في تعرّج والتواء تمتد الطرق نحو الأبد.. وعلى هذه الطرق سائرون كمياه هدارة أو كسحب بكاءة مدرارة.. مندفعون كماء ينساب مسرعًا نحو المحيط، ناطحًا كل صخر يعترض مسيره.
إن الطرق بعدد أنفاس الخلائق، وكل كائن يُهرَع مسرعًا بدأب في طريقه نحو هدفه المنشود؛ فالدود يقطع طريقه زحفًا، والسلاحف في تؤدة، والخيول تطوي الطرق طيًّا، والطيور تقطعها سابحة في الفضاء، وللصواعق سياحة مختلفة، وللشموس حين تدور في أفلاكها جريان من لون آخر.
لكن الطريق الحقيقي ظهر مع الإنسان، وبشعوره أشرق نورًا، وبأفكاره وأحاسيسه حاز صفةَ “الأبدية”. والعجيب أن “اللاطريق” نشأ معه أيضًا بل لم يُخطئه ولو لحظة، رغم إلحاح الطريق على تنحيته من الوجود.
لم يخلُ عصر من العصور دون رحّال متجول في الآفاق بين النجوم والمجرات، أو دون متنكِّب بحثًا عن الطرق في المستنقعات.
والحقيقة أن الطريق لِمَن يشقّ الطريق ويعرف آدابه وسلوكه.. وإلا فالطريقُ وعدمه لمن تمر به الأيام وهو في هذيان يتجدد كل يوم سِيّانٌ. وأول الشروط لإحراز الأمان وبلوغ الغاية المنشودة أن تبادر إلى السلوك. فالسلوك بهذا الاعتبار لذيذ وباعث للأمل، بيد أن الطريق نفسه قد تعتريه ألوان من الصعود والنزول، وأنواع من الروابي والحُفَر، وأشكال من المصاعب والمصائب، خصوصًا طريقنا الذي نسعى فيه.
هذا الطريق طويل بعيد،
لا قليلَ المحاطّ بل كثيرٌ عديد،
عديم المنافذ عديم المعابر،
وماؤه للسالكين عميق وغائر. (يونس أَمْرَه)
فالسالكون الدربَ بعشق واشتياق خلف دليلهم، تذوب الجبال لهم قيعانًا مستوية، ويصير الحَزن أمامهم سهلاً، ويجتازون لجج الدماء والصديد بسرعة البرق، وينطفئ فَيح جهنم إذا مرُّوا بها.. لا مجال للحديث عن تعثُّرهم في الطرق، أو كفِّهم عن المسير ونكوصِهم عنه أو رجوعهم القهقرى، بل يسيرون من الخلق إلى الحق لا يحيدون، لا تطأ أقدامهم الأشواكَ حين يسلكون طرقها بل يطيرون، نظرتُهم إلى الموت نظرة الحبيب إلى الحبيب، فلا خوف عليهم ساعتَها ولا هم يحزنون، يدخلون قبورهم وهم فرحون مستبشرون.. لا يهابون القبر قطعًا، ولا ينظرون إليه كأنه دار وحشة أو معبر إلى العدم أو تنّين فاغر فاه، بل يرونه بابًا للرحمة وبرزخًا للنور وقنطرة للحق يفضي إلى “لقاء الأحبة”.. فلا يترددون، ولا يستسلمون للشكوك ولا يرتبكون.
وفي المقابل هناك بؤساء تخلّوا عن الهدف وتراجعوا، أو ضلّوا الطريق في نور الضحى، أو تعثروا بشوكة واحدة عرضت لهم، أو عجزوا عن تخطي ربوة صغيرة.
إن هؤلاء التعساء الذين حُرموا إدراكَ لذة المسير في الطريق، وظنوا أن “دار المحن” هذه أبديةٌ، فأزمعوا على الإقامة فيها.. هؤلاء لو فُرشت النجومُ تحت أقدامهم ليسلكوا الطريق فلن يَعني ذلك لهم شيئًا.
إن لكل طريق لذته، وله أيضًا وعثاءه ومحنته، خصوصًا مثل ذلك الطريق الذي يعانق الخلود ويتحد مع الأبدية.
ليست السعادة الدائمة منحة توهب بلا ثمن، وليست النعم الممتدة لقَطةً على قارعة الطريق ملقاة. فالسعادة لا ينالها إلا من عبر الفيافي واجتاز شواهق الجبال. والنعمُ لا يحظى بها إلا من صمد حتى المحطة الأخيرة في طريق طويل له مئات المحطات.
نعم، إنما تنمو النعمة في طرق تغدو فيها المحنُ وتروح، وتتأتى السعادة بعد سيل من صنوف الحرمان. فإذا كان مُلك مصر يتطلب الإلقاء في غيابة الجب كالدِّلاء، والتجوالَ في أسواق العبيد كالأرقاء، والزجَّ في السجون كالمجرمين الأشقياء، فلن يكون بمقدور أحد أن يبدل ذلك، وليس له أن يحقق الغاية دون تذوق هذه الغصص وتجرعها.
فمن ذا الذي يَقْدِر على تغيير الطريق الذي شقته “يد الحكمة”؟ إن محاولة ذلك تَعني إعلان الحرب على الفطرة وضد طبيعةِ الأشياء.
آهٍ لو أمعنتم النظر في هذه السحابة المركومة، وفي أنَّات الأم تعاني آلام المخاض، وانتبهتم إلى هذه العصفورة تبني عشها في جهد حثيث، وتلك العنكبوت تنسج بيتها بألف صعوبة وصعوبة!
وهكذا روح الإنسان.. فمنذ اليوم الذي هبط وانتكس إلى قلب المادة لم يزل يتقلب من قالب إلى آخر أملاً أن يعود إلى أصله؛ فيَرى المعاناةَ، ويَسمعُ المعاناة، ويعاشرُ المعاناة، ويتوحد مع المادة في سبيل نسج سعادته الأبدية.
إن الإنسان خُلق للمحن، وهو ابن سبيل مكابدٌ، ينتظره في طريقه سيلٌ من المحن والمعاناة. وبُطولته الحقيقية منوطة بتخطيه لهذه المصاعب التي تعترض طريقه.
فآهٍ ثم آه! ليتنا استطعنا أن نُسمِع كل هذه الحقائق لروح إنساننا، ليتنا تَحدَّثْنا له عن الطرق الشائكة التي ستقابله، وكلّمناه عن أنواع المظالم والجَور والوحوش الكاسرة التي ستقطع طريقه، وعن صنوف الوحشة التي سيلاقيها، حتى نُطْلعه على الوجه الحقيقي لواقع الأمر.
نعم، لن يكون من قبيل المجاز إن قلنا: لا مناص للعشاق المتيمين سالكي الطريق من البلايا والمحن، فذلك للمهمومين المغمومين أساس في طريقِهم. لقد بات من الضروري أن نجلّي تلك الحقيقة لمن يسعون جاهدين في سبيل خدمة أمتهم. وما لم يدركوا كنهها فلا سائر هناك ولا طريق.