سؤال: كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يُعنَى أيّما عناية باستقبال وفود بلاد وقبائل الجِوَار لا سيما بعد فتح مكة، وكان يرغِّبُ في أن يُقتدَى بسُنَّتِه هذه، وأن يُواظب عليها مَن بعدَه، وأكّد دعوته في وصاياه في آخر حياته؛ فما الحكمة؟ وما العبر والدروسُ المستفادة إذا ما أسقطنا هذا الأمر على واقعِنا اليوم؟
إن عنايةَ رسولِنا صلى الله عليه وسلم هذه سلوكٌ جليل، وعلينا أنْ نُعنَى بهذا الأمر أكثر فأكثر؛ لذا ينبغي الوقوفُ عنده حتمًا.
لقد استمرَّ اهتمامه وحفاوتُه تلك صلى الله عليه وسلم على أعلى مستوى، لا بالوفود القادمة إليه شخصيًّا فحسب، بل بالأفراد القادمين لاعتناق الإسلام أيضًا؛ فمثلًا حظيت النخبة من أهل مكة مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم باهتمام رسول الله إبّان وصولها إلى المدينة، حتى إن أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما لم يحظيا بمثل ذلك يومئذٍ.
إذ قال رسولنا صلى الله عليه وسلم لخالد رضي الله عنه: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ، قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا رَجَوْتُ أَلًّا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ”[1]؛ وسرعان ما مدحه فلقَّبَه: “سيف الله”[2]…
وكم نال عمرو بن العاص رضي الله عنه من المسلمين، حتى إنه لطالما كادَ الإسلامَ بدهائه، ولما اعتنق الإسلام، ووصل المدينة استقبله رسولنا صلى الله عليه وسلم بحفاوة، ولم يذكِّره حتى بأصغر أمر من سوابقه، ولما قال عمرو: “يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي” قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا عَمْرُو، بَايِعْ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ”[3].
وهذا جرير بن عبد الله البجلي: “دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَصْحَابُهُ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَلَمْ يَرَ مَوْضِعًا، وَضَنَّ كُلُّ رَجُلٍ بِمَجْلِسِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهِ، فَتَلَقَّاهُ بِنَحْرِهِ وَوَجْهِهِ، فَقَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: أَكْرَمَكَ اللَّهُ كَمَا أَكْرَمْتَنِي، ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِذَا أَتَاهُ كَرِيمُ قَوْمٍ فَلْيُكْرِمْهُ”[4].
أما استقباله عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه بكلمات مِلؤُها الحفاوة، فهي لوحةٌ ذات عبرةٍ متميزة جدًّا في هذا الموضوع.
أجل، إن هذه السُّنَن من المبادئ الثابتة عند رسولنا صلى الله عليه وسلم، وفي ضوئها كان يعامل الوفود والأفراد القادمين دون فرق؛ وهي زاخرة بغايات كثيرة ملأى بالحكم:
أولًا: هؤلاء القادمون حديثًا، ولم تطمئن نفوسهم للإسلام تمامًا، كان يساورهم القلق والخوف من تغيير الدين، ولو لم يعثروا على مناخ دافئ آمنٍ يخلّص أنفسهم من المخاوف لربما اتجهوا وِجهة أخرى، وهي خسارة كبيرة لهم أنفسهم، إذًا إنّ عنايته وحفاوته العظيمة صلى الله عليه وسلم بمن وفدوا يتنسمون عبير نسمة من الإيمان كانت حِصنًا لهم من قرارٍ خاطئ كذاك، وهذا من الأمور التي ينبغي الوقوف عندها والعناية بها أيَّما عناية اليوم وغدًا.
ثانيًا: كان في الوفود القادمة أناسٌ يحظون عادةً بالاحترام والتبجيل في أقوامهم وقبائلهم، إنهم أناس اعتادوا على مثل هذا الاهتمام وتلك العناية في مجتمعاتهم؛ فوجب أن يحظوا بمثل ذلك التقدير والعناية حتى لا يستوحشوا من المجتمع الجديد الذي وفدوا إليه، أي من شأن هذه الحفاوة والعناية أن تشعرهم بالألفة وترفع عنهم كُرْبة الغربة.
ثالثًا: كان معظم تلك الوفود رسميًّا، ولما صار الإسلام دولةً كانت القبائل والدول المجاورة ترسل وفودها إلى المدينة لتبحثَ الأمر بحسب رؤيتها هي، ولم تكن تلك الوفود من عامّة النّاس؛ إذ كان لغالبِهم فلسفة حياةٍ وتقديرات خاصّة للأمور، ومن المسلَّم به أن يرجعوا إلى قومهم بانطباعات خاصّة عن زيارتهم تلك، وكان لآرائهم الجديدة تأثيرٌ بيِّن على بلادهم وقبائلهم؛ لذا كان من الضروريّ أن يتزوَّد هؤلاء برؤية إيجابية، وهي تأثُّرهم عن قربٍ بالاستقبال الحارّ والحفاوة بهم.
رابعًا: كان أهل الكتاب يعرفون أخلاق رسولنا صلى الله عليه وسلم وشمائله؛ لأنها مذكورة في كتبهم، ومن الوفود مَن يأتي ليتقصّى حقيقة هذا الأمر، أمَّا رسولنا صلى الله عليه وسلم فكان واثقًا من نفسه؛ فهو الرسول الذي بشَّرت به التوراة والإنجيل، ومن وسائل ترغيب المخاطب برسالته تقريبُه منه كي يشهد الأمرَ عن قرب.
أجل، كان رسول الله يُدنيهم منه، وكأنه يقرِّبهم من رؤيةِ علامات النبوة وأماراتها، فكانت حاله وأطواره المباركة سدًّا تتحطّم وتتفتّت عنده الشكوكُ والظنونُ التي من شأنها أن تمزّقَ كل شيء، وإذا بأكثرية الوافدين يغيّرون أحكامهم المسبقة، ويستعدون للقيام بتبليغ الإسلام إذا ما عادوا إلى بلادهم.
ربط المسألة بواقع عصرنا:
علينا أن نقرّ أنه لا أحد ألبتة يستطيع أن يقوم بسلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؛ فلا طاقة ولا قوة لأيِّ شخصٍ على فعل هذا، تدبّروا الأمر! لقد حمل رسالةَ القرآن الكريم، وهي كما جاء في القرآن حِمْل عظيم ثقيل تتصدع منه الجبال، لقد صمد صمودَ الرواسي، فلم تهزّه أية حادثة ألبتة، ولم يُثْنِه أيّ تصرّفٍ يخالف مبادئه، إننا قد نملّ ونضجر، أمَّا هو صلى الله عليه وسلم فيستحيل أن ترِدَ عليه الخواطر في أنماطٍ من الضعف كهذه.
وعلى هذا فمن الصعب أن نطبّق ونتمثّل تمام التطبيق والتمثل مودَّتَه وحفاوتَه صلى الله عليه وسلم في استقباله الوفود، أو في تقبّله بعض الأشخاص، وتناسيه عيوبهم السابقة كلها تمامًا، ولكن لا مناص من فعل ذلك بقدر طاقتنا، فالتقاعس عنه فيه حطٌّ من قدر هذه الخدمة العالمية، وخيانة لهذه الغاية السامية.
وقد عُنِيَ الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر وصاياه بنمط استقبال الوفود والحفاوةِ الواجبة في هذا الأمر، وأشار إلى تفاصيل هذه المسألة وأبعادها المستقبلية، وهو أمر مهمّ جدًّا للمستقبل القريب والبعيد.
وهذا لأنَّ الرسالةَ لم تنتشر بعدُ خارج جزيرة العرب، وما رسائل بعض الملوك وهداياهم إلا مودة وحفاوة شخصية؛ وسيأتي يوم تضيِّف “الدولة الإسلامية” مئات بل آلاف الوفود لترامي أطرافها المنتشرة في أنحاء العالم كافّةً، وعليها أن تكرم وفادتهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو مَنْ سنَّ الأصول والأساليب اللازمة للقيام بهذا الأمر الخاص بالمراسم، والحقيقة أنه ما من معضلة وقعت في عقدين ونيّف إلّا كان لها عنده حلّ، ومنها استقبال الوفود.
[1] الواقدي: المغازي، 2/749؛ البيهقي: دلائل النبوة، 4/349؛ ابن كثير: السيرة النبوية، 3/453.
[2] صحيح البخاري، فضائل الصحابة، 25؛ مسند الإمام أحمد، 37/246، 258.
[3] مسند الإمام أحمد، 29/315.
[4] الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 4/324؛ أبو نعيم: حلية الأولياء، 6/205.