يا عندليب عصر الورد! يا بشير البعث زمن الهلاك والموت! يا زبدة الأصالة التي تمخضت عن بطولات التاريخ كافة. يا أسطوريا انبثق من قلب الأمة وتدفق عطاء، ثم عاد إليها مرة أخرى ليكون لها خميرة يذوب فيها ويفنى. نوينا أن نجعل من قلوبنا المحترقة شوقا إليك مشاعلَ نحملها في أيدينا، نقيم بها من أجلك حفلات وأعيادا، نقول فيك مراثي ونسكب دموعا حرّى، ثم نرمي بأنفسنا في دربك كرة أخرى.
كلما أنشبت فينا الأيام مخالبها وصرعتنا المصائب تذكرناك، وهرعنا ننظم أناشيد فيك تضطرم شوقا إلى أنفاسك الباعثة للحياة. وهل كان بوسعنا أن نفعل سوى ذلك؟
أنت يا فارس أزمنة العواصف الهائجة، يا شديد البأس يا رحيم القلب! أنت يا بطل الحقيقة، يا من يحمل بين شفتيه إكسير الحياة يحيي القلوب الميتة! أنت يا مسيح أدوائنا المزمنة ولقمانها! في هذه الأيام التي بهتتْ فيها نُضرةُ ألواننا، وكادت تنطفئ فيها جذوة قلوبنا، وتحولت أنفاسنا إلى حشرجات متقطعة، وفاضت شوارعنا بمواكب الجنائز وروائح الكافور.. أجل في هذه الأيام القاتمة نحن في مسيس الحاجة وفي ظمأ أشدّ من مظلومي كربلاء إلى نظراتك التي تومض كالبرق، وبيانك الذي يدوّي كالرعد، وقدرتك المحرّكة وإرادتك المغيّرة تنهمر على ربوعنا ماء فراتا سلسبيلا يختلط بها، وينفذ في ثناياها، ويمهد التربة لتحولات جديدة وولادات قادمة.
لقد حوّل جبابرة كاليزيد والشِّمْر ديارنا إلى بحار من دم، ودمروا ما فيها من حضارة وبناء. لم يبق منزل لم يخلُ من نواح أو أنين، ولم يبق عمران لم ينقلب رأسا على عقب. فإن أصغيتَ فلن تسمع وسط هذه الخرائب سوى صوتين، إما ضجيج الظَّلَمة وصياحهم أو تأوهات المظلومين وأناتهم.
انهض.. واهوِ بسيفك البتار تحطّم به الطوق المضروب حول عنق تاريخك المجيد. أبطل السحرَ وحُلّ عُقَده كما تَحُلّ العُقَد المستعصية، وخلّص أمتك من شقائها. انطلق بالنور إلى كل أصقاع الأرض، ولا تذر أحدا لم يسمع بإنسانيتك وأياديك البيضاء.. كما فعلت في الماضي حينما تسلقت جبال البلقان بجيادك الأصيلة، وحلقت كالنسور نحو طرابلس الغرب، وقفزت إلى الهند حينا واليمن حينا، ولم تترك بقعة من بقاع الأرض إلا حملت إليها خيرا.
في هذه الحقبة الحالكة السواد.. وفي هذه الأيام التي أقفرت فيها ديارنا، وتصحرت ودياننا، ومزّقتْ جسمَ أمتك أشلاءً جرّافاتٌ دخيلة، وجَرَفتْ أجيالَك نحو مهاو مجهولة فيضاناتٌ اجتماعية، وتَخدّر إنسانُك بألحان مستوردة من هنا وهناك.. نستنجد بك أن تعال!
أشرق على أجيالك الذين يتسلون بملاحم قديمة منذ سنين وسنين، مذهولين أمام ألف لون ولون من بهلوانيات العالم الجديد. تعال وأنشد لهم أناشيد جديدة.. أناشيد لم تطرق آذانهم من قبل، تحكي عنك وعني وعن روحنا.. ألحانُها صافية صفاء “بدر” ، سامية سموّه، خالصة خلوص ملاذكرد ، مثيرة في النفوس أشواق الخلود، عالمية كونية كالفتح الأكبر تطبع الزمان باسم جديد، مشحونة بالتجرد والتفاني والبطولة التي عرفها العالم أيام نضالك من أجل الاستقلال .
تعال، فقد غمرت حالةٌ من العبثية والجنون كل مكان منذ سنين وسنين، تعال واقذف في القلوب الواهنة والأرواح الضعيفة أملا وعزيمة بإنجاز شيء ما ولو ضئيلا.
أقبل على إنسانك البائس المسكين.. إنسانك الذي تعرّض للتقطيع والتشريح ألف مرة بدعوى العلاج، ونُقِل إلى قسم العظام بدعوى تجبير أطرافه المكسَّرة مئات المرات.. إنسانك الذي يحاكي أيوب في علله وهمومه وأشجانه، ويعقوب في أشواقه وآلامه وأحزانه التي فاضت في عينيه.. تعال وأسعد قلبه ببشرى التعافي والشفاء.
إن الذين تصدّوا لعلاجه حتى اليوم لم يكونوا سوى مجموعة من الجهلة والسفهاء، أخطأوا في التشخيص وأجرموا في العلاج، فازدادت مشاكله عمقا وتفاقمت علله إيلاما وفتكا. إن كل خطوة منهم بغيةَ العلاج كانت محدودة مؤقتة، كلما لمعت بارقة أمل في الشفاء والتعافي انطفأت بعد حين مثل شمعة كاذبة، فتردّى من جديد في مهاوي اليأس والإحباط.
يبدو أنه لن يُسلّم نفسه بعد اليوم إلى أي طبيب يناديه؛ بل سيصرّ على أسنانه صابرا حتى يجد طبيبا ماهرا يثق به يتناول أدواءه ومشاكله بعمق وجدية وشمولية.
تعال! وكن أنت ذلك الطبيب.. حوّل ليل أولئك الذين يترقبون قدومك منذ سنين إلى نهار مشرق، وحلق بهم إلى الآفاق المضيئة.
إن تحركا خفيفا منك أدخل نوعا من التناغم إلى مجرى الحياة المضطربة. فكم من مشكلة متحجرة يئس الناس من حلها، تفتتت وذابت بفضل أنفاسك الدافئة. وكم من أورام ممتدة في قلب الأمة منتفخة بالقيح والصديد أخذت تتلاشى واحدة تلو الأخرى. فما بالك، لو رأوا الفاعلية الحقيقية المنبعثة من جوهرك وسمعوا بقرارك الأخير؟
إننا -أبناء الأمة جميعا- نترقب يوم قدومك.. عيوننا تضطرب لهفة ودمعا وشوقا، وشفاهنا تتمتم بأحرف قرارك السعيد.
ألف سلام لذلك البطل الذي بيده قلم هذا القرار التاريخي العظيم.