… يشاطرونه آلامه وأفراحه، ويبحثون دومًا عن طرق شتى لشحن قلبه بما في أرواحهم من معان سامية، حتى تكاد أنفسهم في سبيل البحث عن تلك الطرق تذهب مكابدة وأنينًا.
إن هؤلاء الشجعان -أبطالَ ملاحمِ ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا- يدركون طبيعة الكفاح الذي خاضوا غماره، لذا يتحلّون بقمة الصبر، كذلك يعرفون أنهم ما انطلقوا في هذا الدرب إلا بحثا عن صحبة “الخضر” و”ماء الحياة”، لذا يتّقدون عزيمة وتصميما. إنهم كالجبال في إيمانهم والفولاذ في إرادتهم، فلو جاءت لهم الدنيا بكل سحرها وفتنتها ما حادوا عن طريقهم وما غيروا قبلتهم.

فهرس الكتاب

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts