Reader Mode

لو أرى إيمان أمتي في بر الأمان،
أرضى أن أحرق في لهيب النيران،
جسدي سيحترق ربما،
لكن قلبي سيغدو روضة من رياض الجنان.. (سعيد النورسي)
سنين وسنين ونحن في توق إلى إنسان ينقذنا.. إنسان يضمِّد جراحنا، يكون بلسمًا شافيًا لعللنا وأدوائنا. لقد غدت حاجتنا إليه كالهواء، والضياء، وماء الحياة، ولا سيما في هذه الأيام التي اكفهرت فيها الأجواء، وأطبقت علينا الدنيا بظلماتها، وتعقدت الطرقُ أمام أعيننا. مهما يكن، سنظل نسأل عن “محبوبنا المنتظر” كلَّ إنسان، ونشدو بألحانه في كل مكان، حتى لو شارف رجاءُ الوصل على الانطفاء.
كان “ديوجين” وقد بلغ به اليأس مبلغا رهيبا، لا يفتأ يشكو من “قحط” في الرجال أصاب مجتمعه. ليت شعري، هل تمتلك مجتمعاتنا شجاعة كافية لتعترف بهذه الحقيقة المريرة؟ إننا كأمة في أشد الظمأ إلى شيء؛ إننا ظامئون إلى “إنسان مثالي” يضمنا إلى صدره بحنان، يخفف عنّا آلامنا، ويخلّصنا من رغبات قاتلة، هِمْنا بها وأدمَنّا عليها.
إن غياب هذا الإنسان الذي نبحث عنه هو سبب جميع المآسي التي اكتوينا بنارها طيلة السنين الخوالي حتى اليوم. أجل، غياب “الإنسان المُعاني” الذي ينسى متعة الذات في سبيل مَنْح الحياة؛ هامتُه كالجبال الشامخة تحيط الغيوم بقممها، وقلبه كتلة من الجمر تغلي فيها الحمم وتفور.
بالله عليكم، كم فردًا من هذا النوع قد ظهر في تاريخنا القريب؟ كم فردًا استوعب الغاية من الخلق وأدرك المعنى الدقيق لأمانة الاستخلاف في الأرض؟
الإنسان الذي نبحث عنه هو فارس قلب قبل كل شيء.. هائم بديار “القرب” وعوالم “السموّ”، عاشق للحقيقة، يفتش عن حلول لجميع الألغاز التي تواجهه في كل لحظة من لحظات الحياة، يسأل كلَّ جزء من أجزاء الوجود، يحاول أن يظفر بجواب لكل سؤال من آفاق الغيوب الفسيحة.
أجل، إنه عاشق للحقيقة، ينقّب عنها يتتبع أثرها كمن يتتبع أثرَ الخضر يريد ماء الحياة؛ وإذا ما وجدها عبّ منها حتى ارتوى ونال نعمة “الخلود”، وشيّد عالما من الإيمان والحب في “خلية العرفان” التي أنشأها في قلبه؛ إنه سماويّ نحو الخارج لدنّيّ نحو الداخل، لسانٌ للأسرار الكامنة في ثنايا الأشياء والطبيعة، ترجمان للروح والوجدان، فاتح لجنّات أحرزها واحدة تلو الأخرى بغزارة عقله ونفاذ إرادته.
لم يستطع عابثون أضاعوا أعمارهم دون أن يُولُوا “الحقيقة” أدنى اهتمام، ولا أشقياء لم يجيدوا قراءة كتاب الكون، ولا سُّذّج عاشوا في غفلة عن أعماق عوالمهم الداخلية و”قضية الإرادة” وتوفيتها حقها، أن يملؤوا مكان الإنسان الذي نتوق إليه ونترقب طريقه. المؤسفُ أنه قد ظهر -في فترات مختلفة- أعداد كبيرة من الممثلين الزائفين، استغلّوا فراغ الساحة من الأبطال الحقيقيين وتمكنوا من خداع الأمة والعبث بها؛ بيد أنهم لم يستطيعوا أن يحظوا بمكانة في قلبها أو أن ينالوا ثناء “الإنسان المرتقب” منها.
إن الإنسان الذي تتوق الأمة إلى الهُيام به، رجل فكر يصطاد درر المعاني بتأملاته العلمية، يسمو إلى عالم الملائكة، يتوحّد مع ذاته، يعرف كيف يصبح شمسا بعد أن كان ذرة، ويصير بحرا بعد أن كان قطرة، ويغدو كُلًّا بعد أن كان جزءا، ويتخلص من انفصام الشعور والأشياء. رجل فكر يقرأ ويفهم؛ بالعرفان يتصفَّى، وبالإيمان يكتشف سر التسامي، وبالأذواق الروحية يستنزل جنات النعيم إلى قلبه.
إن ذلكم الإنسان المرتقب الذي زين قلبه بكل هذه المعاني السامية قد جمع في قلبه بين معية الحق (سبحانه) ومعية الخلق؛ تنضح تصرفاته صدقا وإخلاصا، وتتعالى نغماته حرّى بأنة من أنات الأمة.
لا سلطان للأنانية على المشاعر لديه؛ لا غرور عند النجاح، ولا هتاف عند النصر؛ بل يخفق صدره بأنبل المشاعر وأسمى الأفكار حين يصل إلى قمة التسامي وذروة النجاح. لا تُلوِّث المنافعُ الشخصية ولا المصالح الفئوية أُفقه الطاهرَ قط، ولا يعكر صفاءَ نظرته حقد أو كراهية. إن أعظم غاية في حياة “بطل العرفان” هذا، أن يحب ويصفح ويصبر على ما يصيبه من أذى وإساءة ممن يُحِبّ.
أما أولئك الذين يريدون أن يحققوا السعادة التي وعدوا بها الإنسانية عن طريق الفساد وسفك الدماء، فهم سفهاء قد سلكوا سبلاً ترفضها جميع الكتب السماوية وتنكرها كل الديانات.
ليت إنساننا يدرك زيف هؤلاء الأقزام المتثاقفين!.. عسى أن يصرخ -وقتئذ- في وجوههم قائلا: “هيا اغربوا من هنا!”، ولكن هيهات! إنه يبدو -اليوم- بعيدًا جدًّا عن إبداء موقف بطولي كهذا.

فهرس الكتاب

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts