Reader Mode

إننا -أبناءَ هذه الجغرافيا المثخنة بالجراح، المثقلة بالأحزان- كنّا وما زلنا نترقب منذ عقود وعقود نسمة بعث أو نفخة “صور” خارقة، نسأل الله أن يعجّل بها وألاّ يَطول انتظارُها. ومهما يكن فإننا عاهدنا أنفسنا أن نَثبُت على هذا “الترقّب الفعّال” حتى يُشرق يوم نستردّ فيه قِيمًا أضعناها منذ أمد بعيد. ولكن، يا تُرَى، هل العُدّة التي أعددناها، وتحفُّزُنا الروحيّ، وموقعُنا من الحق جل وعلا، موافق لمقتضى ذلك “الانبعاث المرتقب”؟ إن لم يكن الأمر كذلك، فإنه انتظار سلبي لا يُسمّى “ترقّبًا” قطّ.
وإذا كان الانبعاث الذي نترقبه -بعد هذا الموت الطويل- هو التّحقق في الإحساس والتفكير والحياة القلبية والروحية بـ”أصالتنا الذاتيّة” -وهو كذلك بلا شك- فذلك يستوجب منّا مراجعة جادة لما نحن عليه وما نتطلع إليه من غايات عظيمة لنوفِّق بينهما. إن “قانون العلّيّة” يقتضي مناسبة ضرورية بين انتظاراتنا الكبيرة وأدائنا الراهن. لذا فإنّ حمل تطلعات جليلة كهذه، ليس من شأن جَهلة لا نصيب لهم من “العلم والمعرفة”، أو بؤساءَ لا يملكون “غاية سامية”، أو عُطّلٍ لا يحملون بين جوانحهم “همّ قضية”، أو محرومين جديرٌ بهم وصفُ “فقراء الحكمة”.
إن استشرافًا جللاً وحُلمًا عظيمًا كهذا، الأحقُّ به فرسانٌ مزجوا العلم بالعرفان، ونذروا أنفسهم للحقيقة. وإذا قُدّر لحظّنا المعكوس أن يتغير يومًا ما، فلن يأتي التغيير -بمقتضى السنن الفطرية- إلا على أيديهم إن شاء الله. هكذا جرت سنة الله حتى اليوم، وكذلك ستجري بعد اليوم.
أجل، سيواصل أعداء الداخل والخارج في شنّ الغارة تلو الأخرى.. ويواصل الرفاق في التخلّي عن الوفاء المرجوّ منهم.. ويَعقُب الهدمَ هدمٌ آخر، والتخريبَ تخريبٌ آخر.. وتتوالى الضربة تلو الأخرى على جذورنا الروحية والمعنوية.. وتتفطر القلوبُ أملاً في نسماتِ مَحبّة.. ويدوّي أنين الموت في جميع الأطراف. ولكن إزاء هذه الصور القاتمة كلها، لن يغيب من المشهد “فرسانُ البعث” الذين يبثّون الحياة في كل مكان.
لقد تعرضت منطقتنا في فترات تاريخية مختلفة لشروخ وكوارث لا تعدّ ولا تحصى. سُقي إنسانُنا السمَّ الزُّعافَ مرات ومرات، وسُمِلت عيناه بالحميم مرارًا.. سُلبت منه قيمُه الدينية ومبادئه الوطنية، وهُجِّر بعيدًا ليقاسي أشدّ أنواع الاغتراب مرارة وإيلامًا.. سُرقت شمسُه، أطفئ قمرُه، وأوقع في سلسلة متشابكة من كسوف وخسوف. لقد مُنِي بالأمرّين معًا، لقي من العدوّ شدّة، ومن الخليل جفوة، فتعالت أنّاته. وما أن تهاوت شرذمة من الأشرار وخمد أُوارُها حتى خلَفَتها شراذم أخرى. فرأى إنسانُنا من شراسة اللاحق وبغيِه ما حمله للترحّم على السابق، وما زال يتتابع عليه اضطهادُ المتكبرين وقهرُ المستبدين وحقدُ أعداء الدين وحنقُهم حتى استحالت حياته جهنمَ حمراء.
