المجتمع المثالي هو الذي يتكون من أفراد مثاليّين. أمّا تلك الأكوام الهائمة المتخبطة التي تتشكّل أجزاؤها وجُزَيئاتُها من المساوئ والآثام، فهي حشود فارغة عقيمة مُوصَدة أبوابُها أمام كافة ألوان الخير والفضيلة والجمال.
الإنسان المثالي، أو الإنسان الكامل –كما عبر عنه القدماء- هو المتحلّي بصفات ملائكية.. هو بطل البصيرة وفارس الإدراك.. هو المنتبه إلى الحقيقة الكبرى التي عبرت عنها الآية الكريمة: •لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(التين:4) وآياتٌ أخرى في المعنى نفسه.. هو المدرِك يقينًا أن الباري قد خلقه في أجمل الأشكال المادية، وسوّاه في أروع الصور المعنوية، فكان بديع الصنع، متفرد الهيئة، تَصدُق عليه حقيقة •أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ بكل ما يعنيه التعبير.. وهو كذلك العارف بكنه الآية الشريفة التي تقول:
•إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ(الأحزاب:72)، الخبيرُ بمضامينها العميقة الواسعة.. إنه يعلم أنه المرشَّح الوحيد بين جميع الكائنات -المرئية منها والمعروفة- للعروج إلى آفاق لا نهائيةٍ، وهو واعٍ وعيًا تامًّا أنه مجهّز بِطاقات وقُدرات مفتوحة إلى اللامحدود، ومستوعبٌ سبل استثمار “المواهب الأولى” التي منحها إياه الفاطر جل وعلا.
أجل، إنه إنسان ذلك الوعيِ وتلك البصيرة.
ولهذا، فإنه بقدر تمكّنه من استثمار “مواهبه الأولى” التي وهبها له الباري منّة منه وفضلاً، وبقدر كدحه لإمضاء حياته تحت أنوار الوحي ولألاء الإلهامات، وجهدِه في توفية الإرادة حقها، وبقدر براعته في تنمية تلك المواهب وتفتيقها مثل حبة أنبتت سبع سنابل، ونجاحِه في إطلاقها نحو الأبدي اللامتناهي.. بقدر تمكّنه من ذلك كله يمكنه سلوك الصراط الهادي إلى ذروة “الإنسان الكامل”.
الإنسان المثالي يموج عقلُه موجَ الدوّامة بألف سؤال وسؤال، ويواصل التنقيب عن الحقيقة بنَهَم عجيب، ويغذّ السير قُدُمًا لكي يفكّ شفرة ألف لغز ولغز؛ تراه متوقّد الذهن متوثّب البحث عن أجوبة للأسئلة الكونية الكبرى: “ما الحياة، وما الموت، وما حقيقة الكون، وما علاقته بالإنسان، وما معنى العبودية لله، وماذا تعني الطاعة له، وما الإثم، وما الثواب، وما حقيقة المِحَن التي تُلمّ بالإنسان، ولماذا تُلمّ به؟”.. في الوقت ذاته تراه مشتعل الفؤاد.. قد شيّد من بوارق الحكمة التي لا تكفّ عن الوميض في سماء وجدانه، ومن نسمات الإلهام التي لا تنقطع عن تجلياتها في أرجاء روحه، صروحًا نورانية شامخة.. ثم سما حتى بلغ قمة تلك الصروح.. فأبصر كنه الأشياء، واكتشف ملكوتها، وأدرك ما طُوي منها وراء ستار المنظور.. فاتجه إلى المصدر الحقيقي للروح، يغمره الحبّ وتهزّه الهيبة نتيجة تقلبه بين مدّ الحيرة وجَزْر الانبهار.. ثم ذاب في نشوة من السكينة لا توصف، ولذة من الطمأنينة تسمو على كل تعبير.
إن روحًا قد وصلت تلك القمة السامقة لَيستوي لديها الإحسانُ والحرمانُ، لا تفرح بالألطاف المتعاقبة ولا تزهو بها، ولا تحزن بانقطاع العطايا ولا تيأس منها.. العطاء والحرمان في نظرها سِيّان.. إذ بينما يغترّ البعضُ بالعطاء فيطغى، أو يُحرَم منه فيتحسر يائسًا ويشقى، تجد تلك الروح الواصلة قد عرفت كيف تَستنبت الورودَ في قلب الفلاة، وتستخرج السكّر من جوف القصب، وتحقق أرباحًا متنامية حتى في مواسم الكساد والخسران.
أجل، حتى لو أصابت الإنسانَ المثاليّ أشدُّ المِحَن قسوة وفتكًا، وأحدقت به أكبرُ الدوامات رهبة وعتوًّا، فلسوف يرى نفسه سائرًا في ممرّ طويل من الامتحانات، ينتهي به إلى ألوان شتى من التوفيق المؤكد والفوز المبين، ولسوف يحس -في أسوء خطوبه وعند أصعب لحظاته- بنسمات من الأنس والسكينة القادمة من وراء الحُجُب تطوف في أرجاء روحه بِرقّة ونعومة، فيركع بين يدي الله تعالى خاضعًا منكسرًا وقد امتلأت نفسه بمشاعر الحمد والعرفان، وفاضت بأحاسيس الشكر والامتنان.
الإنسان المثالي، يمتلك ثقة لا حدّ لها، وطمأنينة لا غاية بعدها، لأنه يؤمن إيمانًا لا يخالجه شكّ بعناية القدرة المطلقة، ويوقن بأن الله قادر على كل شيء، وأن حكمه نافذ في كل شيء. وإنّ ذلكم الإيمان الصافي الرقراق المتجذّر في أعمق أعماق قلبه، وكذلك تصوّرُه ورؤيتُه وعقيدتُه التي أكسبت عالم روحه أبعادًا جديدة تتجاوز جميع مقاييس العقل.. كلُّ ذلك يرقى به إلى قمة تسمو على كلّ إحساس، وتتفوق على كلّ شعور. فلو تَمكّن في تلك اللحظة من أن يُنصت إلى ذاته بأذُن تعي تلك الأعماق، فلسوف يسمع همسات •أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(فصلت:30)، أو •سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(النحل:32)، ولسوف يَسبح في متعة أكرِم بها من متعة، ويغوص في نشوة ما بعدها نشوة.
هذا، ولأنّ الإنسان المثالي يؤمن بالدار الآخرة من كل قلبه، فسوف يُمضِي سِني عمره وينظم شؤون حياته وفق تلك الدار.. وسيبذل قصارى جهده لاجتناب كل جُرم أو مظلمة أو فساد.. ويظل في جهاد مستمر مع نفسه دون كلل أو ملل، ومن ثم فلن يسقط في براثن العبثية ومتاهة الإباحية أبدًا.. بل ستبقى عيناه متعلقتين بجمال السفوح الزاخرة بتجليات “الخليل” السرمدي و”الولي” الأبدي.. ويظل عقله في نشوة غامرة وقد وعى معنى الأبدية والخلود.. ويغدو قلبه روضة من رياض الجنان، تبتسم فيها الألوان الزاهية، وترفرف فوقها الأرواح الطاهرة غادية رائحة.. إذ يدرك حق الإدراك أنه ما جاء إلى هذا العالم العجيب إلا مسافرًا سائحًا، يشاهد الجمال، ويتأمل الكمال، ويتجول في أرجائه المترامية مشدوهًا مبهورًا.
وبينما يقضي “إنسان الجسد” كل حياته خلف ملذّاته الجسمانية، أسيرًا لرغباته النفسانية دون أن يبلغ ما ينشده من طمأنينة، فإن “إنسان الغاية” سعيد النفس مطمئن الفؤاد على الدوام.. فهو بطل الروح والمعنى.. نذر نفسه للإنسانية يخدمها بمعرفته وعرفانه، ونهض بشجاعة خارقة وعزيمة صادقة لإزالة الظلم من كل أنحاء الأرض.. فهو -إذا اقتضى الحال- لا يد له على مَن ضربه، ولا لسان له على مَن شتمه، بل يبسط جناح عفوه حتى على من لم يَعرِف قدرَه أو يقدّر صنيعَه.. وهو -إذا جَدّ الجِدّ- الصّوّال في ميادين الرجال، الجوّال في مواقع المقارعة والنزال ببسالة منقطعة النظير. ولو أن السيوف نالت من أطرافه قَطعًا وبترًا، والرماح دكّت جسده طعنًا وفتكًا، ولو أن الجراح أثخنته من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وصبغت ملابسه بصبغة العَلَم الأحمر، وتكسّرت رماحه في يديه، وباتت سيوفه لا تقطع.. أجل، حتى في تلك اللحظة، فإنه سوف يهمز جواده، مقتحمًا به الصفوف، طعّانًا للصدور، حصّادًا للرؤوس ومزلزلاً قلوب الظَّلَمة بزئير كزئير الأسود المزمجرة.
إن بطل الروح هذا، يؤمن يقينًا أن كل شيء ما خلا الله زائل، لذلك لا ينحني أمام أحد، ولا يركع إزاء أي شيء، ولا يغرّه أيُّ إغراء مادي؛ بل يقيّم كل ما يملكه، ويسخّر كل ما لديه لرفع كلمة الإسلام، مشحونًا بمشاعرِ رجال الآخرة وتصورات أبناء الخلود. فهو متواصلُ الغوص والتقليب في أعماق الحوادث والأشياء بحثًا عن الحق والحقيقة.. قد فرّغ كل وقته ووظّف كل طاقته لتحقيق سعادة الأمة، مولِيًا عناية خاصة بالمواقع التي يراها أشدّ حيوية وأكثر جدوى للأجيال القادمة، موقِفًا نفسه عليها قائلا: “لِتَحيَ الأجيالُ القادمة”.. ثم يمضي -وقد أدى واجبه- لا يلتفت إلى الوراء ولا يلوي على شيء.
إنه يسعى ليل نهار ابتغاء مرضاة الحق تعالى منقّبًا عن الصدق الخالص. فلا الرغبة في الاستمتاع المادي تثنيه عن وجهته، ولا تألقُ الروح بالكرامات الخارقة تعكّر صفاء نظرته. يؤمن أن العبودية لله أعظم قيمة في الوجود. وفي ضوء هذا الميزان يرى أبسط العِباد أعظمَ منه مرتبة وأسمى منزلة، وبالتالي يُنزلهم منزلة التاج من الرؤوس. وإذا ما لفحه هؤلاء بنيران من الغلظة والخشونة والإنكار وعدم التقبل، فإنه يمتص لفحَ تلك النيران ويحتويها في صدره إلى أن يَخمد أوارُها. وهكذا يقدم مثلاً أعلى في المنهج والسلوك، ويعلّم هؤلاء الذين لا علم لهم بالأصول ولا الأسلوب أدبَ درء السيئة بالحسنة. أجل، في عالمه الدافئ الناعم الرقيق ترِدُ الصواعق والبوارق على قلب من نور، فتولد من جديد وتنمو في قلب النور لتضيء العيونَ والقلوبَ بوهج النور.. وفي عالمه المبتهج بالأنوار تتحول ألوان شتى من النيران النمرودية المتعاقبة إلى برد وسلام في كل حين، لتنفح النفوسَ الخشنةَ المتمردةَ رقّة وأنسًا.
يبدو أننا -ولا سيما البعض منا- لم نفلح في السموّ إلى هذا المرتقى من الاستواء والنضج بعد. ولأننا كذلك، لا نحسن دفع السئية بالحسنة، بل نواجهُ العنفَ بالعنف، والحقدَ بالحقد، والخشونةَ بالخشونة نفسِها؛ بل ونقع في خطأ كبير عندما نظن أهواءنا أفكارًا، ونخلط بين عواطفنا الذاتية وكفاحنا الذي نكابده باسم الإسلام، ولذلك نتكبّد خسائر فادحة في أغلب الأحيان بعد أن كنّا سائرين في مواطن الكسب ومواسم الربح.
لولا جمال الإسلام الذاتي وجاذبيته الأصيلة، ولولا نفَسُ القرآن الذهبيّ الذي يبعث الحياةَ في النفوس.. لَتعذّر مع أدائنا الناقص الرديء، وتمثيلنا الواهي المتداعي، أن تَبلُغ هذه الأمانةُ المقدسةُ وتلك الدعوةُ النبيلةُ إلى ما بلغته اليوم.