سؤال: التفكّر من أهم المبادئ التي يرتكز عليها مسلكنا، فما الأسس التي ترتبط بها عملية التفكّر حتى تجري على المستوى المطلوب؟
الجواب: التفكّر هو: أن يُرغم الإنسان نفسه على التدبّر في عالمه الداخليّ، ويدقق النظر في الأشياء والأحداث، والتأمل في كل هذا مرّةً بعد أخرى؛ وبذلك يوسِّع الإنسان من دائرة فكره، ولفظة “تفكّر” تأتي على وزن “تفعّل”، الذي يحمل خاصّية التكلّف؛ بمعنى أن الإنسان يبذل وسعه ويُرغم نفسه على القيام بأمرٍ ما، ويوفّي إرادته حقَّها، ولذا يمكن القول ببساطة: إن التفكر وفقًا للصيغة الذي اشتُق منها ليس عمليةً فكريّةً بسيطةً، بل هو عملية فكرية تكتسب طابع النظام والتعمّق والديمومة.
إن السبيل إلى جعل مجالسنا مجالسَ مباركةً يتمثّل في تركيز الكلام وسحبه دائمًا إلى أرضية التفكّر والتدبّر التي نتفكّر فيها في الله ورسوله دائمًا.
القرآن يوجّه الأنظار إلى العقل الفاعل النشط
إن التفكّر أساسٌ مهمّ في مسلكنا، وهو من المبادئ الرئيسة في الإسلام أيضًا؛ لأن القرآن الكريم خلال تناوله -في الكثير من آياته- السمواتِ والأمطارَ والنباتات والسحاب والرياح والنجوم والجوّ وعملية الخلق وقضية الرزق وغير ذلك من الآيات المكتنزة في الآفاق والأنفس (العوالم الخارجية والداخلية) ربطَ المسألةَ بالتفكّر، فمثلًا يقول الحقّ تبارك وتعالى في سورة البقرة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/164).
الإنسان الذي يترك نفسه في مهبّ تيارات النفس وهواها إنسانٌ قيّدَ قدرة آليّة التفكّر التي تمكّنه من قراءة الوجود قراءة صحيحةً وتفسيره تفسيرًا سليمًا.
وفي القرآن الكريم كثيرٌ من الآيات التي تشبه الآية السابقة، بعضُها يربط المسالة بالعقل، وبعضها بالفكر، والبعض الآخر بالعلم، غير أنها جميعًا -وإن وجد فارقٌ بسيط بينها- تشير من حيث الأساس إلى نقطةٍ واحدةٍ؛ وهي أن يُفكّر الإنسان في الآيات الكامنة في الآفاق والأنفس، وأن يستغرق في التفكير باستخدام عقله.
وإن انتهاء الكثير من الآيات الكريمة بقول الله تعالى “لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” ليشير إلى أن القرآن الكريم إنما عبّر عن التفكُّر بصيغة المضارع؛ ليوجه أنظارنا إلى العقل الفاعل النشط.
أجل، إن القرآن الكريم لم يتحدّث ولو مرّةً واحدةً عن العقل السلبيّ الخامل، كذلك لم يتناول أيّ عمليّةٍ عقليّة تتعلّق بالزمن الماضي فقط، بل إنه بحديثه عن التفكّر الذي يكتسب طابع الديمومة في الزمن المضارع يرشدنا إلى التفكّر في الحاضر والمستقبل علاوة على الماضي، ومن ثمّ يجب على الإنسان بعد أن يعقد صلةً منطقيّة وعقلية بالماضي أن يُخضع زمانه ومستقبله لمصفاة فِكرِه، وألا يخطو أي خطوةٍ إلا في إطارٍ من المعقوليّة، علاوةً على ذلك فمن الأهمية بمكان أن تشير هذه الآيات الكريمة إلى العقل الفاعل النشط؛ على اعتبار أنها بذلك تؤكّد على ديمومة التفكّر.
على الإنسان أن يستفيد بشكلٍ جيّدٍ من كِلا جناحي التفكّر والتدبّر: التفكر في الآفاق، والتفكر في الأنفس.
وأوَدّ هنا أن ألفت انتباهكم إلى شيءٍ بشكل استطرادي دون الدخول في التفاصيل وهو: أن لفظ “يعقلون” الوارد في ختام الآية السالفة الذكر يتضمن معاني كثيرة مهمّة، مثل: استغلال العقل في قراءة الأشياء والأحداث، والوصول عن طريق التفكر إلى نتائج يفرزها العقل، واستحلاب جماليّات الكون باستغلال العقل.
بالتفكّر يكتشف الإنسان نفسه
إن الله سبحانه وتعالى يلفت الأنظار في العديد من المواضع بالقرآن الكريم إلى التفكّر واستخدام العقل، مما يحتّم على المؤمنين أن يتعمّقوا في التفكّر في آيات الله الكامنة في الآفاق والأنفس.
ولو أنكم جعلتم الإنسان موضوعًا للتفكّر في الأنفس وتناولتموه من الناحية الفسيولوجية والتشريحية فسيتبيّن لكم وفقًا للتحليل الذي أجراه “ألكسي كاريل (Alexis Carrel)” في كتابه “الإنسان ذلك المجهول” أن الإنسان مخلوقٌ كريمٌ يستحقّ كلّ احترامٍ وتبجيلٍ.
أجل، إن الإنسان ببنيته الداخلية والخارجية مخلوق رائعٌ، ولو افترضنا -مُحالًا- جواز السجود لغير الله لكان ذلك الغير هو الإنسان، ولكن الله تعالى لم يُجزْ قطّ السجودَ لأحدٍ غيره، أما سجود الملائكة لآدم عليه السلام فهو أمرٌ تقتضيه طبيعة الابتلاء والامتحان حتى يدركوا مدى الدقّة والحساسية في امتثال الأمر الإلهيّ.
ومع ذلك فإن السجود لسيدنا آدم يبين لنا أن هذه الأفضلية والرفعة لم تتسنّ لمخلوق آخر غير آدم عليه السلام؛ لأن آدم عليه السلام هو بمثابة نقطة التقاءٍ بين المادة والمعنى والعوالم الفيزيقية والروحانية؛ بمعنى آخر: إن آدم عليه السلام هو مرآةٌ جامعةٌ لكل الأسماء الحسنى، فلو أننا دقّقنا النظر في هذا المخلوق البديع بأبعاده المادّيّة والمعنويّة فليس بمقدورنا سوى الاستغراق في التفكير العميق فيه.
أجل، إن شئتم فتناولوه من الناحية المادية، يعني اليد والرجل والعين والأذن والأنف واللسان والشفتين، أو من حيث ماهيّته الحقيقية، فسيتبدّى لكم -إن أحسنتم قراءته- أنه كتابٌ رائع يسوق الإنسان الى التعمّق في التفكير.
وعند النظر إلى الإنسان وما يحويه من نفس وقلب ومشاعر ووعي بما لديه من شعور، وتوجيه لإرادته؛ فسيبدو أن ذلك الإنسان صاحبُ آليّة رائعةٍ لا يشوبها أيّ خللٍ، وهو الذي يفهمها حقّ الفهم على اعتبار أنه يقف على أقرب نقطةٍ منها؛ فهو من يُديرها ويشغلها ويتربّع على أعلى وأسمى مكان فيها، فلو أن الإنسان غاص في أعماق نفسه، وأمعن النظر في جوانبه المادية والمعنوية فسينفتح على الآفاق أيضًا كهؤلاء الذين أحرزوا نجاحاتٍ كبيرةً على الأرض ثم انفتحوا على الفضاء؛ وبتعبيرٍ آخر: إن دقّق الإنسان النظرَ في الدلائل الكامنة في الأنفس وأدرك أن الله تعالى لم يخلق شيئًا عبثًا ثمّ جال بنظره في العوالم الخارجيّة؛ فسيعود لا محالة بصنوفٍ مختلفةٍ من الرحيق كالنحلة عندما تحطّ على الزهور.
ينبغي أن تكون مجالسنا مجالسَ تأمّلٍ وتفكّرٍ
أجل، إن ما يجب على الإنسان هو أن يستفيد بشكلٍ جيّدٍ من كِلا جناحي التفكّر والتدبّر: التفكر في الآفاق، والتفكر في الأنفس؛ فيجعل مجالسه كلها ساحاتٍ للوقوف على آيات الله تعالى التشريعية والتكوينيّة، والسياحةِ في تلال القلب الزمرّديّة بشكل أعمق، فإن لم يحدث هذا استحال على المجالس أن تتخلّص من التحرّر والطيش، وحيث يسود التحرّر والطيش يظلّ الناس أسرى لنقد هذا وذاك، والانشغال بعيوب غيرهم واغتياب فلان وعلان كالعجائز، والانشغال بمثل هذه الشائعات يدنّس الزمان والمكان وكذلك الجوّ العام؛ إذ يستحيل في مثل هذا المناخ الدنس أن يتبرعم ويورِق التفكّر والتأمّل، والواقع أن الإنسان الذي يُسلمُ نفسه ويتركها في مهبّ تيارات النفس وهواها إنسانٌ قيّدَ قدرة آليّة التفكّر التي تمكّنه من قراءة الوجود قراءة صحيحةً وتفسيره تفسيرًا سليمًا، بل إنه أصابها بالشلل.
وبهذه المناسبة أريد أن أنقل حكاية حكاها السيد “مدد أفندي”، وقد كان رائدًا ملازمًا للسلطان “عبد الحميد الثاني”أسكنه الله فسيح جناته، التقينا سويًّا في زمنٍ ما، وكنت حينها في الثانية أو الثالثة عشرة من عمري تقريبًا، بينما كان هو في الخامسة والسبعين، فكان نورانيّ الوجه ملتحيًا مهتمًا جدًّا بالعبادة والطاعة، علاوةً على أنه كان نموذجًا مثاليًّا للرجل العثمانيّ النبيل، فلما خُلع السلطان عبد الحميد عام (1908م) ألقاه الاتحاديون بمستشفى المجانين مثلما فعلوا بغيره، ولما جاور المجانين زمنًا طويلًا صار هو أيضًا مجنونًا بعض الشيء؛ فمن يضطرّ إلى العيش مع المجانين في مكانٍ واحدٍ يصبح مشكلةً بالنسبة إليهم ويسمّونه مجنونًا إن لم يشاركهم المناخ نفسه ويتكيّف معهم، وهكذا كان السيد مدد -الذي بقي فترة بين المجانين- ينقل أحوالهم وسلوكياتهم بين الحين والآخر؛ فكان أحدهم ينظر في المرآة فيتحدّث عن اكتساح السيول “أرضروم”، وآخر يحكي أن ثمّة كنزٌ في فتحة المدفأة مدفونٌ، وثالث يسُبُّ الكتابات الصادرة في الصحف…
إن التفكر وفقًا للصيغة الذي اشتُق منها ليس عمليةً فكريّةً بسيطةً، بل هو عملية فكرية تكتسب طابع النظام والتعمّق والديمومة.
وانطلاقًا من حكايةٍ نقلها السيد “مدد” حول المجانين أريد أن أصل إلى أننا إنْ ظللنا نتحدث عن مواضيع لا فائدة ولا طائل من ورائها لا دنيويًّا ولا أخرويًّا، ولم نحوّل مجالسنا إلى مجالس نورانيّة انقضى زماننا ووقتنا في الثرثرة والهراء؛ فنصبح تمامًا مثل أولئك الموجودين في مستشفى المجانين؛ يتحدّث أحدهم دون داعٍ، ويثرثر آخر في موضوع فارغٍ، وثالث ينهض فيتخاصم مع غيره، ونتيجةً لهذا تصبح مجالسنا أرضًا جدباء لا بركة فيها ولا نفع، ونُبحر في بحر المعاصي، فنضيّع وقتنا في سفاسف الأمور، فإن كان تحويل مجالسنا إلى مجالس ذكر وفكر أمرًا مطروحًا متاحًا فلماذا نحوّله بأيدينا نحن إلى مقبرةٍ خاليةٍ من الروح، محرومةٍ من المعنى؟! وفي حين يمكننا التجوّل في أودية الطاعة فلماذا نُبحر في بحرٍ من العصيان تصعبُ العودةُ منه؟! لماذا لا نستفيد من الفرص في مجالسنا؛ فنجد مداخل ومنافذ شتّى نبحر منها إلى أعماق القرآن الكريم المتنوعة؟!
التفكّر هو: أن يُرغم الإنسان نفسه على التدبّر في عالمه الداخليّ، ويدقق النظر في الأشياء والأحداث، والتأمل في كل هذا مرّةً بعد أخرى.
إن السبيل إلى جعل مجالسنا مجالسَ مباركةً يتمثّل في تركيز الكلام وسحبه دائمًا إلى أرضية التفكّر والتدبّر التي نتفكّر فيها في الله ورسوله دائمًا، وتحويل المحاورات والمدارسات إلى الحديث عن الحبيب، فإن كان هناك من يريد أن يثرثِر ويتحدّث عبثًا ينبغي ثَنْيُهُ عن مراده بأدبٍ وذوقٍ؛ فيُنصح بأن يُقال له: “يا أخي! إن كنت متحدّثًا عن الله ورسوله عليه السلام فلتتحدّث نستمع إليك، وإلا فأحضِر كتابًا، وهلمّ نقرأه” ولنتدارس موضوعًا تَجِلُ منه القلوب وتذرف منه العيون، يُذَكِّرُنا بإنسانيّتنا من جديد. وربما يُطلب من أحد الحاضرين -على سبيل المثال- أن يقرأ القرآن الكريم، فإن كان هناك مَنْ له صلاحية وقدرة على تفسير الآيات المقروءة رُجِيَ منه تفسيرها، وبهذا نبث الانشراح والبهجة في نفوسنا، فإن لم يكن هناك من هو مؤهّلٌ للتفسير نسعى إلى فهم الآيات المقروءة عبر التعرّف على معانيها بمساعدة كتب التفاسير؛ لأننا كلّما فهمنا وتأمّلنا وتدبّرنا تخلصنا من الدناءة وضحالة الفكر، وانفتحنا على بحار ومحيطات المعرفة الواسعة.
والحاصل أننا في ظلّ ديناميّة التفكّر والتأمّل نفهم عجزَنا وفقرَنا ومدى حاجتنا إلى الشكر فهمًا أعمق، ونستمرّ بإذن الله تعالى في أداء خدمتنا -بنشاطٍ واشتياق- بحيث نحتضن المخلوقات بمزيدٍ من الشفقة والرحمة.
المصدر: فتح الله كولن، سلسلة الجرة المشروخة، إشراقات الأمل في دياجي الحزن والأسى، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.