Reader Mode

لقد وسعت رحمةُ الله ورأفته عبادَه أجمعين، ولقد ملأ عفوُهُ كلَّ شيء، وحلمُه أحاط بكل شيء.. وهذا المعنى تُفيدُه العديد من أسمائه تعالى مثل الرحمن، الرحيم، الرؤوف، الحليم، الكريم.. ويخبرنا القرآن الكريم بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا يتحلى بمثل هذه “الأخلاق الإلهية” فيقول: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة التَّوْبَةِ: 9/128)، حيث إن صفتَي “رؤوف” و”رحيم” تُستخدمان في الآية وصفًا لسيدنا رسول الله في الوقت نفسه، وهما من أسماء الله الحسنى بالأساس.. وهذا يعني أن سيدنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يشتمل في نفسه على روح هذين الاسمين ومعناهما، وكان يؤدّي رسالَتَه على أساسِهِما.

ومن هنا يمكننا أن نستنتج ما يلي: إذا كان مفخرةُ الإنسانية صلى الله عليه وسلم، حين تُعرَض نبوّتُه للتفكّر والتدبر، يوضع في الصدارة بسبب رحمته وشفقته؛ فإنه يمكن القول: إن الوفاءَ بواجب التبليغ والإرشاد حقَّ الوفاء مرتبطٌ بالرحمة والشفقة الحقيقية، وبما أن هذه هي الحقيقة فالأصلُ ألا يحيد عن هذا الطريق رجالُ الإرشادِ في أي عصرٍ وزمان.

إن مهمة المهندسين المعماريين الذين سيُنشِئون المستقبل تتمثّل في أن يستطيعوا جمْعَ الناس حول القيم الإنسانية الكونية.

ولا سيما أن أجيال اليوم تحتاج إلى الرحمة والشفقة النبوية أكثر من أي جيل آخر.. وإن لم يتم التحرك بمثل هذه الرحمة والشفقة، استحال أداء مهمّة نشر الحق والحقيقة وإبلاغ الجميع بهما كما ينبغي.. وحتى وإن تم أداء هذه المهمة وتنفيذها، فلا يمكن الحفاظ عليها وعلى ديمومتها.

يجب على المرء أن يأخذَ، إلى جانب عقله وإرادته، قلبَه وعواطفه؛ حتى لا يتعب أو يتعثّر في الطريق الذي يسير فيه؛ لأن الأعمال التي تُغرسُ في الطبيعة، وتُحوَّلُ إلى رغبة وشغف، تُنَفَّذ براحة ويُسرٍ أكثر، فإذا ما جعلتم طبيعتكم تساندكم فيما يتعلق بمسؤولياتكم وواجباتكم فقد حصلتم على دعم جاد وحقيقي.

ويمكن لمن يمتلك مشاعر الرحمة والشفقة والعطف أن يتغلب بسهولة على ما يعترضه من عقبات في الطريق الذي يسير فيه من أجل تحقيق غايته المثالية، وإنسانٌ مثل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه يستثمر في سبيل تبليغ الحق والحقيقة جميعَ الفرص التي تسنَح له.. وكما هو معروف، فإن سيدنا عبد الله رضي الله عنه حين أُسِر من قِبل الروم وسُئل عما إذا كانت لديه رغبة أخيرة في شيء أم لا قبل أن يتم إعدامه؛ ردَّ رضي الله عنه على القسِّ الواقف أمامه فيما معناه: “أيها القديس أشكرك كثيرًا على الدقائق القليلة التي منحتني إياها. لأنه خلال هذا الوقت إذا حدثتك عن الإسلام الذي هو الدين الحق، ثم متُّ، فإنني لن أغتم ولن أحزن؛ لأنك في هذه الحالة ربما تنجو”. ولا يُتوقَّع ممّن خَلَتْ نفسُه من مشاعر الرحمة والشفقة والعطف أن يقول هذه الكلمات.

فإذا أصبح المؤمن بطلًا حقيقيًّا للرحمة والشفقة تعذّر عليه أن يتحمل ويرى كيف يخسرُ الناسُ آخرتهم ويحترقون في نار جهنم.. ولقد ورد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/36)، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/118)، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: “اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي“، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: “يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟” فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: “يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوؤُكَ[1]، وهذا أيضًا رحمة من الله برسوله عليه الصلاة والسلام، والواقع أننا يمكننا اعتبار هذه الكلمات أنها نغمات الرحمة والشفقة التي عبّر عنها جميع الأنبياء والرسل من أجل أممهم، إذ يتحمل النبيُّ المولَعُ بأمّته المهمومُ بشؤونها كلَّ شيءٍ في سبيل إنقاذهم ونجاتهم.

إن تفتحوا قلوبَكم للآخرين، ولا تبخلوا بأي شيء عليهم يفتح الآخرون قلوبهم لكم.. وإن تستطع الإنسانية الوصول إلى هذه السعة في التعامل والتراحم فلن تبقى مشكلة عصية على الحل.

وحسُّ الشفقة والرحمة هذا هو ما جعل الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي يقول: “لو شاهدت سلامة إيمان أمتي، فإنني أرضى أن أحترق في نار جهنم لأنه بينما يحترق جسدي فإن قلبي سيمتلئ سعادة وحبورًا”[2]. والواقع أنكم إذا ما جَسَسْتم نبضَ جميع الأشخاص العظماء، ووضعتم آذانكم على صدروهم سمعتم أشياء مماثلة لذلك.. والإنسانُ الذي يحمل مثل هذا الشعور بالرحمة والعطف يظل يركض دون توقّف ولا توانٍ من أجل ضمان سلامة الإنسانية؛ إذ إن هذا الشعور يكاد يكون بمثابة دينامو بالنسبة له، يسوقه ويشجّعه على الخدمة، ويسهِّل أمره بعض الشيء، أما الشخص المحروم من هذا فإنه يظلّ يجاهد نفسه باستمرار، ويحاول أن يوفي إرادته حقها، والأكثرُ من ذلك أنه يكون بحاجة لإعادة التأهيل المستمر، ورفع الروح المعنوية والحافز النفسي، والحفاظُ على قِوامه مرهونٌ بهذا.. غير أن هذا يفيد أحيانًا، ولا يفيد أحيانًا أخرى؛ فالإنسانُ يعتبر بالتحذيرات والنصائح أحيانًا، ولا يعتبرُ أحيانًا أخرى.

لهذا السبب قال الأستاذ بديع الزمان إن مبدأ الشفقة هو أحد المبادئ الأساسية لمهمّتنا، ولا سيما في يومنا الذي صارت فيه كلُّ القضايا مرهونةً بالمادة والجسمانية على نحو دائم، فثمّة حاجة ماسةٌ إلى إيقاظ شعور الشفقة -الذي يمكننا القول بأنه معانقةُ الجميع واحتضان كل شيءٍ لأنه من صنع الله وخلقِه- في القلوب مرة أخرى، وتوجيه الناس إلى حياة القلب والروح من جديد.

يقول مولانا جلال الدين الرومي: “أَقْبِلْ، أَقْبِلْ، أيًّا كنتَ، فلتُقبِلْ”، لكن إنسان عصرنا ليس مستعدًّا تمامًا للمجيء؛ لذا وجب علينا أن نذهب نحن إليه دون أن ننتظر مجيئه بنفسه إلينا.. يجب علينا أن نسعى لإصلاح القلوب المنكسرة، وحتى وإن تجرّد الآخرون من الإنسانية، وفعلوا كلَّ أنواع السوء؛ فإن الواجبَ الذي يقع على عاتق السائرين على طريق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو المقابلة بالحسنى حتى الأذى والسوء دون تضايقٍ أو انزعاج؛ إذ يجب ألا تدفعُكم تصرفات الآخرين وسلوكياتهم السيّئة وغير اللائقة إلى الابتعاد عن قيمكم الأساسية، يجب عليكم أن تُبرزوا شعورَ الرحمة والرأفة في كل آن وأوان.

والواقع، أن المؤمن الحقيقي مليءٌ بالرحمة والشفقة، ليس تجاه الإنسانية فحسب، بل تجاه الوجود كله، يخطو بحذر شديد حينما يسير في الطريق خوفًا من أن يَسحق ولو حتى نملة.. لا يُتوقع لأي شخص مليء بمشاعر الرحمة والعطف إلى هذا الحد أن يرضى للناس البقاء على الضلال، وأن يتجاهل دخولَهم النار، ولا سيما من يدرك مدى الجماليات التي يَعِدُ بها الإيمان، ويعرف جيّدًا ما تعنيه الجنّة والنار، لا يمكن ألا يُبالي بحالة أولئك الذين يسبحون في الكفر والضلالة، إنه يحاول أن يأخذ بأيديهم بحبٍّ ونشاط ومودة وعاطفة عميقة، وهذا الشعور يجعله حيويًّا وديناميكيًّا دائمًا.

وبالعبارات الآتية يُبين سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من يعامل الآخرين برحمة وعطف وشفقة يجد مثل ذلك من الله تعالى، فيقول عليه الصلاة والسلام: “الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ[3]، وبناءً على ذلك، فإنه بِقدرِ رحمة المرء بالآخرين وشفقته وعطفه عليهم تكون مكانته ومنزلته عند الله.

