لا ينال الفردُ السعادة والنجاح إلا في مجتمع ينبض أمنًا وسلامًا، ولا يصلح المجتمع أو ينعم بالسكينة والرضا إلا بأفراد تشبّعوا بروح الإيثار والإخلاص والتفاني. محال أن يتشكل مجتمع سليم من أفراد أنانيين شُلّت أرواحهم بألف عاهة وعاهة. محال أن يحظى بالسعادة أفراد لم يجدوا مجتمعًا صحيحًا يتفيؤون ظلاله ويحتمون تحت أجنحته الحانية. إن الأفراد ينسجون المجتمع جزءًا بعد آخر نسجًا بديعًا، وإن المجتمع يحنو على أفراده الذين يشكلونه، يشملهم برعايته الخاصة ويأخذ بأيديهم إلى العُلا، ويفتّق مواهبهم الذاتية حتى يحوّلهم سماويين.
في ظل تعاهُد كهذا فقط، يصبح المجتمع متوازنًا خفاقًا بالأمل واعدًا، ويعيش الفرد في أرجائه عزيزًا كريمًا. في ظل مجتمع كهذا، يجد الطالب فرصة لتحصيل العلم، ويجد العالِم إمكانًا لسكب إلهامات روحه في قلب طلابه. في ظل مجتمع كهذا، تعجّ المكتبات بطلبة العلم، ويغدو العلم مِلكًا للجميع، وينعكس الفكر على العبادات، وتؤول العبادات فكرًا. إن مدينة هذا سمتُها، لَمَدينة فاضلة وسكانُها سعداء.
إن الفرد لا يمكن أن يعيش عزيزًا كريمًا في مجتمع أصابه العفن والتحلل في بعض أجزائه، وحاصره الخصوم من كل جانب. في مجتمع كهذا، لا يمكن لطالب علم أن يحصّل علمًا حقيقيًّا، ولا يمكن لعالِم أن يُودع أحدًا علمَه، بل لا يمكن لأحد أن يقوم بواجباته تجاه خالقه. في مجتمع كهذا، محال لأي امرئ أن ينقذ سفينته من الغرق. فما بالك إذا كان هذا المجتمع مخترَقًا من خصومه، بل ينمو ويترعرع في مهد يهزّونه، يتحدث لغتهم، ويلوّح لهم بمناديل الفرح، ويَحُلّون من قلبه في أعزّ موطن.
لقد كانت العداوات في الماضي تَفد علينا من الخارج عمومًا، أما عداوات الداخل فكانت محدودة الأسباب، تنشأ عن الجهل والتعصب وأمور أخرى مشابهة، وكان التصدي لها والقضاءُ عليها ميسورًا. أما اليوم، فهناك كتائب من الخصوم غاية في الانتظام والتجهيز، تشنّ الغارة تلو الأخرى على موقع القلب من المجتمع تبتغي القضاء عليه، بل وتستغلّ طِيبته وحساسيته إزاء بعض القضايا للإجهاز عليه. فإذا فقد المجتمع حساسيته، والفرد تأهّبه إزاء هذه الغارات شديدة الفتك عميقة الخبث، فقد حانت لحظة طعن ألب أرسلان غدرًا، ومقتل الفاتح بالسمّ مكرًا. “حينها يدق الناقوس في مخ عثمان ، ويُمحَى اسم المولى من الفضاء، ويصمت الأذان” على حد قول الشاعر .
إن أخوف ما نخافه، أن ينتشر العدو وتسري العداوات في شرايين المجتمع من أوله حتى آخره، يأكل في جسمه من الداخل، ويذيبه شيئًا فشيئًا كسرطان يسري في العروق. وإن الحشود التي تقع في شراكٍ نصبها لها أعداؤها على هذا النحو، تفقد قدرتها على تمييز عدوها من صديقها، بل تحسب أشد الخصوم فتكًا بها وامتصاصًا لدمائها وتمزيقًا لأعصابها؛ صديقًا حميمًا.
أجل، حينما تكون بصيرة الأمة عمياء إلى هذا الحد، ويكون الخصم مكّارًا فتّاكًا إلى هذا المدى، فذلك يعني أن “حصان طراودة” قد اجتاز الأسوار، وتسلل إلى الداخل، وباتت القلعة في خطر جسيم.
عندما اكتشف الفكر الاستعماري -الذي لم يتوان لحظة عن إثارة الحروب وسفك الدماء لوأد هبّات انبعاث أمتنا في مهدها- سِرَّ هزيمتنا، تغاضى عن هزيمة “فيينا” و”بواتيه” ولم يعد يفكر فيهما بتاتًا، بل اتخذ لنفسه منحى جديدًا، مرددًا “لِتُفتَح القلعةُ من داخلها”، وأخذ يُعِدّ العدة بناء على ذلك، ويهيئ مواقع جديدة تناسب هذا المنظور الجديد.
ليت “المستنيرين” من نخبنا تنبّهوا مبكرًا لهذا الحراك الجديد. لكن هيهات، فقد مضى زمانٌ مشئوم اعترت فيه نُخبَنا “المستنيرة” حالةٌ من النعاس، وغطوا جميعًا في سبات عميق بعد أول حكاية قُصّت عليهم كحواديت الأطفال، وباتوا يحلِّقون في عوالم سحرية من الأحلام الوردية.
في هذه الفترة الكارثية، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وبعدما غيّر العالم الآخر أهدافه، نثر كلَّ ما في جعبته من بضائع رديئة في ساحاتنا بأثمان رخيصة مغرية، وعرض أمام الأنظار أتفه الأفكار على أنها قطع ألماسية، وروَّج لها بحملات إعلانية طنَّانة رنَّانة، وراح المهرِّجون يختالون بملابسهم الهزلية بين الناس وكأنهم ممثلون محترفون، فصفقت لهم بعض النفوس المريضة ذات النظر المحدود، وراحوا يهللون بأسمائهم على أنهم “حَواريون”. في مقابل ذلك، تعرضت روح الأمة لهزَّة بعد أخرى وانهيار بعد آخر، وانسحقت تحت جبال من الجليد المروعة الزاحفة من أصقاع الشمال.
وعندما طفت على السطح أحقاد تاريخية تراكمت عبر عصور مع الحرب العالمية الأولى، تصدّى لها فرسان من الأناضول فلملموا شعثهم وجمعوا شملهم من جديد، وتداعوا إلى جبهات النضال في كل أنحاء الوطن بكل ما يملكون من شحذ معنوي وحماسة روحية، فكان النصر المبين.
لقد بدا للعيان أن السلاح هو المنتصر، لكن روح الأمة هي من انتصرت في الحقيقة. وكانت المهمة الكبرى بعد ذلك النصر، رفعَ قضية الاستقلال عاليًا كالراية التي ترفرف في الفضاء، وحمايتَها بكل قوة، وشحذَ الهمم للسير بها قدُمًا. وكان ذلك يقتضي تكريم “روح الأمة” التي لبّت نداءات الكفاح في كل أرجاء الوطن من أجل تصفية حساباتها مع خصوم حاربوها عبر قرون، كما كان يقتضي إبعاد أرواح خبيثة لم تفتر عن إثارة الفوضى والبلبلة والارتباك في المواقع الخلفية من الجبهات. لو أن ذلك قد تم فعلاً، لظفر عالمنا بروح جديدة برَّاقة تخفق بحب الإنسان وعشق الحرية.
ولكن هيهات، فقد ابتُلينا بمن أَسكرتْه نشوةُ الانتصار، ومن هرول ليسطو على أملاك غالية بثمن بخس منتهزًا حالة الفراغ، ومن أسرع إلى تشكيل أحزاب غامضة للحصول على حظ أوفر من المسلوب والمنهوب، بل فوجئنا بانتهازيين استغلُّوا عواطف الجماهير في تبجيلهم لبعض البطولات الملحمية التي حدثت في ساحات النزال، لكي يركبوا بها على أكتاف السُّذَّج منهم كذبًا وزورًا، وصُعِقنا بحياة النعومة والترف التي رفل فيها ورثة الفكر الاستعماري، ممن أغمدوا خناجرهم في قلب إنساننا مكيدة وغدرًا.
في المقابل، مُحي من الذاكرة أبطال جَعلوا من صدورهم سدًّا منيعًا في وجه المحتلِّين ولم يسمحوا لهم بالعبور، وبذلوا كل غال ونفيس في خدمة الأوطان، و”سقط أرضًا برصاصة أصابت جبهته الطاهرة” ؛ فحُرمت أجيالنا اللاحقة من التعرف على إنساننا المثالي بغاياته السامية وآماله الكبرى.
في بلد كهذا، يصبح الشعب شقيًّا سيء الطالع، ويضحي الوطن يتيمًا بلا كافل. إذا فحصتم جميع مؤسساته جزءًا جزءًا، فلن تعثروا فيها على أثر من روحكم، ولن تروا عشقًا للعلم أو حبًّا للحقيقة أو أخلاقًا فاضلة. إن جسم الأمة في عالم كهذا، مليء كله بالثقوب والشروخ؛ العِلمُ فيه تهريج، ودُور التعليم سيرك وملاهٍ.
في بلد كهذا، تُحقَن الأجيال بالإلحاد والإباحية عبر مناهج البحث عن الحقيقة. في بلد كهذا، القلوب قاسية بلا رحمة، والعواطف رديئة منحطة، والنظرات خالية من بريق الحقيقة لا تنضح إلا كذبًا وزورًا؛ خاصة في ظل معالجة القضايا بكل ما يستميل العينَ والأذنَ ويستهوي الألسنَ والشفاه، مقابلَ إقصاء “الروح” ومعانيها جانبًا كخرقة بالية؛ تلك “الروح” التي تُشكّل إكسيرًا لنهوض حشود هائمة تئنّ وتتلوّى وسط ألف دوامة ودوامة؛ تلك “الروح” التي هانت علينا في سبيل إنقاذها من الأسر نفوسُنا ودماؤنا ونحن نجاهد في سبع جبهات. فهل كانت تلك الوقائع التي خُضناها بكل بسالة، من أجل أن نقع في أسرٍ جديد هو المادة؟
لقد صار “غول المادة” يترصد الأجيال عند كل منعطف، يقطع طريقها، ويعصف في بعض الأحيان بأفكارها وعواطفها فيخلّف وراءه دمارًا مخيفًا. بات يزعم أنه محراب الجماعات البشرية بعد اليوم. أما التكنولوجيا الوحشية التي لم تتهذب وتندمج في مسار روحنا الذاتية الأصيلة، فتلك وباء قاتل.
لقد فرضت التكنولوجيا سلطانها على حياتنا في وقت لم يتهيأ فيه أفرادنا ليصبحوا مجتمعيين متضامنين، ولم تنضج لديهم أفكار سامية مثل نذر النفس في سبيل الأمة، فوقع المجتمع في براثن الخمول، وغلتْ الأفرادَ الأنانيةُ، واستولى عليهم النفور وسوء المعشر، وبات الإنسان عدو الإنسان. تحوّل الرئيس والمرءوس، وصاحب العمل والعامل، والموظف والمواطن، والمعلم والتلميذ، والوالد والولد، إلى ذئب يترقب كلٌّ منهما الآخرَ لينقضّ عليه في أي لحظة؛ وهكذا اندفع مجتمعنا بكل شرائحه إلى حتفه اندفاعًا. ولولا يد العناية التي امتدت إليه من حين لآخر تساعده على تقويم ظهره، لانمحى من صفحة التاريخ دون أن يُعقِّب أثرًا. لذلك لا مناص من إعادة النظر في روحه المتحجرة وقلبه المخدَّر والشروعِ في إصلاحهما، وعدمِ الاكتفاء بترميم جدرانه الخارجية.
إن الأبطال الذين تعهّدوا بحمل راية المستقبل على أكتافهم ورفعِها عالية في السماء، سيُثبِتون إخلاصهم وصدقهم بحجم شعورهم بثقل تلك المسؤولية في كل خطوة يخطونها. لن تكون أفكار هؤلاء ورؤاهم خاضعة لإكراهات الحياة، بل ستنقاد لهم الحياة في فهمهم للحقيقة. هؤلاء، سيثورون على كل حياة تنقضي دون الشعور بعمقها أو الوعي بمعانيها، سيثورون على كل حرمان من وقدة عشق أو شعلة حماس، سيثورون على اللامسؤولية القابعة في أعماق نفوسهم، ويثبتون أنهم “موجودون” حقًّا.
إن مجتمعًا بلغ هذا المبلغ من النضج مستنيرًا بإرشاد هُداته الأمناء، جاهز لتحقيق التجديد والانبعاث (Renaissance) في ذاته. وإذا كنا متفائلين بانبعاث جديد كهذا -قد بدأت بشائره تلوح في أفقنا- فذلك يرجع إلى ثقتنا بسلامة “شجرة الأمة” المشمولة برعاية صاحب الرحمة اللانهائية.