Reader Mode

ثمّة بونٌ شاسعٌ بين العالم الإسلاميّ والعالم الغربيّ في مسألة العلاقة بين الدين والدولة، فلقد انهارت سلطنة الرهبنة والمسيحية في الغرب بتفوّق العلم، أما الوضع في العالم الإسلاميّ فكان على النقيض من ذلك؛ حيث ازداد التوجّه إلى الدين بالتزامن مع تقدّم العلم.

لم يخِبْ أملُ أيّ عالِمٍ في العالم الإسلاميّ؛ فلم يكن الدين يمارس أيَّ قمعٍ على الدولة أو الشعب، فالقوّة دائمًا مع الحقّ، والأمراء في خدمة الخلقِ.

الرهبانيّة وسيادة الكنيسة في الغرب

قبل حركات النهضة والإصلاح في أوربا فُرضت الضرائب الباهظة على الشعوب الذين يقعون تحت سيادة الكنيسة، حتى غدا الجميع مضطربًا خائفًا قلقًا على مستقبله بسبب قوانين الكنيسة المتغيّرة على الدوام.

وكان الزعماء الروحانيّون يُضمرون عداوةً شديدةً للعلم، ولا يرحّبون أبدًا بالاختراعات العلميّة التي كان مصير معظمها الرفض دون النظر حتى إلى ماهيّتها؛ وليس بقليلٍ مَن حكمت عليهم محاكم التفتيش بالأشغال الشاقّة المؤبّدة بسبب هذه الاختراعات والابتكارات المختلفة!

ولم يكن للناس القدرة على الاعتراض على هذا المفهوم القمعيّ، بل لم يكن بوسع معظمهم -باستثناء قلّةٍ من الأرستقراطيّين-الحديثُ عن قمع الفقراء وحقوق المرأة التي كانوا يعتبرونها في محالّ العمل نصفَ إنسانٍ فلا تأخذ من الأجر إلا نصفه، وبناءً على هذا حصلَ لدى معظم شرائح المجتمع امتعاضٌ ونفورٌ من الدين.

وبسبب هذا النفور العام تهاوى بشدّةٍ كلّ ما يتعلّق بالكنيسة بمجرّد قيام الحركات الإصلاحيّة في شتّى الأماكن؛ وتبع ذلك انهيارٌ تامٌّ للقيم الأخلاقيّة.

كان الخلفاء الراشدون من أمثال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه يتحاكمون مع يهوديٍّ أمام القاضي.

 الدين والدولة في الإسلام

لم يخِبْ أملُ أيّ عالِمٍ في العالم الإسلاميّ؛ فلم يكن الدين يمارس أيَّ قمعٍ على الدولة أو الشعب، فالقوّة دائمًا مع الحقّ، والأمراء في خدمة الخلقِ، حتى إن الحكّام المسلمين كانوا يُذعنون لأيّ كلمةٍ تُقال في سبيل الحقّ، بل كانوا يُبدون تلهّفهم إلى تقبّل الحقّ.

وإنّ ما جرى بين السلطان “محمد الفاتح” و”خضر شلبي” رحمهما الله ليُعتَبَرُ واحِدًا من النماذجِ الكثيرة التي تُبرهن على صحّة هذا الأمر([1]).

وقد كان الخلفاء الراشدون من أمثال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه يتحاكمون مع يهوديٍّ أمام القاضي، وبما أن القوّة كانت مع الحقّ دائمًا فلا مجال إذًا للجبروت أبدًا كما وقع في الغرب، ومن ثمّ لم يحدث لدى أيّ شخصٍ امتعاضٌ أو نفورٌ من الدين، فالحياة التي ينشدها الآخرون في الأوطوبيا قد صارت حالًا واقعًا في هذا العالم الإسلاميّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1] ) يُروى أنّ معماريًّا غير مسلم شارك بناء “جامع الفاتح” الذي شُيّدَ في عهد السلطان “محمد الفاتح”، فقام هذا المعماري ببعض أعمال البناء وفقًا لرغبته الشخصيّة مخالفًا في ذلك تناسبَ الجسم العمرانيّ متجاهلًا أوامر المهندسين والقائمين على شؤون البناء، فلمّا علم السلطان محمد الفاتح بذلك أمر بقطع يده جزاءً له ونكالًا، وإذ بالمعماريّ يرفعُ دعوى قضائية ضد السلطان يعترض فيها على هذا الحكم السلطانيّ، فكان القاضي في هذه القضيّة “خضر شلبي”، فاستدعى كِلا المتخاصمين ليمثلا أمام عدالة المحكمة، وفعلًا حضر كِلاهما أمام “خضر شلبي” فاستمع لأقوالهما دون محاباةٍ للسلطان ولا مُطلٍ للمعماري، ثمّ أصدرَ حكمه بقطع يدِ السلطان الفاتح، فأخذتِ الحيرةُ والدهشةُ قلبَ ذلك المعماري، وتنبّه إلى مبدأ العدل والحقّ في الإسلام فكان ذلك سببًا في اعتناقه الإسلام، وقام بالعفو عن السلطان، وبعد انتهاء المحاكمة حدث أمرٌ جللٌ أذهل جميع الحاضرين؛ حيث أخرج السلطان الفاتح كرةً حديديّةً مصمتة بها نتوءات وأظهرها للقاضي “خضر شلبي”، وقال له:

“لو لم تحكم بما أنزل الله لكنت ساحقًا رأسك بهذه”!

فأخرج القاضي خنجرًا كان يُخفيه، وأظهره للسلطان، وقال له:

“وأنت يا مولاي لو لم ترضَ بما قضيتُ لقطَّعتُ جسدَك إربًا إربًا بهذا الخنجر”.

المصدر: فتح الله كولن، من البذرة إلى الثمرة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ2، 2015م، 26/ 27.

ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية وبعض العبارات من تصرف محرر الموقع.

 

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts