Reader Mode

قراءةُ ما كَتب الأستاذ فتح الله كولن في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية، لا تعدو أن تكون إمَّا ضربا من ضروب الجنون، أو لونا من ألوان الإيمان:
جنونٌ؛ لأنَّ كلَّ ما يصدر عن الأستاذ من أفكار تكاد تجد نفسها غريبة عن زمانها، مثالية على ما يبدو أكثر مما اعتاد الناس، أو واقعية أبلغ مما تخيله الناس؛ إذن هي أفكار غريبة ليس لأنها جاوزت نصابها، أو انحرفت عن خطها؛ لكن لأنَّ الناس مالوا وانجرفوا، فابتعدوا عن المركز “كأنهم لا يعلمون”.
وإيمانٌ؛ لأنك تكاد تلمس لهيبا حارقا وأنت تمارس عملية الفهم المضنية لما ترسمه يد الأستاذ وهو يبدئ في واقع الأمة ولا يعيد؛ واقع مرٌّ مريرٌ، وسرابٌ يحسبه الظمآن ماء “حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ”.
وفي كلا الحالين، إذا كنت صادقا، فإنك تُصدَم بالهوة الشاسعة بين ما سطّره الأستاذ من مفاهيم، وقواعد، ومناهج، وخطط… وما تسير عليه “رتابة الحياة” و”حياة الرتابة” من اعوجاجٍ، وخلط، وتخبط، وتهريج: “وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ”.
كتاب “الغرباء”، ليس كتابا من الكتب، وليس مقالا ضمن المقالات، وليس سِفرا يُلحَق بالأسفار؛ وإنما هو واحة ودوحة، جنة وجنان، سماء وأرض، ماء وخضرة، حبٌّ ووفاء، صبر واحتراق، سماحة وسلام، بكاء وألم… هو مزيجٌ من المعنى لا يملك العقل إدراك مداه، ولا القلبُ الغوصَ في قاعه؛ إذا لم يكن عقلا فطنًا مؤيَّدا بالوحي، وإذا لم يكن قلبًا حيًّا مشدودا إلى الفردوس الأعلى، مشدوها متوترا بما كان وما سيكون… عقلا لا يستظل نهارا إلا بشمس القرآن الكريم، وقلبا لا يسري ليلا إلا تحت ضوء نبي القرآن .
الغرباء، أوله “دموع تُكَفكَف”، وأوسطه “انتصار للروح، ومكابدة للفكر”، وآخره “انبعاث جديد، وغد وليد”؛ وما بين ذلك تشريحٌ للقوة في مقابل الحكمة، وتمليحٌ للمعقولية في مواجهة العاطفة: “أجل، القوّة طاقة كامنة تستطيع حل بعض المشاكل عندما تكون في يد الحقّ وتحت إرشاد المنطق والمحاكمة العقلية”، أمَا وإنها تحولت “أداةً للتدمير والتخريب في يد الفكر الغاشم المتهور الذي يدور في فلك العاطفة العمياء” فإنَّ النتيجة الحتمية التي لا مهرب منها ولا مناص هي “انهزام الحق والمنطق والمحاكمة العقلية جميعًا في أيامنا هذه أمام القوة المجنونة ووقوعُها في حالة من الأسر”.
ولكن، هل حيال ذلك الانتكاس المخزي نستسلم، ونلقي بالمنشفة البيضاء على الحلبة، مبشرين بـ”نهاية التاريخ”، رافعين راية “قيام الساعة”، معترفين بـ”الهزيمة النكراء”؟
كلا وألف كلا، ولقد أعلنها صاحب “مجانين أريد”، وهو يرسم صورة قلميةً للغرباء الذين سيفتحون العالم إن لم يكن اليوم فغدًا، سواء أدرك الناس ذلك أم تعاموا عنه، فهِموا المغزى أم أدبروا عنه، أرادوه أم وقفوا في وجهه… سيان: لا فرقَ، ولا أثرَ، ولا اعتبارَ…
فالفرق يصنعه الحق لا الباطل،
والأثر يحققه الخير لا الشر،
والاعتبار هو للإيمان لا للكفر…
يقول أول الغرباء -في هذا العصر- وهو يصف من يقف وراءه -أو إلى جواره- من جندٍ صادقٍ صالحٍ متحفزٍ، يقول مقولة الموقن الغيور: “إن هذا العالم لا يمكن أن ينجو من هذه الهوة السحيقة التي سقط فيها، إلا على أيدي أناس تربّوا على قيمهم الأصيلة، أناس ذوي أرواح فتيّة وعقول متوقّدة، نذروا أنفسهم للحق تعالى، وحملوا همًّا مشتركًا، واتجهوا نحو غاية واحدة، لا يرجون نفعًا ذاتيًّا، أناس ذوي إرادة وعزم، ساعين في الخدمة الإيمانية بكل جدّية، عازمين على تخطي جميع المصاعب والعقبات، أبطال للعلم والمعرفة والإرادة، لا يبتغون جزاء ولا شكورًا سواء في الدنيا أو في الآخرة”. ثم يردف مؤكدا ومؤمِّلا: “لقد عشنا حتى الآن على أمل قدوم هؤلاء الأبطال، وسنبقى في انتظار قدومهم ما حيينا”.
بهذا النداء الأزلي يُختَم كتاب الغرباء الذي أُعِدَّ للقارئ، في هذه الأيام العجاف… ولكنه أُعِدَّ ليوم “فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ”. ويعد كتاب الغرباء الحلقة الثانية من سلسلة كتاب نسمات، فقد صدر الكتاب الأول من هذه السلسلة بعنوان “مواقف في زمن المحنة، حوارات إعلامية مع فتح الله كولن”. كتاب الغرباء هو مجموعة مقالات للأستاذ فتح الله كولن نشرت في مجلة حراء الغراء في أوقات متفاوتة بدءا من صدورها عام ٢٠٠٥ إلى شهر مارس عام ٢٠١٨، وهي أربعون مقالا جُمعت للمرة الأولى بين دفتي كتاب مستقل، على الرغم من أن بعض مقالات الأستاذ كولن المنشورة في حراء يمكن أن يجدها القارئ في بعض مؤلفات الأستاذ المطبوعة. فقد تم ترتيب المقالات وفق الترتيب الزمني الذي نشرت فيه لأول مرة باللغة التركية، عسى أن يفيد ذلك في استشفاف السياق الزمني الذي خرجت فيه إلى الوجود.
كتاب الغرباء هديةٌ من مهجة ملتاعة، وأمانةٌ من شهم مهموم؛ وراية مرفوعةٌ من رجل عرفَ الحق فلزمه، وعرفَ الباطل فهجره، وعرف الـحُفَر فاحتطاط منها، وعرفَ المبتغى فسارع إليه، وعرفَ الله  فتعلق به وحده، وشعاره في ذلك لا يتخلف ولا يبرح:
•وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا(النساء:100).

فهرس الكتاب