Reader Mode

ِلَحْن الأنين رُمْ قلبًا ممزّعًا *** وامـــلأ بِــحَــرِّ العــويل كيــانَه
إن الذين وهبوا قلوبهم للمبادئ السامية وتحمّلوا آلامها وأوجاعها، يقضون حياتهم كمِبخرة تضطرم فتنشر روائح زكية. تولد الشمس وتغرب، وتتتابع الأسابيع والأشهر، وتتوالى المواسم موسمًا إثر موسم، وهكذا يمضي الزمان… ويظل هؤلاء يبحثون في ضوء مبادئهم عن ربيعٍ آخر. يعيشون الخريفَ على الدوام، يسمعون أغانيه الحزينة، لكنهم لا يشكون من حالهم ولا من أحد، يتحملون كل ألم وعذاب في سبيل دعوتهم السامية التي أقسموا على نصرتها وساروا في دربها، لا يصيبهم سأم ولا ملل.
هذه الأرواح النيرة العاشقة لغايتها الجياشة بالبشائر تعلم مسبقًا أن هناك صعابًا جمة في طريقها، ووديانًا سحيقة عليها أن تتجاوزها، لذا أخذت هذا الأمر في حسبانها وتهيأت له، فلا تستطيع المشاكل المفاجئة، ولا المخاطر العديدة التي تقطع عليهم الطريق أن تحيرهم، ولا أن تبعث الشكوك في نفوسهم حول دعوتهم. فهم على يقين بأن يومًا سيأتي يزول فيه كل خطر، وتنفتح فيه كل الطرق لتنقلب المستحيلات إلى ممكنات، فعزمهم لا يفتر، وأملهم لا يخبو. لذا لا ينجرفون إلى اليأس والقنوط أمام أكثر الحوادث بعثًا لليأس وأكثر الظروف قتامة وظلامًا، بل يتخطون العقبات بسرعة البرق ويتوجهون نحو أهدافهم مسرعين.
تراهم على أُهْبَة الاستعداد منتبهين لما يدور حولهم بكل دقة، لا سيما ما له علاقة بدنْيا أفكارهم، يمتزجون مع المجتمع الذي يعيشون فيه امتزاجًا قويًّا؛ إن رأوا فردًا قد انحرف عن الطريق السويّ، أو أسرة تكاد روابطها تنحلّ، أو قيمة روحية تدعم المجتمع قد تضررت، تطاير النوم من عيونهم أيامًا وتقلبوا على فراش الألم والأنين.
أكثر ما ينفرون منه اللامبالاة، فهم يحسون بمشاكل كل شرائح المجتمع وأوجاعه وكأنها خنجر مغروز في قلوبهم، ويَطْوُون صدورهم على آلام مجتمعهم. كم من ليالٍ مضت عليهم نبضت قلوبهم فيها بالآلام وكاد الصداع يَفتِك برؤوسهم، يعيشون وسط حشود من الناس في وحدة وغربة. تطوف الحسرات في أرجاء لياليهم طوال أعمارهم، لا يحس بها أحد غيرهم، أو على حد قول الشاعر “باقي”:
لا يدري راصد النجم ولا حاسب الأوقات ضنى الليالي السود،
سَلِ المكروبَ ذا الهمّ عن طول الليالي…
يرتبط الإنسان بمبدأ ما بقدر إيمانه به ورسوخه في قلبه. وبقدر ارتباطه يحس بالفرح مرة وبالعذاب والأسى مرة أخرى. وعلى هذا الأساس فهناك من ينفق على قضيته يومًا أو أسبوعًا.. شهرًا أو سنة بل سنوات، وهناك من يجعل من قضيته غاية حياته وأمنية عمره، فلو كان له من الرؤوس عدد ما في رأسه من الشعر، وطُلب منه في سبيل دعوته كل يوم منها رأسًا لقدّمه بلا تردد ولا امتنان. لقد كان سيد الرسل والأنبياء  ذروة في هذا الأمر حتى خاطبه الله تعالى قائلًا: •فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا(الكهف:6).
كم من أفذاذ اقتفوا هذه “الفطرة السامقة” التي لا مثيل لها، قضوا حياتهم يتنفسون الآلام ويقاسون تباريح الفكر.. أجل، كان قيامهم وقعودهم أنينا وأوجاعا. إن شدة الآلام عند هؤلاء تتناسب طرديًّا مع درجة سمُوّهم وعظمتهم الروحية، فكلما قاسوا ارتفعوا، وكلما ارتفعوا قاسوا، حتى تطهّروا من كل ذنب وأصبحوا لغزًا من ألغاز السماء. أجل، ليس هناك ما يطهّر الإنسان وينقّيه ويَسْمُو به مثل المعاناة في سبيل الحق تعالى وفي سبيل صلاح الأمة. لقد ورد في الحديث الشريف: “إن من الذنوب ذنوبًا لا تكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، تكفّرها الهموم في طلب المعيشة” (كنز العمال). فما بالك بمعاناة في سبيل إنقاذ الأمة وإنقاذ المجتمع الذي نعيش فيه!
إن أشد ما نحتاج إليه اليوم ليس هذا أو ذاك، بل نحن في أمس الحاجة إلى من يقول: “إنني أرضى في سبيل سعادة أمتي المادية والمعنوية أن أُحرق في لهيب النيران”… إلى من يُفنِي نفسه في سبيل الحق تعالى والأمة ضاربًا عرض الحائط بمنافعه الذاتية ومصالحه الشخصية… إلى من يتلوّى بآلام المجتمع ويتأوّه… إلى من يحمل في يده شعلة العِلم ليوقد في كل مكان أنوارًا تطارد الجهل والانحلال وتطردهما… إلى من يهرع بكل عزم وإيمان لمن ضاعوا بين شتى الطرق يمدّ لهم يد العون والمساعدة… إلى من يواظب على السعي في طريقه كجواد أصيل دون أن يشكو من الصعاب التي تعترض طريقه ودون أن يتأفف أو ييأس… إلى أبطالٍ نسوا أذواق العيش والحياة لأنفسهم وآثروا لذة خدمة الآخرين في عيشهم وحياتهم.

فهرس الكتاب

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts