لا ينجز الأفكارَ العظيمة والغاياتِ السامية والمشاريعَ العالمية الكبرى إلا عُشّاق مُتيَّمون، فاضت صدورهم بأشواق أخروية غامرة، وتَمرَّسوا التحليق في الأعالي دومًا بنَفَس طويل، وغَذّوا السير في الدرب دون أدني تخفيف لسرعتهم، ورابطوا في مواقعهم بثبات لا يعرف الفتور.
إننا اليوم لسنا بحاجة إلى هذا أو ذاك، نحن بحاجة إلى أبطال يجيدون التفكير بهذا المستوى الراقي، يَفيضون إيمانًا ويقينًا، يُنزِلون أفكارهم إلى الواقع، يُخرِجون أمتهم أولاً، ثم البشرية كلها من الظلمات إلى النور، فيهدونها إلى الحق سبحانه.. إننا بحاجة إلى أرواح نذرت نفسها للحقيقة.
أجل، إننا بحاجة إلى أرواح تفكر فيما يجب التفكير فيه، وتعرف كل ما ينبغي معرفتُه، تُحوّل ما عرفته إلى واقع فورًا، وتحثّ الخطى بعزم لكي تُعِدّ جميع الأرواح الميتة لبعث جديد وكأنها إسرافيل قد التقم الصورَ بفيه.. أجل، بحاجة إلى أرواح تجوب الأرجاء كلها تنفخ الحياة في جميع النفوس، صدّاحة بمواجيد روحها ليل نهار، مترنّمة بمشاعرها الوجدانية في كل سانحة وبكل وسيلة، فإن كانت تملك قدرة بيان فببيانها، وإن كانت تجيد استخدام القلم فبلسان قلمها، وإن كانت منفتحة على علوم الجمال فبزخارف إحدى الفنون الجميلة وخطوطها، وإن كانت شاعرة فبسحر شعرها، وإن كانت موسيقية فبألحانها الأخاذة ونغماتها الآسرة.. أجل، إننا بحاجة إلى أرواح اتصل لسانُها بأعماق قلبها، وخفق قلبها بإخلاص وتفان للحقيقة العظمى.
وإذا أردنا أن نقيّم هؤلاء الأبطال انطلاقًا من النماذج التي نشاهدها في مسرح الواقع اليوم، نجد أنهم ينظمون رحلات إلى أرجاء العالم كلها وكأنهم ذاهبون إلى الحج، يتوّجون رحلاتهم بروح “الهجرة”؛ يهمسون في وجدان كل من يمرون به معاني رفيعة من لسان الحال وبيان القلب، ويتمتمون بألحان المودة حيثما يحلّون، ويوقظون شعور المحبة فيمن يلتقون، يُقبِلون على القلوب يقيمون فيها عروشًا من الحب.
بهم تحيا الأرواح الظامئة إلى الحب، وإليهم تنصت القلوب التي بُعثت من جديد. إن السعداء الذين شدوا رحال الهجرة مفعمين بهذه المشاعر، وكذلك الذين فتحوا لهم قلوبهم، بعيدون كل البعد عن كل ما يمتّ إلى الدنيا بصلة، فهُمُ الإخلاص والإخلاص فقط. فلا مكان للمصلحة الذاتية قطعًا بين من يُبلِّغ ومن ينصت إليه، وبين من يقدم المعنى الكامن في جوهره ومن يتلقاه، وبين من يحمل كأس الحياة ومن يجمع شمله ويستعيد وعيه، وبين من يقدم المعونة ومن يستقبلها، إنما هي ابتغاء مرضاة الله ولا شيء غير مرضاة الله تربطهما. إن هذه العلاقة العميقة المنبعثة من صميم الوجدان، تستند على القيم الإنسانية العالمية كليًّا، وتنبع من التوقير المشترك لهذه القيم السامية.
إننا في الحقبة القريبة من ماضينا، نسينا بالكامل أن لنا جذورًا روحية محكمة نرتبط بها، وأننا أقمنا حضارات زاهرة عديدة على مدار التاريخ، وبدونا لمن ينظر إلينا كأننا أمة لا ماضي لها. والأنكى من ذلك أن شعورًا بالنقص أصابنا، فأنكرنا ذاتنا وأنكرنا ماضينا دفعة واحدة، بل بات بعضنا يخجل من هويته الوطنية.
