Reader Mode

إنّ إرادتنا جزئيّةٌ وضيّقةٌ للغاية، وقد جعل الله تعالى هذه الإرادة الجزئية شرطًا عاديًا ليقلب بها كلّ ألاعيب الشيطان. وقيامنا بقَطع الطريق أمام ما يلقيه، وما تلقيه النفسُ الأمّارة بالسوء فينا يعني سيطرَتَنا على أرض المعركة. وقد تأتي أوقاتٌ وأوضاع لا تكفي لمواجهتها إرادتُنا وحيوية قلوبنا، عند ذلك نستمدّ العون من أشخاص تسطعُ وجوهُهم بالحقيقة، وتتوافق إرادتهم مع إرادة ربهم سبحانه؛ بحيث إذا ما جالسناهم شعرنا وكأننا نجلس بين يدي نبيٍّ من الأنبياء، كلامهم وحديثهم إكسيرُ الحياة يُذيب الأفكارَ والمشاعر السيّئة داخلَنا، وأحيانًا نكون نحن أيضًا مظهرًا لمثل هذا الحال، فيلجأ إلينا الآخرون، ويعتمدون علينا في مواصلة وجودهم.

خلق الله تعالى الإنسان بفطرةٍ اجتماعية تميل إلى التعايش فلا يستطيع الاستغناء ـ ماديًّا ومعنويًّاـ عن مجتمعه، وهنا تقع مهمة عدم الابتعاد عن الأصدقاء الصالحين.

 فوائد مصاحبة الصالحين:

الصديق الصالح يُحيي قلوبنا بنصائحه، وينفث فيها الحماس والوجد، لذا يجب المحافظة على هذه الصداقة؛ في كل الأوقات، وبذلك لن يتسلل الشيطان -إن شاء الله- إلى قلوبنا مع وجود حصنِ الصداقة الحصينِ.

إن لزومُ الإصغاء إلى النصائح التي ترقّق القلب، وتذكّرنا بالآخرة وتبعث فينا الشوق هامّ جدًّا، والنصيحة بهذا المعنى هي الدين نفسه. فالإمام “فخر الدين الرازي” الذي أتقن الفلسفة وعلم الكلام وبرز فيهما كان عندما يعظ على المنبر يجهش بالبكاء فلا يفهم السامعون بعضَ ما يقوله؛ لذا نُعَدّ نحن جماعة سيئة الحظّ لأننا حُرمنا من أمثال هؤلاء الوعّاظ الربانيّين، علمًا بأن الإنسانَ مخلوقٌ يحتاج إلى خشوعِ القلبِ ودموع العين، وهو محتاجٌ كلّ يوم إلى التأمُّل في عالمه الداخلي، والبكاء من متطلبات ذلك، والقرآن الكريم يمدح أصحابَ القلوبِ الرقيقة والعيون الدامعة: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ (مَرْيَمَ: 19/58).

 الإنسانَ مخلوقٌ يحتاج إلى خشوعِ القلبِ ودموع العين، وهو محتاجٌ كلّ يوم إلى التأمُّل في عالمه الداخلي، والبكاء من متطلبات ذلك.

 متابعة الصالحين واقتفاء أثرهم:

ما أحسنَ أن نقرأ كلّ يوم صفحات عن الصحابة والتابعين ممّن عاشوا الإسلام بصدق، ونلوّن حياتنا بهم فإذا خرجنا إلى المجتمع خرجنا بهذه الروح المشحونة، فإن فعلنا هذا استقام عالَـمُنا الداخلي من جهة، ووجدنا من جهةٍ أخرى فرصةَ مقارنةِ أنفسنا برجال القلب والروح الحقيقيين، ونقول لأنفسنا: “لقد كان هؤلاء مسلمين، ونحن أيضًا مسلمون، فلماذا كانوا هكذا ولماذا أصبحنا نحن هكذا؟”، وبهذه المحاسبة والمراقبة الذاتية نجدد أنفسنا. فإن فعلنا هذا بضعَ مرّات أسبوعياً، فنأمل أن يساعد على ترقيق قلوبنا وإزالة الصدأ الذي نشعر بوجوده أحيانًا في ذواتنا. كما نستطيع الشعور بالتجليات الإلهية التي تنعكس عليها بأنوارها، ونتجنب وساوس الشيطان، ويحصل هذا إما بالاستماع إلى شخصٍ أو بقراءة القرآن أو بقراءة التفاسير.

 كما نحتاج إلى الهواء وإلى الماء وإلى الخبز فكذلك نحتاج إلى تجديد الذات الذي لا حدودَ لأشكاله.

زاد على الطريق:

إن حضورُ مجلسِ شخصٍ يبثَّ الخشوع في قلوبنا وطلبُ النصيحة منه، وتجدّدُ استشعار أفئدتنا برسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم؛ كلّ هذا بمثابة القوة المُساعدة على البقاء والصمود، وحذارِ القول ـ نتيجة الألفة والعادةـ إنني أعلم هذا الموضوع فماذا يفيد قراءته مرّةً أخرى؟ ولا تقولوا ماذا لو استمعتُ أو لم أستمع؟ لأن هذا غفلة وانخداع. فكما الحاجة إلى الغذاءِ والشراب المادّيّ ضرورية، فكذلك الحاجة لتغذية حياتنا المعنوية بهذه الأمور. وعلينا اللجوء إلى كَنَفِ مرشدٍ يستطيعُ بجوّه الروحيّ إذابة الشرورِ ويرينا طُرُقَ وسبلَ تجديد أنفسنا، وقد يمكن تحقيق ذلك بالمطالعة أو بالتأمّل أو بتذكّر الموت، وبقدرِ نجاحنا في تحقيق هذا بقدرِ ما نستطيع صيانةَ أنفُسِنا من شياطين الإنس والجن، ودعاؤنا الدائم لله تعالى هو أن يحفظنا من شرور أنفُسِنا ومن شرور الشيطان، علينا التزام هذه الأدعية والضراعة كي نبقَى ضمن حرز العناية الربانية.

———————-

المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 235-237.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

 

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts