أحيانًا ما تعترينا خيالاتٌ وأوهامٌ ومخاوفُ تؤدّي بنا إلى تضخيم المصائب الحالية وتهويلها وجعلِها عصيّةً على الحل والعلاج، وبذلك نحمل همّ البلايا والمصائب التي لم تقع بَعْد، والحق أنه كلما تسرب الخوفُ والقلقُ والوهمُ إلينا كلما تضخّمت مشاكلنا وتزايدت، وأعتقد أن هذه هي إحدى أعظم المشاكل لدى الكثيرين منا.
وكما ذكر بديع الزمان سعيد النورسي في “رسالة إلى كل مريض ومبتلى”[1] إنه من الممكن التغلب على العديد من المشاكل الحالية إذا واجهناها بكل طاقتنا وقدرتنا وإرادتنا وعزمنا، غير أننا بِتْنا مع الأسف نستنزف همتنا، ونستهلك طاقتنا في الخوف والقلق مما سيقع غدًا وبعد غد، كما أصبحنا لا نستطيع أن نركز فيما يجب اليوم بسبب انشغالنا بالتفكير في الماضي والقلق من المستقبل، ومن ثم نهمل الأعمال التي يجب القيام بها في الوقت الحالي.
بدلًا من الاشتغال بالسلبيات يجب اتخاذ التدابير الضرورية ووضع الإستراتيجيات اللازمة حتى لا نعاني من مثل هذه السلبيات التي عشناها في الماضي.
والحقيقة أن انشغالنا بالتفكير في الماضي والمستقبل ما هو إلا خيال محض، فثمة يوم قد مضى، ويوم لم يأت بعد، لكننا نخلط الحقيقة بالخيال، ونستهلك ثلثي صبرنا وطاقتنا في الجري وراء الخيال، ولذا نزيد عَبثًا ودون جدوى من ضجرنا ومعاناتنا.
وهكذا أوضح بديع الزمان كما أسلَفْنا كيف يتعامل المرء مع الأمراض التي يُبتلَى بها، محذّرًا المرضى من تحميل أنفسهم آلام الماضي والمستقبل، واستهلاكِ طاقة صبرهم بلا داعٍ، كما أشار إلى أن قوة الصبر والتحمل التي وهبها الله للإنسان كافيةٌ للتغلب على المشاكل والأمراض التي يعانيها.
لو أراد المسلمون التخلصَ من الوبال التاريخي ومن الخطايا الاجتماعية فنحن مجبرون على المضيّ قدمًا دون أن نشتت همَّتَنا أو نستنزف طاقتنا أو نخاطر بسلامة دربنا.
والأمر نفسه ينطبق على المشاكل الاجتماعية أيضًا، حيث يجب على الإنسان أن يركّز همّته على الأحداث التي يواجهها كما يفعل مع مشاكله الشخصية، ولكن إذا كان استخلاص الدروس والعبر من الماضي يحمل قدرًا كبيرًا من الأهمية فلا ينبغي أن يكون إحياؤنا لهذه الأحداث باستمرار سببًا في ظهور مشاكل جديدة.. من الواجب طبعًا أن نجهّزَ الخطط للمستقبل، ولكن لا ينبغي أن نجعل المشاكل المحتمل وقوعها في المستقبل تستنزف كل طاقتنا وقوتنا، حتى لا تصل بنا إلى حالةٍ لا نتمكن بسببها من القيام بواجباتنا المنوطة بنا في الوقت الحالي.
قوة الصبر والتحمل التي وهبها الله للإنسان كافيةٌ للتغلب على المشاكل والأمراض التي يعانيها.
فمثلًا أدّت الحملاتُ الصليبية قديمًا إلى قلبِ العالم الإسلامي رأسًا على عقب وتسبّبَتْ في أزمات عميقة خلال مدّةٍ تصِلُ إلى قرنين من الزمان، وحوصِرَت أبرز البلدان الإسلامية مثل مصر والعراق، وأصابها الدمار والخراب، وتجرعت الآلام والويلات، فإذا ظللنا نتحدث عن هذا في حِلِّنا وترحالنا، ونلوم أحفاد من فعلوا هذا بنا، فسنستهلك طاقتنا بلا داع، ونحرّك مشاعر الغضب التي بداخلنا، وندمر جسور الحوار التي بيننا.
علينا أن نعمل على عدم إحياء الحوادث السلبية التي وقعت في الماضي؛ بأن نهيل عليها التراب، ونضع أحجارًا ضخمةً فوقها، وأكرّر أن هذا لا يعني عدم استخلاص الدروس والعبر من الحوادث الماضية، فعلى العكس لا بد من ذلك؛ حتى لا نتجرع الآلام نفسها، ولا نُلدغ من الجحر نفسه مرة أخرى، ولكن يجب علينا عند فِعْل ذلك ألا نتسبب في خلق أعداء جدد أمامنا، أو نخل بسلامة الطريق الذي نسير فيه.
المهم هو القيام بالأعمال المنوطة بيومنا الحاضر؛ دون رثاء الماضي، أو تجرع آلام المصائب المحتمل التعرّض لها في المستقبل.