ما أشبهَ اليومَ بالبارحة.. فها هي شتى ألوانِ القهر والاضطهاد والمطاردة.. وتلك جهود خبيثة تعمل على طمس بصيص الأمل لدى إنساننا.. هذه حقوق تُنتَهك وعدالة تُمتهَن.. وثمة عقائد تُحظَر ممارستها على معتنقيها من أفراد ودول ومجتمعات، يُعانون كما لو أنهم في محاكم التفتيش فتكًا وبطشًا. ورغم ذلك كله، فإن مشاعل الأمل لا تفتأ تتلألأ هنا وهناك -وإن لم تكن في المستوى المطلوب- تبشر بما تنطوي عليه من انبعاثات متعاقبة في قابِل الأيام. والأرواح المضيئة التي تقوّم كلَّ سلوك وكلَّ كلام في ضوء محبة غامرة وأدب رفيع، تمضي في رحلتها نحو إحياء قيمنا الإنسانية، دون أن تخفف من سرعتها، أو تتعثر بأية عقبة تعترضها من غِلظة أو كراهية أو عدوان.
إنّ الله قد كفل أمر من صدقوا في عهدهم له، وشملهم برعايتِه الخاصة -لا حُرموا ظلال تلك الرعاية- ولم يتركهم يواجهون الظَّلَمة والمستبدين وحدَهم قط.
صحيح أن فكرة الباطل قد انتفخت تكبّرا، وتمكنت -حينًا- من أن تملأ الأجواء صخبا أجوف، فعصفت وأرعدت لتلقي الرعب في القلوب وتثير البلبلة في النفوس، وسلكت سبلا شتى لكتم أنفاس الحق وإخماد شمعته.. بيد أن حالات التراجع والانكماش التي سرت في شرايين الأمة جراء ذلك، كانت مؤقتة على الدوام حيث دوّى نداء الحقيقة في كل مكان -بعد حين- أقوى مما كان. ولئن أمهل الله الظالمين مرة بعد أخرى في فترةٍ ما، إلا أنَّه لم يُهمِلهم قط، بل غالبًا ما أخذهم أخذ عزيز مقتدر وانتقم منهم لحظةَ مساسهم “غيرة الله”؛ ومدّ يدَ العناية والرحمة لمن ظُلِموا واستُضعِفوا في الأرض، ورفعهم إلى أعلى عليين، وهداهم سواء السبيل في سعيهم لجمع الشمل ولَمّ الشّعَث، وبصّرهم بمناهج الانبعاث العلمي والاجتماعي والعقلي والقلبي والروحي على حدّ سواء.
إن هؤلاء الفرسان الذين أخذ -وسيأخذ- الله بأيديهم ويؤيدهم برعايته ونصره، سيعبّرون حتما -إن اليوم أو غدا- عمّا تموج وتتدفق به أرواحهم من مشاعر الشفقة العميقة بمعازفَ وأوتار شتى صنعوها من إكسير المحبة والرحمة؛ ويبسطون أجنحة الحماية والرعاية كملائكة الحفظ على المظلومين والمضطهدين جميعًا حيثما حلّوا وارتحلوا، وسيقولون للطغاة والمستبدين الذين أقفرت قلوبهم من الرحمة: •لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(يوسف:92)، بل لن يترددوا بفتح صدورٍ ملؤُها الرأفةُ والشفقةُ ولو لأولئك الذين قضوا حياتهم لا يفكرون إلا في الدم، ولا يتحدثون إلا عن الدم، يسفكونه، ويشربونه، ويبيعون عقولهم به.
هؤلاء الأبطال سيَظهرون يومًا ما في كلّ مكان وكأن العناية الربّانية قد تمثّلت فيهم، ليسقونا من كوثر البعث كأسًا بعد أخرى.. أولئك هم رُوّاد “الغاية الحُلم”، ورجالُ الإيمان والفاعلية، وفرسان اليقظة والحذر في اتصالهم بالله.. وأولئك هم مظهر الرحمة الواسعة المتمثلة بهذه السّعة وذاك الامتداد.
إذا قدّر الله مثلَ هذا البعث على أيدي “فرسان المستوى” هؤلاء، فسوف يبعثهم هم أولاً -بمقتضى السببية- ثم يُعقِب ذلك ببعث عام يشملنا جميعًا وينفخ الحياة فينا من جديد؛ وإننا على يقين أن البعث العام قادم بإذن الله.
وحريّ بالذكر أن المؤمنين الذين لا يحملون في صدورهم غاية سامية أو هدفًا نبيلاً، ومن شحبت عواطفُهم وخمدت جذوةُ حماستهم.. لا يمكن أن يَبعثوا الحياة في أحد أبدًا بعد أن أخفقوا في تحقيق الانبعاث التامِّ في ذواتهم. نعم وعَد الله مَن توجّهوا إليه بأعماق قلوبهم بأن يحييهم، وبأن يُحيي بهم الناس، لكنَّه شَرَط لهذا الوعدِ أن يقتفوا أثر الأنبياء في عزمهم وهمتهم وثباتهم، وأن تفيض أنفسهم عزمًا وتصميمًا.
أجل، هذا هو دَيدنُهم، وذاك هو دأبُهم؛ ففي قلوبهم إيمان راسخ لا يتزعزع.. مرابطون في مواقعهم بقوة خارقة لا تقاوَم.. لا يكترثون بمضايقات تَدْهمهم من اليمين أو الشمال.. ولا يهتزون إزاء المصائب والابتلاءات قط؛ فهم مصدر لرفع معنويات من حولهم دائمًا. وإذا نادى منادي الهمّة ودعا داعي الخدمة كانوا في طليعة الصفوف، وإذا حانت المكافأة انكفؤوا فكانوا في آخرها، مستغرقين في مراقبة صامتة عميقة. إنهم -بهذه الخصال السامية- صروحُ إخلاصٍ فريدة، ورموزُ تفانٍ نادرة. إذا قدّر الحق تعالى أن يتكرم بمنحة خارقة، إنما يمنحها لهؤلاء الأبطال خالصةً، وإذا قَدّر نفخ الحياة في أمة، جعل أنفاس هؤلاء الأبطال لها صُورًا.
أبطال البعث هؤلاء، الذين نذروا أنفسهم لإحياء الإنسانية كافة، ستجدهم قد عقدوا العزمَ على توظيف ما منحهم الله من قابليات وطاقات حتى آخر قطرة لإقامة صروح هدفهم الأسمى، وحلّقوا بأبهى مشاعر البذل والتضحية والعطاء، وتحققوا بأنبل خصائص المسؤولية في حفظ ورعاية الأمانة التي حملوها على عواتقهم، وترقّبوا بأعمق مشاعر الاستسلام و”الصبر الفعال” ما سيجود به الحق تعالى من ألوان التقدير والتكريم.. وتلك -والله- سجايا روح بطولية نذرت نفسها للحق جل وعلا.
وبينما يقوم هؤلاء الأبطال بما يجب من مسؤوليات ليجتمع الشملُ ويستوي العُود وتتحقق النهضة، يعلمون يقينًا أنه •لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ(الرعد:38)، فلا يضطربون ولا يرتبكون، بل يجيدون الترقب والانتظار سنين وسنين.
أجل، أحيانًا قد لا يتحقق النهوض المنشود رغم أداء الواجبات والمسؤوليات كافة، ولا يُمَكَّن فارسُ البعث من التعبير عن ذاته والقيام بمهمته وتنفيذ مشاريعه في المدى القريب، ولا تؤتي جهودُه ثمارَها المرتقبة في حينها. يرجع ذلك أحيانًا إلى قصور الفارس -الذي ينشد بعثًا- في بلوغ المستوى المطلوب من النضج، وإلى عجزه في توظيف طاقته كلها لإقامة صرح روحه.. ويرجع في أحيان أخرى إلى انشغاله بقضايا لا تعنيه مباشرة، ومن ثمة تعرّضِه للتشتت وضياع البوصلة، وانسياقه في سياق آخر من وتيرة الأحداث.
إذا كان انبعاثنا من جديد وعودتُنا إلى ذاتنا هبة ربانية -وهو كذلك بلا شك- فإنَّنا لن نقدرها قدرها لو جاءت قبل أن ننضج نضجًا يؤهّلنا لحملها، وستذهب أدراج الرياح دفعة واحدة، فنعرّض أنفسنا بذلك لألوان جديدة من الشقاء والحرمان يصعبُ تغييرها وتلافيها. زد على هذا أنّ المولى  قد أناطَ مِنحَه المادية والمعنوية بأن يوفِّي العاملون إرادتَهم حقَّها؛ ومن ثم يتأخر التوجه الإلهي إلى أن تأتي اللحظة التي يستثمرون فيها كلّ الفرص والإمكانات التي يملكونها.
وفي هذا الباب مخاطر أخرى، منها أن روّاد هذا الطريق قد يتوهمون أحيانًا أن قدراتهم وطاقاتهم ومواهبهم الذاتية هي كل شيء، فيقعون في شِباك غفلة الثقة بها والركون إليها، أو يوشك أن يقعوا في مثل هذا المهوى. لذا لا يعطيهم الله كلّ ما يسألون، ولا يحقق لهم فورًا كل ما يرغبون، صونًا لهم من الانزلاق في مهاوي الشرك، فكأنه بهذا يكون قد حَوّل وجوهَهم من الشرك إلى التوحيد باقتياد “جبرٍ لطفيّ”.
وأحيانًا تجد أن كل شيء قد وُضع في موضعه الصحيح، لكن أبطال الانبعاث لمّا يبلغوا المستوى المطلوبَ في التوجه التام إلى الله، فيتركهم الحق  عُرضةً لألوان من الشدة والتضييق، ولا يستجيب لجهودهم الانبعاثية، ولا يلبي رغباتهم كما يطلبون، ليتوجهوا إليه وقد اصطبغوا بحالة الاضطرار، شاكِين إليه مكابداتهم بإخلاص المضطرين. وأحيانًا أخرى، قد تزِلّ أعين هؤلاء الأبطال بشكل مّا إلى تطلعات دنيوية، ولا يستطيعون تصفية قلوبهم من أن تَشُوبها خواطر نيل المقام والمنصب والجاه والشهرة، ومن ثم لا يمكنهم استيفاء معايير التجرد الكامل و”الاحتسابية” الخالصة لوجه الله. فإلى أن تأتي اللحظة التي ينسلخ فيها هؤلاء جَذريًّا عن التفكير بـغير ما يرضي الله، ويُخلِصوا التوجّه إليه سبحانه، لا يمكنهم حيازةُ نفخة البعث.
أضف إلى كل ما سبق نقطةً في غاية الأهمية، وهي ضرورة تمييز الجيّد من الرديء، وتمحيص الخبيث من الطيب في نظر الناس عامة، وضرورةُ انكشافِ الظَّالمين والمستبدين أمام شرائح المجتمع كافة.. وذلك أن فئات من المجتمع، لديها قابلية للانخداع والاستفزاز، لذلك قد يُلمَح عندها انحيازٌ إلى جبهة أهل الإلحاد، وتصرفاتٌ مسيئة إلى أبطال الانبعاث ومواقفُ سلبية ضدهم؛ ومردّ ذلك غالبًا إلى غموض في الصورة وخفاء في الحقيقة. ولهذا يمنح الله الناس جميعًا فرصة للتأمل ومهلة للتفكّر حتى يأتي يوم يتبين فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويتضح فيه أين وقف أو سيقف الناس أجمعون خواصهم وعوامهم؛ وهذا يؤدي إلى تأخّر النتيجة المرتقبة بعض الشيء.
وأيًّا كان السبب فإن ما يقع على عاتقنا أن نقوم بمهمتنا وفق ما تقتضيه من أسس وواجبات، ووفق ما تقتضيه الحكمةُ، ثم نَكِل الباقي إلى الله تعالى.
ولْيعلم “فرسان البعث” جميعًا أنهم إذا استجابوا لدعوة الله ونداء رسوله الكريم ، فلن يُسلِمهم لعَثَرات الطريق يسقطون في حُفَرها أو يتيهون في مجاهيلها، بل سيهديهم سبل الانبعاث حتما سبحانه.

فهرس الكتاب

 

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts