يمثل الإنسانُ في هذه الدنيا قوتين مختلفتين عن بعضهما: الروح والجسد. وهما وإن اجتمعتا -حينا- لتشكّلا كيانًا واحدا متكاملاً، إلا أنهما متناقضتان في كثير من الأحيان؛ وإذا ما انتصرت إحداهما، فذلك يعني أن الأخرى مهزومة.
إن الروح في جسم استعرت فيه الرغبات وتأججت الأهواء، ضعيفة هزيلة، تأبى الانعتاق من رِقّ المتعة والهوى. أما إذا انتفضت على شهوات النفس ونوازعها، وفرضت سلطانَها على الجسد، وصار القلب سيدا على العقل، فإنها تتخطى ألف متاهة ومتاهة بقفزة واحدة وتبلغ “أفق الخلود”.
لا فرق بين المقابر وبين بلد انهار في ميدان الروح، حتى لو زُيّن كل ركن من أركانه بمئات من أقواس النصر. إن عالمًا لم يرتفع بنيانُه على أنفاس انتصارات الروح، ألعوبة في يد القوة الطاغية والجبروت الغاشم. وإن ثقافة لم تنمُ ولم تزدهر في البيئة الفاضلة للروح، ساحرة شريرة تقطع الطريق المؤدية إلى الأفق الإنساني. إن حشودا بشرية تعيش في بلد هذا شأنه، أشقياء بؤساء عُمي، لا يكادون يخرجون من أزمة حتى يقعوا في أزمة أخرى أشدّ بؤسًا وشقاء. ولكن هيهات لنفوس أنانية لا تفكر إلا في متعتها الذاتية، وعجزت عن ربط حياتها بقيمة “إسعاد الآخرين” أن تدرك هذا المصير الكالح الأليم.
آه… لو أفلح هؤلاء البؤساء -ولو مرة واحدة- أن يَفنوا أنانيةً، فيعرفوا سر التحليق نحو الخلود في “أفق الروح”.
إن الأبطال الذين ربطوا قلوبهم بأعظم الغايات وعمّروها بحب الإنسانية، قد ضبطوا ميزان طاقة القلب، وشحذوا عواطفهم للتحليق نحو أسمى الآفاق، وبلغوا الخلود في قرارة ذواتهم. هؤلاء السعداء الذين تخلصوا من العيش الحيواني بقفزة واحدة وتجاوزوا شهواتهم الجسدية، قد مكّنوا أرواحهم من التحليق، وقلوبهم من الرفرفة والتسامي، وحققوا انتصارات متعاقبة للروح في أبعادها الإنسانية رغم أنف النفس ونوازعها.
إن القويّ والمنتصر الحق، من قَوي على نفسه وهزمها، أما الأرواح الشقية التي لم تتخلص من أسر النفس ورغباتها القاتلة، فهي مهزومة حتى لو فَتحت العوالم كافة. فلو دانت لمثل هؤلاء الأرضُ كلها، من أولها إلى آخرها، محال أن يُسمَّى ذلك فتحًا؛ بل إن بقاءهم في تلك الديار لمدة طويلة، مستحيل.
عندما صفع “نابليون” العِلمَ والفضيلة في شخص الفيلسوف “فولني” مشدوها بجنون العظمة، ظنًّا منه أنه بات ملك العالم الأوحد، ليت شعري هل أدرك أن هذه الهزيمة في ميدان الروح، هي أشد مرارة وأعظم خزيًا له من الهزيمة التي مُني بها في “واترلو”؟
وإن “مرزيفونلي مصطفى باشا” قد مُنِيَ بالهزيمة في نفسه أولاً قبل أن يتعرض لها جيشُه في “فيينا” بكثير. تلك الهزيمة الأولى في تاريخنا -والتي بدأت في روح القائد ثم شاعت في الآفاق- لم تُطِح برأسه فحسب، بل علّمت أكثر الجيوش عظمة وشجاعة في العالم -يومئذ- ما لم يكن يعلمه حتى ذلك اليوم… علّمته الفرار. وكذلك قلب الأسد “يلديريم بيازيد خان”، لم ينهزم في “شوبوك” أصلاً، بل انهزم حين استهان بغريمه وحسب نفسه سلطان العالم الأوحد… وآخرون وآخرون.
بالمقابل، لم يكن “طارق” منتصرًا حقيقيًّا حينما انطلق بحفنة من أبطاله البواسل متجاوزًا برج هرقل، ثم متغلبًا على تسعين ألف جندي من جنود الإسبان. بل عندما وقف إزاء كنوز الملِك وخزائنه في “طليطلة” هاتفًا: “يا طارق، بالأمس كنتَ عبدًا، فصرتَ اليوم قائدا مظفرا، وغدًا تكون تحت التراب”. أجل، في تلك اللحظة كان منتصرا حقا.. لما زأر في نفسه بهذا الزئير، وحلق بروحه هذا التحليق.
كذلك السلطان “يافوز سليم”، ذاك الذي كان يرى الأرض ضيقة على مَلِكين، لم يكن فاتحًا حقًّا عندما كان يهز أرجاء الأرض بجيشه العرمرم، فينزع تيجان ملوك من على رؤوسها ويضعها على أخرى، بل كان فاتحًا حقًّا؛ عندما عاد من نصر “الريدانية” يحمل وسام سلطان العالم الإسلامي الأوحد، حتى إذا وصل أبواب إسطنبول، وعلم أن الرعية قد استعدت لاستقباله مصفّقة مهللة مكبّرة، أبى أن يدخلها حتى لا يرى هذا الاستقبال الفخم، وانتظر حتى جاء الليل ونام الناس، ثم دخل العاصمة بصمت وهدوء. بل كان قائدًا مظفرًا حقًّا؛ حين تلطّخت -أستغفر الله، بل تعطّرت- عباءته بوحل تناثر من حوافر دابة شيخه، فأوصى بأن تكون تلك العباءة غطاء لنعشه بعد موته.
وكذلك القائد الروماني “كاتون”، لم يكن منتصرًا حقيقيًّا عندما هزم جيوش قرطاج، بل كان منتصرًا حقًّا وفاتحًا تربع على عرش القلوب، حين قال بعد أن ردّ ملابس القيادة وأوسمتها وجيشُه يدخل العاصمة وسط هتافات النصر المدوية: “لقد حاربتُ خدمةً لأمتي، وقد قمت بواجبي، والآن أعود إلى قريتي”.
إن الجذور مهمة للأشجار في نموّها وامتدادها، وكذلك التضحية للإنسان، تضحيته المادية والمعنوية. فالأشجار تنمو وتمتد بقدر قوة جذورها، كذلك الإنسان ينمو ويمتد ويسمو حتى تلامس هامتُه أطراف السحاب بقدر تجرده من مصلحته الشخصية، وانسلاخه من حب الذات والأنانية، وإيقافه لنفسه من أجل الآخرين.
“لم أذق لذة من لذائذ الدنيا طوال حياتي التي تجاوزت الثمانين، لقد مضى عمري كله في ساحات الحروب وسجون الأسر وفي ميادين شتى من الآلام والمعاناة، لم يبق أذى إلا ذقته، ولا مرارة إلا تجرعتها. لا حبّ للجنة في قلبي ولا خوف من النار. لو أرى إيمان أمتي قد بلغ بر الأمان، فإنني أرضى أن أحرق في لهيب النيران. نعم، جسدي سيحترق ربما، لكن قلبي سيكون روضة من رياض الجنان” (بديع الزمان سعيد النورسي).
ما أعظمه من نشيد قدسي يبشر بانتصارات الروح!..