لقد دار الزمانُ دورتَه ودالت بالأمم أيامُه ودولتُه حتى أصبحنا على مشارف قرن جديد منفتح على مفاجآت وألطاف من العناية الربانية. لقد كان القرن الثامن عشر -بالنسبة لعالم المسلمين- قرن المبتعدين عن جوهرهم المغمورين في تقليد أعمى؛ وكان القرن التاسع عشر، قرن الذين انجرفوا خلف شتى أنواع “الفانتازيات” وأعرضوا عن ماضيهم ومقوماتهم التاريخية؛ والقرن العشرون، كان قرن المغتربين عن أنفسهم كليا والمنكرين لذواتهم وهويتهم، قرن الذين ظلوا يُنقّبون عن مَن يهديهم وينير لهم الدرب في عالم غير عالمهم. ولكن جميع الأمارات والعلامات التي تلوح في الأفق تؤكد أن القرن الواحد والعشرين، سيكون قرن الإيمان والمؤمنين، وعصر انبعاثنا ونهضتنا (Renaissance) من جديد.
أجل، سيولد من بين هؤلاء الذين هجروا العقل والتفكير مندفعين خلف “موضات” فكرية دخيلة دون أي تمحيص، ومن بين الجماهير الفاقدة لوَعيها، الهائمة على وجهها، إنسان جديد بكل ما تعنيه الكلمة، يفكر ويقارن، يوازن ويدقق، يعتمد على التجربة قدر اعتماده على العقل، ويؤمن بالإلهام والوجدان قدر إيمانه بالعقل والتجربة. يتوق إلى الأفضل والأرقى في كل شيء، ويجيد القراءة الكلية والنظرة الشمولية. إنسان يسمو بالموازنة بين الدنيا والآخرة، ويتقن الجمع بين العقل والقلب فيمثل نموذجا فريدا.
لن تكون ولادة هذا الإنسان هينة يسيرة بلا شك؛ بل ستكون مصحوبة بآلام وأوجاع وصراخ وأنين، شأن كل مخاض. ولكن حين يأتي موسمها، فسوف تتم تلك الولادة المباركة حتما، ويظهر “جيل قَمَريّ الطلعة” بيننا فجأة كظهور الخضر . سوف يولد كما تولد الرحمة من بين سحائب اشتد بها الكرب فانكمشت وتراكمت وتقلصت ثم انهمرت؛ سوف ينبثق كما تنبثق المياه العذبة من باطن الأرض بعد طول معاناة تبعث الري والحياة؛ سوف يتفتح كما تتفتح أزهار الثلج حيث ينحسر الجليد تنتشر باسمة مشرقة؛ سوف يتربع على قلوبنا كما تتربع قطرات الندى على أوراق الزهور تتخذها عروشا لها زمن الربيع. أجل سوف يبزغ الإنسان الجديد لا محالة، إن اليوم أو غدا.
الإنسان الجديد صاحب “شخصية” قوية تسامت على المؤثرات الخارجية بشتى أنواعها، وصممت على نهوضها الذاتي وكفاءتها الذاتية. لن يستطيع شرق ولا غرب أن يأسره أو أن يضع سلاسل في قدميه، ولن تستطيع أفكار أو فلسفات تناقض جذوره الروحية أن تغير وجهته أو تحيد به عن طريقه أو تغرقه في ظلماتها، بل ولن تزحزحه قيد أنملة.
الإنسان الجديد حر في تفكيره، حر في تصوره، حر في إرادته، وحريته مرتبطة بقدر عبوديته لله . الإنسان الجديد لا يسعى إلى التشبه بالآخرين ولا يلهث وراءهم ليكون مثلهم، بل يسعى إلى أن يُشبِه ذاتَه، ويتزوّد بمقوماته التاريخية. الإنسان الجديد مشحون بالفكر، متوقّد بعشق البحث، مفعم بالإيمان، منفتح على الوجدان، متشبع بمواجيد الروح ولذائذها… يعمل على بناء عالمه بجهد منقطع النظير، مفيدا من إمكانات عصره إلى أقصى حد، مستوعبا -كذلك- قيمه الوطنية ومبادئه الروحية.
الإنسان الجديد يؤمن كما آمن أهل العزيمة من رجالات تاريخه المجيد، يفكر كما فكروا، ينطلق -كما انطلقوا- يحمل أنفاسه إلى كل مكان في العالم، يقتحم الظلمات -كما اقتحموها- يقذف الأنوار في قلبها. وهو إذ يؤدي واجبه بصدق لا يتخلى عن فكرة الحق في أي لحظة وفاء للحق. يتألم ويئن، يموت ويحيا من أجل إحياء الحق وإنهاضه، وإنه على استعداد -دائما- للتخلي عن الغالي والنفيس من أجل ذلك. سعادتُه الشخصيةُ ليست بغيتَه أو همَّه على الإطلاق؛ هَمُّه الوحيدُ ألا يهدر بذرة واحدة من البذور الصالحة التي منحها له الحق تعالى، ينثرها بعناية فائقة على سفوح العناية الربانية من أجل مستقبل الأمة القريب والبعيد؛ يرتقب مخاضا جديدا، يتلوى ويئن ويقلق كالطائر الحَضون، يبتهل إلى المولى في رجاء، يموت ويحيا في اليوم ألف مرة ومرة.
السير في سبيل الحق والفناء فيه غايته الوحيدة في الحياة، وانفلات هذه الغاية من بين يديه -في نظره- خسارة لا يمكن تلافيها.
الإنسان الجديد يستخدم جميع وسائل الاتصالات الحديثة؛ كتباً وجرائد ومجلات، وإذاعة وتلفازاً ومنشورات لكي يصل بمُثُله وتصوراته إلى العقول والقلوب والأرواح والمشاعر، ويُثبِتَ كفاءته مرة أخرى، بل ويسترد مكانته المسلوبة في التوازن العالمي من جديد.
الإنسان الجديد عميق في جذوره الروحية أيما عمق، غزير المواهب متعدد الاهتمامات في علاقاته مع العالم الذي يعيش فيه. إنه صاحب القول الفصل في كل ميادين الحياة من العلم إلى الفن ومن التكنولوجيا إلى الميتافيزقيا، وهو أهل خبرة ومراس في كل ما يخص الإنسان وقضايا الإنسان.
إنه عاشق لا ينطفئ ظمؤه إلى العلوم مهما نهل، مولع بالمعرفة ولعاً لا يفتأ يتجدد كل حين، عميق بأبعاده اللدنية تعجز العقول عن تصورها. وهو بهذه الخصال السامية مؤهَّل ليكون رفيق درب سعداء عصر السعادة (رضوان الله عليهم أجمعين) وينافس سكان الملإ الأعلى في سباق معراجي جديد كل يوم.
الإنسان الجديد متشبع بحب الوجود، حارس للقيم الإنسانية محافظ عليها. إنه ذاتي -من جهة- يحدد موقعه في الحياة ويبني ذاته على مبادئ الأخلاق وقيم الفضيلة التي ترقى بالإنسان لتُخرِج منه إنسانا حقيقيا، وكوني -من جهة أخرى- يستوعب الوجود كله بقلبه الكبير وشفقته الواسعة، ويسعى إلى إسعاد الآخرين دوما. يختار لنفسه كيف يكون، ويتأمل في إخوانه من البشر كيف يتعايش معهم، وفي الأشياء كيف يتعامل معها، يصمِّم من أجل ذلك خطة بعد أخرى ويضع فكرة تلو فكرة، ويشرع في تنفيذها حين تسنح الفرصة ويتوفر الإمكان.
الإنسان الجديد يحمي كل ما هو نافع وإيجابي في مجتمعه ويحث الناس على حمايته، يشنّ حربا ضروسا على كل ما هو ضار وسلبي، ويظل مشدودا كالقوس حتى يقتلع تلك الفيروسات من جسم المجتمع. إنه يؤمن حقا، ويعرف معنى الإيمان، ومن ثم يحث الجميع على تذوق حلاوته. العبادة -عنده- جمال وهو لسانها الجهوري. يقرأ الكتب التي ينبغي أن تقرأ ويوصي بقراءتها. يساند الصحف والمجلات التي توقّر جذورنا الروحية وأصولنا الذاتية. لا يبرح ينتقل من شارع إلى شارع آخر يحمل ما يحتاج إليه أبناء أمته يروّج له وينشره دون كلل أو ملل، ليضرب بذلك المثل الأعلى في تحمّل المسؤولية والقيام بحقها.
الإنسان الجديد يملك روحا إبداعية ترفض النمطية بكل أشكالها. يعرف كيف يجدد ذاته مع احترام الجوهر، ويعرف كيف يروّض الأحداث فتنقاد لكلامه راضية. يسير أمام زمانه على الدوام، يجري بهمة تتجاوز حدود إرادته، يحدوه الشوق والحماس، وتملؤه ثقة بالله عظيمة. إنه مثال للتوازن بين الأخذ بالأسباب والاستسلام لرب الأسباب؛ مَن رآه دون معرفة به، ظنه -من جهة- عابدا للأسباب في أخذه لها، أو ظنه -من جهة أخرى- قدريا في تركه لها كلية؛ بينما الحقيقة ليست هذه ولا تلك.. الإنسان الجديد، بطل التوازن بكل ما تعنيه كلمة التوازن من معنى؛ فهو يرى أن الأخذ بالأسباب من واجبه كعبد، والتسليم للحق تعالى من صميم إيمانه بمسبب الأسباب.
الإنسان الجديد فاتح ومكتشف معا. ينصب رايته كل يوم على أبراج جديدة في أعماق ذاته وفي آفاق الكون الشاسعة، ويلح على طرق أبواب الآفاق والأنفس دوما. وكلما اكتشف جديدا في ما وراء الأشياء -بفضل إيمانه وعرفانه- ازداد شوقا وتوقدا، وظل يتنقل بخِبائه من أفق إلى آخر في الماوراء وما بعد الماوراء. وأخيرا يأتي يوم تبوح له الأرض بما تخفيه في باطنها، وتنفلق البحار بعصاه السحرية تنثر بين يديه الدرر المكنونة في أعماقها، وتفتح له السماء أبوابها على مصاريعها تدعوه إليها تحية وتقديرا.