من المؤسف أن شعور الرحمة والشفقة من القيم المهمة التي فقدناها! في حين أنه خصلة إنسانية مهمة للغاية يحتاج إليها إنسان اليوم بصفة خاصة، فالبشرية اليوم ربما تحتاج إلى التعاطف والتراحم أكثر من حاجتها إلى الهواء والماء والغذاء.

مَن الذي لا يمتلئ بأحاسيس الرحمة والشفقة يستحيل أن يعيش من أجل الآخرين؛ ولا يمكنه التضحية بحياته من أجل إحياء الآخرين، علاوة على ذلك إنه لا يستطيع أن يلج قلوبهم، ولا أن يؤثر في مخاطبيه.. فمن يعامل الناس بغلظة وفظاظة يعود خاوي الوفاض محرومًا، أما إذا ما عُوملوا بلين ورحمة فإن الأبواب كلها تَتَفَتّح؛ فالرحمةُ مفتاحٌ سري عجيب يتعذّرُ على أيِّ بابٍ أن يستعصي أمامه.. والله تعالى سيفتح أبواب الجنة للناس بشفقتهم على الآخرين، والتي هي موجة من موجات تجليات رحمته سبحانه.

إن الوفاءَ بواجب التبليغ والإرشاد حقَّ الوفاء مرتبطٌ بالرحمة والشفقة الحقيقية، وبما أن هذه هي الحقيقة فالأصلُ ألا يحيد عن هذا الطريق رجالُ الإرشادِ في أي عصرٍ وزمان.

لا يوجد هناك سلاح أكثر بترًا في مواجهة الأعداء من الرحمة والشفقة، أولئك الذين يمتلكون هذا السلاح –وماذا تكون كلمة سلاح أمامها!- وهذا الإكسير السحري سينتصرون قطعًا -إن عاجلًا أو آجلًا- على أولئك الذين يعادونهم ويخاصمونهم، ومن المؤكّد أنهم سيخرجون رابحين على شتى الأصعدة، وسيكسبون القلوب والأفئدة، ولكنّ هذا الفوزَ له درجاتٌ متفاوتة، ولا يمكننا أن نتوقّع الشيء نفسه من الجميع، وحتى وإن أصبح بعضُهم يتقاسمون معكم المشاعر والأفكار نفسها كنتيجة للاهتمام والحب العميقين اللذين أظهرتموهما، فربما يصير بعضهم أصدقاء، وبعضهم مؤيدين لكم، وبعضهم متعاطفين معكم، وبعضهم قد يظلون في الأعراف حائرين مترددين؛ أي إنهم ربما يولونكم الأدبار في ساعة العسرة، بينما كانوا معكم في الأوقات اليسيرة الهانئة، ولكن هذه الأمور كلها مكاسب في حدّ ذاتها؛ فكثير من الناس سيُلقون أنفسهم في الأحضان المفتوحة بالمحبة، والشيء المهمّ أن يعرفوا أنّ المكان الذي سيُلقون أنفسهم فيه هو مكانٌ آمن.

إنكم إذا دخلْتم في القلوب وجدْتُم جموع المتطوّعين من حولكم، فمنافذُ القلب ليست ضيقة للغاية بحيث لا يمكن الدخول منها، الشيءُ المهمُّ هو معرفة كيفية فتحها، إن تفتحوا قلوبَكم للآخرين، ولا تبخلوا بأي شيء عليهم يفتح الآخرون قلوبهم لكم.. وإن تستطع الإنسانية الوصول إلى هذه السعة في التعامل والتراحم فلن تبقى مشكلة عصية على الحل.. فالمشاكلُ تتطوّر وتتفاقم في أرضيّةِ ضِيقِ أفقِنا.. ونحن نبني عالمًا ضيقًا، ونريد أن نرى كل شيء في داخل هذا النطاق الضيق، لذلك فإنه حتى الحقائق الواسعة إلى أبعد الحدود تتقلص حين تدخل في إطار عالمنا الضيق هذا! في حين أن القلب والضمير فيهما من السعةِ ما يكفي لاحتواء الوجود كله.

إن مهمة المهندسين المعماريين الذين سيُنشِئون المستقبل تتمثّل في أن يستطيعوا جمْعَ الناس حول القيم الإنسانية الكونية، وذلك من خلال الاستفادة الجيدة للغاية من هذه الفسحة والاتساع.


[1] صحيح مسلم، الإيمان، 346.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: سيرة ذاتية، ص 492.

[3] سنن الترمذي، البر، 16؛ سنن أبي داود، الأدب، 65.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts