Reader Mode

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾(غَافِر:26)
في هذه الآية الكريمة يرد ذكر شخص مؤمن نشأ في عائلة فرعون وهو الذي أطلق عليه اسم “مؤمن آل فرعون”وورد خبره في سورة “المؤمن”. وقال فرعون ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي اْلأَرْضِ الْفَسَادَ﴾. ولكي نستطيع فهم الآية حق الفهم فمن المفيد تذكر الحوادث التي تسلسلت حتى وصلت إلى هذه النقطة.
كما هو معلوم تعرض فرعون للهزيمة في كل محاولاته تجاه موسى عليه السلام، وأخيرًا قرر قتله وما يشبه استئذان قومه في هذا القتل. وهذا الشيء الذي نسمعه ونستشفه من روح الآية يظهر لنا عجز فرعون وهزيمته ومغلوبيته وشعوره بأن يديه مغلولتان، فقوله ﴿ذَرُوني أَقْتُل مُوسَى﴾ دليل هذا العجز. لأن فرعون الذي هزم أمام موسى من الناحية العقلية والمنطقية والاستدلالية بدأ يطلب الإذن من قومه بصوت واهن وضعيف. وليس هذا أسلوب من يثق بنفسه، بل أسلوب من فقد كل عون له بالتدريج. أسلوب المستبد الذي يكون ظالماً عند قوته وذليلا عند ضعفه، أو يبدو ديمقراطيًا في الظاهر. وهذا الأسلوب من حاكم مستبد وظالم سخر قومه في بناء الأهرام ليس إلا رياء وذلة ولجوء نفاق إلى الشعب. وكان يريد أن يأخذ معه قوة جماهير الشعب المتعلق بعاداته القديمة ودينه، ويستغل هذا الشعب الذي حطمه وأذله عندما كان قويا. أجل!… كان مثـل جميع المتكبرين والدكتاتوريين السابقين المتحكمين في مقدرات العالم يريد التوسل إلى القوة وإلى تكوين رأي عام في صفه. كان مثل مشركي الجاهلية الذين كانوا يقولون عن الرسول صلى الله وسلم بأنه “يفرق بين المرء وزوجه، ويصدنا عما كان يعبد آباؤنا”. أما فرعون فكان يقول لهم ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر:26). يقول هذا وكأن كل شيء كان حتى ذلك الوقت يسير سيرًا حسنًا، وكأن الشعب كان مرفها وسعيدًا وأن موسى هو الذي يريد إفساد كل شيء ويدفع الشعب نحو الفوضى والاضطراب.
في هذه الأثناء يتدخل مؤمن آل فرعون -حسب بعض الروايات كان هذا الشخص شقيق آسيا والقائد العام لجيوش فرعون-. وليس من الممكن ألا يكون النبي موسى عليه السلام -صاحب الفراسة- غير دارٍ به. لقد كان يعرفه وقام بتخطيط لتقييم قوته ونفوذه، ونظم حركته بعد أخذ هذا الأمر بنظر الاعتبار. وعندما وصل فرعون إلى هذه النقطة من العجز والوهن والضعف، واضطر إلى الاستنجاد بشعبه الذي كان يعده من قبل هملا لا قيمة له، فقد استفاد موسى عليه السلام من ظهور هذا الشخص استفادة جيدة.
وقد أعطى القرآن الكريم لمؤمن آل فرعون مساحة أكبر من المساحة التي أعطاها لبعض الأنبيـاء. وعندما أظهر فرعون نفسه بمظهر الشـخص الديمقراطي المتوجه نحو شعبه، واجهه بأسلوب ديمقراطي قائلا له: “أتقتلون رجـلاً يقول ربي الله؟”. أي ألا تحملون أي احترام لعقائد النـاس وأفكارهم؟… وشيئا فشيئا يقوم بإعلان إيمانه، ويقول “يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا”. أمام هذا الخطاب المقنع الموجه للشعب التجأ فرعون إلى الديماغوغية:
“قـال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سـبيل الرشاد”متظاهرًا بالحرص على مصلحة الشعب.
وبينما كان فرعون يقترب من الهزيمة النهائية بسرعة كان موسى عليه السلام مطمئنًا غاية الاطمئنان، ولم يحرك تهديد فرعون له شعرة واحدة من رأسه. ولم يتأخر جوابه له: ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ (غافر:27)، مبيناً ثقته بالله تعالى ومؤكداً من جهة أخرى أن الله تعالى وحده هو رب العالمين.
والخلاصة أنه بجانب منظر فرعون وهو يهدد ويتوعد بالموت، وفي أثناء هذا التهديد والوعيد لا يستطيع إخفاء قلقه واضطرابه، وتناقضه العقلي والمنطقي والقلبي، حتى إنه يحاول الحصول على تأييد شعبه الذي طالما أهانه واستحقره، وهو في هذه السبيل لا يتردد عن استغلال العاطفة الدينية لشعبه. بل يقوم بمحاولة إسناد الفساد إلى عدوه لتشويه سمعته ناسـيًا أنه كان هو مصدر الفساد والإفساد في الأرض. وبينما كان يقوم في كل مناسـبة بعداء الدين،كان يتهم المتدينين بأنهم غيروا وسيغيرون روح الديـن. ومن جانب آخر نرى موسى عليه السلام وهو في غاية الاطمئنان والثبات، وبدلاً من اللجوء إلى الشعب يلجأ إلى الله، ويقوم ويعمد إلى مصارحة فرعون بغروره وتكبره. وكان هذا فصلا من النـزاع بين “حزب الله”وبين “حزب الشيطان”في ذلك العهد.

المصدر: فتح الله كولن، أضواء قرآنية في سماء الوجدان، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.