ابتعدنا عن ذاتنا يومًا بعد يوم حتى صرنا أسرى لقيم أجنبية. فوا حسرتاه على أمة كانت في ماضيها المجيد تفكر وتناقش وتعبّر عن رؤاها الذاتية وتنقش عقيدتها وقيمها الجمالية على معالمها التي شيّدتها في كل مكان مرت به، فخلّدت ذكراها الجميلة على صفحات التاريخ.. ووا حزناه على أمة تهاوت من قمم المجد والشهرة والازدهار إلى حضيض النسيان والمجهول والحرمان من كل أنواع التوقير والتبجيل!
لم تكن هذه الأمة تستحق هذا المصير الحزين، ولم يكن لهذا المصير المشؤوم أن يستمر إلى الأبد. كيف، وقد حوّلت هذه الأمة حُفَر الموت إلى مسالك انبعاث خمسين مرة حتى اليوم، واستبدلت أوضاعًا سيئة تبدو هلاكًا وانقراضًا إلى وسائل للتجدد ألف مرة، وأبدت كفاءة خارقة في كل وقت -رغم ممانعة أصحاب المنافع من “رجال الأبدان”، وإخوان المصالح ممن يلهثون وراء المتعة اليومية، وجماعات الإنكار ممن يهينون قيمنا الوطنية والدينية تعصبًا وكفرًا- فأنشأت مناهج وأساليب جديدة للسير قُدُمًا نحو المستقبل المضيء، واستوت على قَدميها عقب كل هزة واستأنفت سيرها من جديد، ونجحت في الإبحار بأفكارها ومشاعرها ورسالتها إلى جميع أنحاء العالم.
إن فرسان النبل والشهامة هؤلاء قد نأوا بأنفسهم عن بريق الشهرة ووهج الجاه، وأغلقوا أبوابهم أمام كافة ألوان التفاخر والتباهي، وسموا بجناحي التواضع والانمحاء، وتزيّوا برداء الأمن والصدق والوفاء، وصمدوا أمام رغبات النفس وأهوائها صمود الأبطال، وصاروا حواريي تعريفِ العالم بقيمنا الدينية والوطنية مشحونين بوعي تاريخي ورثوه عن آبائهم، وهتفوا هتاف الأوائل قائلين “سلكنا دروب الحب، لا نبتغي شرفًا هناك ولا غرورًا” فاختاروا التعب على الراحة وسجّلوا أحد أهم إنجازات هذا القرن.
إن الورود التي بدأت تزدهر في كافة أنحاء العالم اليوم، استمدت ألوانها من ذوي الوجوه القمرية هؤلاء ومن المعاني التي يحملونها في وجدانهم؛ وبدأت الجغرافيا الاجتماعية على مستوى العالم تنتسج وفق منسوجاتهم الفكرية انتساج قماش مطرّز بديع، والبشرية كلها تترنم بألحانهم الأصيلة التي لا تَهرَم ولا تبلى. إن مشاعرهم الطاهرة وأفكارهم النقية تلك قد تبدو لدى الناظر إلى بداياتها قطرات صغيرة، ولكن من يدرك روح الموضوع ومعناه، يعلم أنها تتضمن بحارًا واسعة تموج بهِبات جميلة ومفاجآت شتى في كل حين.
إن فرسان النور هؤلاء عملوا على إضاءة ما حولهم فقط في حقبة معينة وفقًا لطبيعة الأشياء. أما الآن فقد أطلقوا قواهم الحقيقية الكامنة وطاقاتهم الروحية، وغدوا فرحة وبسمة وأملاً ومحبة، وانهمروا على كل مكان انهمار السحب المثقلة بالغيث، واندفعوا بحماس متَّقد يحوِّلون قلوبًا قاحلة ظامئة للحب والتسامح إلى جنات فردوسية.
إن الكرة الأرضية اليوم -من أولها حتى آخرها- حامل بربيع جديد، فرحة جَذْلى بولادة مباركة قريبة نتيجة البذور التي نثرها هؤلاء الأخيار في كل أطرافها. البشرية كلها مبتهجة نشوى ببشائر حملتها نسائم إرهاصات هذه الولادة المرتقبة. المعنى الذي ينبض في القلوب واحد، وإن اختلفت الأصوات والنغمات، والنسمات التي تهب في ساعات السَّحر تحمل إلى أيوب خريرًا عذبًا من نهر ماء الحياة، وإلى يعقوب رائحة إبراهيمية من ثوب يوسف.
إن هذا يعني عودتنا إلى مسرح التاريخ مرة أخرى، وإقبالَنا نحو موقعنا الحقيقي من جديد، كما يعني رسالة انبعاث بديلة للإنسانية جمعاء. علمًا بأن الأمم التي كانت -ولا زالت- تضطرب وتئن في دوامة من أزمات مختلفة، كانت تترقب هبوب نسمات كهذه تحمل بشائر الأمل إليها. طوبى لأهل السعد من الأبطال الذين يتولون الريادة في هذا البعث فيحركون تلك النسمات! طوبى لمن فتحوا قلوبهم لنفحات البعث تلك مترقبين وصولها!
إننا نؤمن يقينًا بأن وجه العالم كله سيتغير بألوانه وزخارفه يومًا بفضل الجهود التي يبذلها أولئك الأبطال الذين تشع قلوبهم محبة، والذين نذروا أنفسهم لإقامة صرح القيم الإنسانية، وتلتقط البشرية أنفاس الطمأنينة والسلام. ومن يدري، لعل الفكر الإنساني في عالم المستقبل يتوهج معهم سطوعًا وإشراقًا للمرة الأخيرة، وتجد الآمال الإنسانية طريقها إلى الواقع، وتتحقق جُلّ أحلامنا بهم رغم أنف ما رُسم في كتب اليوتوبيا من مثاليات. أجل، سيتحقق هذا يومًا لا محالة، وعندما يحلّ الموسمُ، سوف يجثو ذوو القلوب الخاوية والحظوظ النكدة على ركبهم بين يدي تلك الأرواح المشرقة، يطلبون العفو منهم والغفران، نادمين على ما أجرموا، ساكبين الدمع على ما اقترفوا. ولكن هيهات أن يتداركوا الفرص التي أضاعوها. ليت تلك الأرواح الغليظة المتسربلة بمشاعر خسيسة وأفكار متمردة وتصرفات رعناء خشنة، رجعوا إلى أنفسهم؛ وقفوا عند الحق، وقدّروا المعروف، وتحلّوا بالإنصاف قبل أن يحلّ اليوم الذي يتقلبون فيه بعذاب الضمير دون أن يجدوا لأنفسهم مخرجًا ولا حيلة.. ليتهم أنصفوا بعض الشيء ولم يدمِّروا مستقبلهم.
هؤلاء الأبطال الأسطوريون تشبَّعوا بروح الإيثار والتضحية والفداء التي امتاز بها الصحب الكرام، يحثّون الخطى دومًا ليصلوا بالنور إلى كل ركن من أركان العالم، يكبحون جماح أنفسهم في حب الاستمتاع بملذات الحياة، ممتلئين بمشاعر البذل والعطاء لمنح الحياة للآخرين. وإذ يفعلون ذلك لا تلمح أثرًا للفخر أو العجب في سلوكهم، بل تفيض أطوارهم تواضعًا وانمحاء؛ يضربون أمثلة في النبل والشهامة قلّ في التاريخ نظيرها، بما يُبدونه من حماس لا يخمد، وإقدام لا يعرف التراجع، وأشواق لا تخبو، واندفاع خارق في خدمة الإنسانية، رغم كل أسباب التثبيط التي تعوقهم؛ يهمسون في وجدان كل من يمرون به ألحانًا من بيان قلوبهم؛ يغرسون فسائل في كل مكان فيحولونه إلى جنات زاهرة؛ يشرحون أفكارهم ويرسمون أحلامهم ويبثّون همومهم بحيويّة عجيبة وسرعة باهرة وجهد منقطع النظير، ويهتفون بالناس أن “حيّ على الخلود”، بقلوب ملؤها إيمان وعزم وتصميم وأمل بالمستقبل عظيم.