أجل، المهم هو القيام بالأعمال المنوطة بيومنا الحاضر؛ دون رثاء الماضي، أو تجرع آلام المصائب المحتمل التعرّض لها في المستقبل، والواقع أن المستقبل سيتشكّل وفقًا لهذا، علينا أن نفكر كيف يمكننا أن نتغلّب على المشاكل الحالية؟ وكيف نُسرع من خطانا؟ وكيف نتخلّص من الوصايات المتلاحقة التي تجثم على صدورنا؟ هذه هي الموضوعات التي يجب التركيز عليها اليوم.
فلو أردنا نحن المسلمين التخلصَ من هذا الوبال التاريخي ومن الخطايا الاجتماعية فنحن مجبرون على المضيّ قدمًا دون أن نشتت همَّتَنا أو نستنزف طاقتنا أو نخاطر بسلامة دربنا.. أما إذا كنتم تسيرون غاطين في استغراق وتفكير دائم، فتفكرون وأنتم تتحدثون، وتتحدثون وأنتم تفكرون؛ فسيخيل إليكم في كل زاوية من أمامكم غُولٌ دون إرادة منكم، وستُخِلّون بسلامة الطريق الذي تسيرون فيه، وتجعلون الظروفَ ثقيلةَ الوطأةِ عليكم؛ ولذا عليكم أن تتجنبوا الحديث على الدوام عن أيام المحن والشدائد التي تعرَّضْتم لها في الماضي.
علينا ألا نُحْي الحوادث السلبية التي وقعت في الماضي؛ بأن نهيل عليها التراب، ونضع أحجارًا ضخمةً فوقها، وهذا لا يعني عدم استخلاص الدروس والعبر من الحوادث الماضية.
فمثل هذا الأمر سيخل بتوازنكم العقلي والمنطقي كما أشرنا سابقًا، ويصيبكم بالضغط والتوتر دون داعٍ، ويؤثّر على أعمالكم المنوطة بكم الآن، وكلّما تذكرتم السلبيات التي عايشتموها ستتدهور معنوياتكم ويضعف حماسُكم، ويتعذر عليكم القيام بوظائفكم الحالية، ولذا لا بد أن نتجنب النبش في هذه السلبيات، وأن نتحاشى التحدث في مثل هذه الأمور التي لا تفيد الخدمة بشيء، بل إن ضررَها أكبر من نفعها.
وبدلًا من الاشتغال بمثل هذه الأمور يجب اتخاذ التدابير الضرورية ووضع الإستراتيجيات اللازمة حتى لا نعاني من مثل هذه السلبيات التي عشناها في الماضي، بل يجب أن نوصد الأبواب، ونغلق المصاريع، ولا نسمح بنفاذ فكرة الأغيار إلى داخلنا. أجل، علينا أن نقوم بما يجب القيام به حتى لا ينفذ أصحاب النوايا السيئة إلى دمائنا وأوردتنا؛ فيمتصّوا دماءنا ويمزّقوا أوردتنا.
علينا أن نتحلّى بهذا الخلق؛ عسى أن تتحرّك مشاعر الندم عند من ظلمونا، فيندموا على ما فعلوه بنا، ويأتونا معتذرين عما اقترفوه بحقنا، فإن التحدث بأسلوب دنيء، وإثارةَ بعض المشاعر لدى الآخرين، والإساءةَ إليهم، والتعاملَ بفظاظةٍ وغلظةٍ معهم؛ لا يُجدي نفعًا، لأن الفظاظة والغلظة لن تُقابل إلا بمثلها، ورأيي هو احترام الحقائق والوقوف في ثبات وشموخ بدلًا من اللجوء إلى الفظاظة والغلظة، ولا تنسوا أن هؤلاء لهم نصيب من احترامكم؛ لأن كل إنسان قابل لأن يكون مظهرًا لِأَحسنِ تقويم.
الحق أنه كلما تسرب الخوفُ والقلقُ والوهمُ إلينا كلما تضخّمت مشاكلنا وتزايدت.
يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/64)، وفي هذه الآية ينبّهُنا ربُّنا سبحانه وتعالى إلى التعامل برفقٍ ولينٍ حتى مع الخصوم؛ وهو أسلوب من شأنه أن ينفذ إلى أرواحهم، ويصبّ اللين والرقة في قلوبهم، فتهدأ نفوسهم وتلين قلوبهم هم أيضًا.
حاصلُ القول: علينا القيام بأعمالنا الحالية دون أن نشتت قوّةَ صبرنا أو نستنزفها بالتفكير في الأحداث السلبية التي مرت بنا في الماضي وما يُتوَقع حدوثُه في المستقبل، وعلينا أن نعمل على الانشغال بأعمالنا الحالية، بل وتلافي ما فاتنا في الماضي؛ عن طريق تركيز كل همّتنا وإرادتنا على وضعنا الحالي بدلًا من أن نُضعف حماسَنا وإرادتنا ونُحطِّم قوَّتَنا المعنوية بالتذمّرِ ممّا حصل في الماضي، واستهلاكِ الوقت والطاقات في تخمين وترقُّبِ المستقبل الغامض دون عمل.
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الخامسة والعشرون، ص 285.