قد يبدو الطريق الذي يسلكونه عصيًّا متمردًا، بيد أنهم يعرفون ذلك منذ البداية. أجل، يعرفون أن الطريق سيتوعر يومًا ويستعصي على السير وتنهار الجسور. يعلمون أن غيلانًا ستظهر لهم وتعترض طريقهم في بعض المنعطفات، وأعاصير من الحقد والكراهية والعداء ستثور حولهم. إن إيمانهم بصحة الطريق الذي يسلكونه راسخ لا يتزعزع، لكنهم لم ينسوا أبدًا أن عقبات لا تخطر على البال سوف تفاجئهم. لذا نظروا إلى ما ألمّ بهم من ابتلاءات وما قد يلمّ بهم لاحقًا؛ على أنها من سنن سبيل الحق ومِحَنه الخاصة، فلم يفقدوا شيئًا من حماسهم، بل ظلوا يسعون في دربهم لا يلوون على شيء؛ وإذا ما اعتراهم شيء من القلق أقبلوا على الله مستسلمين، واعتصموا بحصن الإيمان الحصين، وحاولوا قراءة العصر الذي يعيشون فيه، وما يحوم حولهم من أحداث قراءة صحيحة، وتابعوا السير -وسيتابعون- نحو “أفق الرضى” واثقين بوعد الله لهم بالسداد والتوفيق.
فرسان الوجد في هذا الزمان، هؤلاء الأخيار الذين يُمضُون حياتهم ملتزمين بمبدأ التكامل بين العقل والقلب، وصدق المخبر والمظهر، لم يستطع أحد حتى اليوم أن يصرفهم عن القيم والمبادئ التي آمنوا بها، أو يُقصِيهم عن السعي في فلك مرضاة الله، أو يُثنِيهم عن تتويج مشاعرهم السامية هذه بجهود جبارة لتعريف العوالم كلها بالخالق . لقد استطاع هؤلاء الأطهار -بهذا الشعور من المسؤولية والوعي بالمهمة- أن يصمدوا في مواقعهم كالجبال الشامخة الأبيّة، ويتحدَّوا العواصف والأعاصير، ويقارعوا الثلوج والجليد، ويكتشفوا سر الإثمار في جميع الفصول، يغرسون أزهارا، ويستنبتون ورودا، ويَشْدُون بأنغام الورد مدى الحياة.
إنهم كالساعة تناغما حين يتحركون، ورمز للتوقّد والإبداع والسداد حين يتحدثون. لا اختلال في حركاتهم ولكن انسجام ورشاقة، ولا مرارة في حديثهم بل عذوبة وطرافة. قلوبهم صافية صفاء الملائكة، نقية نقاءها، ألسنتهم ترجمان صادق لما يختلج في أعماق وجدانهم. سلوكهم جمالا وروعة يثير الإعجاب والغبطة لدى الناظرين، وكلامهم عمقا ورقة يحرّك السواكن في القلوب ويُلهِب الحماسة في الأرواح. قلوبهم خفّاقة بحضور الحق ليل نهار، وكلماتهم فياضة بعشق عميق لله، وحب للوجود، ومحبة للإنسان ورحمة وتسامح وصفح. مرضاة الحق تعالى هدفهم الأوحد الذي تعلقوا به، وقراءةُ الأشياء والأحداث قراءة صحيحة واستيعابها هُيام لا يمكنهم التخلي عنه، حبُّ الإنسان وفتح الصدر للناس كلِّ الناس الصبغةُ الحقيقية لطبيعتهم.
إنهم في اللحظة التي يصدح فيها سلوكُهم وسمتُهم المتّجِهُ إلى الله دوما بعشق عميق ما بعده عمق، يُقبِلون على القلوب والطبائع التي غشيها الصدأ والعفن حتى غدت كالحجارة أو أشد قسوة، بمفاتيح المحبة المطلسَمة الساحرة، يَحنُون عليها برفق حتى تصير ناعمة كالشمع، ثم يَلِجونها بلطف، يحاولون أن يوفّوا نعمة محبة الخالق لهم حقها. يألفون ويؤلفون، يُحِبُّون ويُحَبُّون، يصمدون كالجبال إزاء أشرس الهجمات وأشد الغارات، لا يهتزون ولا يرتبكون، بعزم نبويّ يَثبُتون في مواقعهم ولا يتزحزحون، ولدى قراءتهم لما يقع من حولهم بنور السماء ينظرون. إذا ضربتهم أشدُّ الأعاصير عنفا لا يسقطون، وإذا دهمتهم أكثرُ الزلازل فتكا لا يهتزون. يفتحون صدورهم للأمطار الهاطلة، ويُفسِحون شواطئ قلوبهم للأمواج القادمة، لا يحرمونها من جودهم حين تعود، حتى لو نثروا بين يديها حفنة من رمل.
هؤلاء الشجعان يعون تماما أنهم قد علّقوا قلوبهم بأعظم قضية في الوجود وهي إحراز مرضاة الله تعالى، لذلك عقدوا العزم لمواجهة جميع المخاطر والعقبات حتى يصلوا إلى تلك الغاية السامية. شِيمتُهم الخشوع والانمحاء، يحنون رؤوسهم كالشمعة تواضعا، يتوقون إلى الاحتراق من أجل إنارة الدرب للسائرين، يقلّصون من حجمهم في وقار، لا تَفاخُرَ في سلوكهم ولا ادعاء، ولكن في الوقت نفسه، قد أعدوا عدتهم وشحذوا همتهم وتأهبوا -كصقور نشرت أجنحتها وتهيأت- للتنافس مع سكان الملإ الأعلى؛ لا يتوقفون عن الحركة، وإن بدوا ساكنين فإن بواطنهم تموج بفاعلية وجدانية وحيوية فريدة تزيد عزيمتهم قوة وحماسهم اتقادا. فإذا بهم كالبحار تزوّد أمواجُها الشواطئَ القريبة منها بالماء، وترسل للديار البعيدة عنها سحائب غيث تبعث فيها السعادة والهناء. يجودون بماء الحياة للرائح والغادي والقاصي والداني، ينفخون الروح –حيث مروا- في جثامين خامدة تتخبط في وديان البؤس والشقاء منذ سنين وسنين. بلسان الروح يتحدثون، في قلوب كل من يلقونه يبثّون حكايات تنبض بترانيم القلب وأنغام الحب. أبوابهم موصدة في وجه أي إشاعة أو غيبة تهدد نسيج المجتمع، وإزاء أي نقاش يثير فيه عداوة وبغضاء وحقدا. ذلك ديدن هؤلاء الأخيار في الليل والنهار والحل والترحال.
إن الشيء الذي تعلقت به أحلامُ هؤلاء الأخيار وآمالُهم أن يكونوا نافعين للناس. يحسون بآلام الإنسانية وأزماتها الروحية في أعماقهم، يفتحون صدورهم لكل من يطرق بابهم، يسمعون هموما، يتقاسمون آلاما، ويرفعون أصواتهم بالبكاء والأنين، ويبحثون عن قلوب مصدَّعة بالهمّ، ويضعون أيدهم بأيدي قلوب مكلومة مثلهم، يسرعون لكي يخففوا من آلام البائسين ويمسحوا دموع المكروبين. وقد يأتي حين من الدهر فتجدهم يقتحمون نيران الفتنة والفساد لإخمادها، ويغرسون وردا حتى لو كانوا وسط الأشواك، ويصدحون بألحان الورد على الدوام.
في بعض الأحيان تتحول ألوانهم الوردية تلك إلى حمرة قانية تحت وقع ألف معاناة ومعاناة –كالبراعم المنشقّة عن أكمامها-؛ يكادون ينفلقون أحيانا من شدة الكرب ووطأته فتستحيل نغماتهم إلى أنين؛ ولكن رغم كل ذلك، يضعون أيديهم على صدورهم متمتمين “فصبر جميل”، يواصلون السير نحو هدفهم تعلو البسماتُ وجوههم يوزّعونها على من حولهم، فتبتهج كل بقعة يمرون بها بلون بديع من الخضرة وكأنها روضة من رياض الجنة. من مدوا إليه يدَهم عادت إليه الروح كأنه شرب من ماء الحياة. أيادي هممهم تبهر العيون كـ”اليد البيضاء”، وجهودُهم تبطل سحر جميع السحرة، وتتهاوى أشد الأفكار فرعونية حيث مروا معلنة عن إفلاسها.
إنهم يمتلكون ثروةً منبعُها الإيمان، فلو قارنت بين ثروتهم وما يملكه قارون من كنوز وخزائن لبدت خزائن قارون من سَقَط المتاع؛ بل لو شاؤوا لابتاعوا العوالم كلها بهذه الثروة الربانية والغنى الإلهي. إن كفّة الربح في ميزان أعمارهم طافحة على الدوام، وكفة الخسارة فارغة تثير حنق الشياطين وتفقدهم صوابهم.
يعلمون جيدا أين يستثمرون رأسمال أعمارهم، يبرعون أيما براعة في تحويل الأشياء الفانية إلى حقائق خالدة. لا يبددون أوقاتهم هدرا دون جدوى، وإذا نادى منادي الخدمة وداعي السعي والهمة لا يرضون لأنفسهم إلا أن يكونوا في طليعة الركب، بل لا يغتفرون لأنفسهم أبدا إن اثّاقلوا وتأخروا عن قافلة البذل والعمل والجد. عالية همتهم، قوية إرادتهم، صلبة عزيمهم لا تضعف ولا تخور. الإيمان والفاعلية أهم مقوّمين ينظمان إيقاع قلوبهم وسلوكهم. لا يخافون أحدا إلا الله، ولا يخشون أحدا غيره، بل يقفون منتصبي القامة لا يركعون لأحد، وينطلقون مرفوعي الهامة -وبتواضع جم- إلى أرجاء العالم كلها ليوقدوا الأنوار في سمائها. مظهرهم مرآة للبساطة، وسلوكهم شاهد للقناعة والرضا. كالرياح بأفكارهم السماوية يهبّون، والبذورَ في كل مكان ينثرون، وكالغيث على جميع البقاع يهطلون، حياةً يصيرون في الأرض وحياةً يتدفقون.
وإذا ما ألَمّت بهم نوائبُ شتى، وساءت أعمالُهم، وبارت تجارتهم، وعصفت بآمال البعض أزمات متعاقبة، فإنّ ذلك لا يزعزع إرادتهم ولا يُضعِف من عزيمهم. يجددون العهد الذي قطعوه على أنفسهم مع الله باستمرار، وينفقون جميع أصناف منن الله عليهم في سبيل إقامة صروح أرواحهم، أي إحياء الشعائر. يحرصون على أن يكونوا حيثما كانت روح الدين ومعاني التدين الصحيح، وأن يولّوا وجوههم حيثما كان وجه الله ورضاه، يحثّون السير في الاتجاه الذي يحقق أوامره ومقاصده دون توقف. وإذ يسعون إلى تحقيق هذا الغرض السامي، يبذلون عناية خاصة في إتقان شؤون الدنيا والنجاح في تدبير مصالحها. من يراهم ويطلع عليهم من هذا المنحى فقط، يحسب أنهم دنيويون لا شأن لهم بالآخرة؛ ومن يراهم في حالهم مع الله وبحثهم عن مرضاته، يندهش من توقهم وشوقهم وتوقّدهم، ويخال نفسه بين صفوف رجال من الرعيل الأول.
هؤلاء الأخيار يمقتون الخمول والقعود بلا معنى، ويكرهون إنفاق العمر عبثا بلا جدوى. إنهم في حركة دائبة لا تعرف الفتور، يسعون إلى إعمار الدين والدنيا ليل نهار، فإن كانوا أرباب قلم أسهموا بكتابتهم، وإن لم يُجيدوا الكتابة أهدوا أربابها قلما، ومهما يكن يحرصون على أن يبقوا ملازمين لقافلة الخدمة مُسهِمين في جهودها بأي وسيلة. فهم محبون للعلم دوما، موقّرون للعلماء، يجالسون أصحاب القلوب اليقظة والعقول المستنيرة، ويتنفسون بذكر المحبوب -سبحانه- شهيقا وزفيرا مدى الحياة.
فلو لم يبق إنسان حقيقي على سطح الأرض قط، وزحفت غيوم سوداء من جميع الأطراف وحجبت الآفاق، وانهزمت الشوارع أمام سيول من الأوحال حتى غمرتها تماما، واحتلت الأشواك كل مكان، وغطت أشجار الزقوم على حدائق الورد بظلالها السوداء؛ وامتلأت الساحات والميادين بالغربان، وطغى نعيقها على تغريد البلابل، وتداعت الزنابير على أقداح العسل؛ وسادت كآبة الغابات المرعبة على شوارعنا، ولم يبق للعلم حرمة أو توقير في القلوب، وطُرِدت المعرفة من كل باب شر طردة، وصارت المروءة ضحية للغدر والجحود والخذلان؛ وانهارت الصداقات وانقلب الأصدقاء أعداء.. أجل، حتى لو نزلت هذه الكوارث والملمات كافة، فإن هؤلاء الرجال يصمدون في مواقعهم دون أدنى اهتزاز يهتفون بهذه الكلمات: “قد ينهار كل شيء، ولكن لا ضير ما دمتُ قائما، سأعيد كل شيء أفضل مما كان… قد تتحول كل بقعة إلى صحراء قاحلة، لا ضير ما دمت أملك نبعا من الدموع… لقد منحني الله رِجلين أمشي بهما، وقبضتين أكدح بهما، عندي رأسمال لا مثيل له اسمه الإيمان، وحصن حصين لا تخرقه الأعادي عنوانه القلب، وهناك فرص تكفي لإعمار العوالم تنتظر من يستثمرها، أستطيع أن أحوّل العالم إلى جنان خضراء إذا أحسنتُ الاستعانةَ بالله واستغلالَ هذه الفرص وتلك الإمكانات. أوليست كل بذرة أرمي بها في التربة تنبت سنابل عدة؟ فلِمَ الخوف والحزن والقلق من المستقبل إذن؟ أوليس الله قد وعد بمضاعفة الواحد إلى آلاف هناك؟”.
أجل، يهتفون بهذه الكلمات، ويواصلون السير نحو أهدافهم وإن كانت الدروب من حولهم منخورة مكسّرة، والجسور منهارة مهدّمة.
كالأنهار الهادرة يحملون حياة إلى كل أرض يمرون بها، يطفئون حرقةَ كل أحد ولهيبَ كل مكان… وكالنار المشتعلة، تدفئ الآخرين وتحميهم من أذى القر وإن أضعفها، وبرودةِ الثلج وإن أكل من جسمها.. وكالشموع المتقدة، تحترق وتذوب لتُهدِي آلاف العيون نورا وضياء.
“ليليّون” كامنون في زواياهم فاتحون صدورهم يرصدون نسائم الرحمة حينا، ويرفعون نداءاتهم آهاتٍ وأنّاتٍ في الساعات الشريفة حينا آخر، ويطلقون أشرعتهم من مراسي المعاناة يرجون نيل عناية استثنائية من المنّان سبحانه. الدرب الذي يسيرون عليه، هو ذاته المسار الذي سلكه “أخلاء الحق” تعالى منذ القدم، فمن سار في هذا الدرب لم يخذله ولم يغدر به أو يضيّعه، بل من سار في هذا الدرب وصل لا محالة.
تفيض قلوب هؤلاء إيمانا وتخفق أملا وتتقد حماسة. إنهم قمة في السخاء يبذلون كل ما يملكونه في سبيل الحق ؛ يعلمون يقينا أن ما يبذلونه هنا واحدا يعود إليهم هناك عشراتٍ، لذلك يُمضُون حياتهم في مهرجانات من العطاء والبذل بسخاء. لقد آمنوا أنه لا مرتبة أعظم من حماية الدين وحفظه وتمثيله في كافة أرجاء المعمورة بصورة مشرقة تثير الإعجاب والغبطة في القلوب. يعتبرون الوصول إلى تلك المرتبة السامية غايتهم الوحيدة في الحياة، ويعلقون حكمة وجودهم في هذه الدنيا بالسعي لتحقيق تلك الغاية، وإلا فلا معنى للحياة في نظرهم. بهذه المشاعر يلتقطون أنفاسهم دوما، ويجتمعون ليصوغوا منها مشاريع على الأرض، ويُضفون على لقاءاتهم عمقا آخر من خلال ربطها بمرضاة الحق . وإزاء هذا المشهد المشرق يهلل لهم سكان الملإ الأعلى بأناشيد التهنئة والتبريك ويغمرونهم بدعوات السداد والقبول والتوفيق.
لا يفكر هؤلاء الأبرار براحتهم الذاتية أبدا، يسعون لنيل مرضاة الله دوما، ويعملون لغرس “الفضيلة” في الأفراد، ويكدّون لزرع القيم الإنسانية في المجتمعات، ويفتحون صدورهم للبشرية كافة تأسّيا بأخلاق الأنبياء عليهم السلام، ويعيشون من أجل الآخرين مدى الحياة. ولقاء صدقهم هذا وتفانيهم، يجود المولى على هؤلاء “المحتسِبين” فرسانِ القلب بمفاجآت شتى من التوفيق والنجاح في دار الدنيا، ويمنحهم ريشًا من أجنحة الملائكة يوم الحشر -يوم لا تنفع فيه الأيدي ولا الأرجل- ويغمرهم بظلال الوصال الندية، وينزلهم في منازل الربانيين، ويكرمهم إكرام ضيوفه المتميزين، ثم يتوِّج تلك المنح والعطايا كلها برضوان منه سبحانه.