يقول بديع الزمان سعيد النورسي: “مَنْ أحسن رؤيته حَسُنتْ رويّتُه وجمُلَ فكره، ومن جمل فكره تمتّع بالحياة والتذّ بها”[1]، فمن الأهمية بمكان أن يحافظ الإنسان على هذه النظرة حتى في أصعب الأوقات وأحلك الظروف، وأن ينظر للجوانب الجميلة حتى في أشد الحوادث سلبية؛ فكم من الأحداث تبدو قبيحة شنيعة في الظاهر، لكنها تحمل في طياتها جمالياتٍ كثيرة! ومن ثم ينبغي للإنسان ألا يشكو من الزمان والحوادث والأزمات والمشقات، وأن يحرص على رؤية الجوانب الإيجابية للحوادث قدر الإمكان، حتى وإن اشتد الظلام، ولم تبقَ شعلة ضوء واحدة، وتلاشى لون كل شيء، وذهبت نضارة كلّ حيّ.
مع الأسف نرى بعض السياسيين اليوم يكذبون عن عمد، ولا يتقاعسون عن نشر أكاذيبهم وتكرارها.
فقد ننخدع فيما نراه خيرًا أو شرًّا، فما نحسبه خيرًا قد يكون شرًّا، وما نحسبه شرًّا قد يكون فيه الخير كلّه، ولقد حسم القرآن الكريم هذه المسألة بقوله: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/216).
إنّ جهل الجماهير وعدم إعمال عقولهم يُجرِّئ هؤلاء الكذابين بشكل خاص على أن يفسدوا بأكاذيبهم أفكار الشعب ويمزقوا المجتمع إربًا إربًا.
لقد تعرضت البشرية في مجمَلِ عصورِها إلى ابتلاءاتٍ منهِكةٍ، فلم يذق السائرون على نهج النبي صلى الله عليه وسلم خاصّة طعم الراحة، فتارة كان الكفّار، وتارة أخرى كان المنافقون يضيّقون عليهم حياتهم، وللأسف فإن كثيرًا ممن يتظاهرون بالإيمان قديمًا وحديثًا يرتكبون فظائع وفجائع لا يمكن تصوّرها، ولكي يقمعوا خصومَهم ويدمّروا أعداءهم ويصلوا إلى أهدافهم الخبيثة فإنهم يستحلّون كلّ وسيلةٍ ويتوسّلون بكلّ طريقة، وكان الكذب والافتراء والبهتان هي أسلحتهم الأساسية، فلا ريب أنه مهما ادعى هؤلاء الإيمان فهم يحملون أوصافًا كافرة.
بدلًا من إرهاق نشاطنا العقلي بهذه الأكاذيب علينا أن نواصل خدماتنا الجميلة، وأن نبحث عن حلول بديلة للتعامل مع الناس.
بينما يجب -كما قال الأستاذ النورسي- أن تكون كلُّ صفةٍ من صفات المسلم مسلمةً مثله، إلا أن هذا ليس أمرًا واقعًا، ولا دائمًا! ومثله لا يلزم أيضًا أن تكون صفات الكافر جميعها كافرةً ولا نابعةً من كفره[2]، فمثلًا الكذب صفة كافرة، فإذا كان المؤمن يقول كذبًا أو يكتب كذبًا فهذا يعني أنه يحمل صفة كافرة؛ لأن الإنسان عندما يكذب مرة فإنه بذلك يكون قد خطا خطوة نحو الكفر والنفاق، وابتعد خطوة أخرى عن الإيمان، فلا يمكن للكاذب وإن صلّى وصام وحج البيت أن يتخلص من كونه إنسانًا يحمل صفةً كافرة، ولا سيما وإن سعى إلى توصيل هذا الكذب إلى شرائح كبيرة من الشعب من خلال وسائل الإعلام، أو سجله في سجلات يصعب محوها، فإنه بذلك يكون قد أذنب ذنبًا مضاعفًا.
يجب أن ننكبّ على عملنا دون اكتراث للإهانات، ودون امتعاض أو استياء من أحد؛ ولْنرَ ما يفعله المولى.
ومع الأسف نرى بعض السياسيين اليوم يكذبون عن عمد، ولا يتقاعسون عن نشر أكاذيبهم وتكرارها، وفي المقابل تذيع وسائل الإعلام هي الأخرى هذه الأكاذيب على شرائح الشعب المختلفة رغم علمها بأن هذه الأكاذيب لا أصل لها، وتقوم بنقلِها إلى الأجيال القادمة، بل إنها أحيانًا تنفخ في هذه الأكاذيب وتهوِّل من شأنها بتعليقاتها وشروحاتها؛ ولذلك لا تظل هذه الكلمات التي تخرج من الأفواه مجرّدَ كذبةٍ بسيطةٍ تنتقل إلى بضعة أشخاص، بل ربما تصل إلى الملايين؛ بمعنى أنها تشوّش أذهان الملايين، وتفسد عقولهم.
كلّ إنسانٍ يُظهر ما تقتضيه طبيعته، وكلّ إناءٍ بما فيه ينضحُ.
وكما يوجد الكذابون يوجد كذلك الراتقون، فإذا ما أَطلق الكذابون أكاذيبَ من العيار الثقيل وأصبح من الصعب تصديقها ودخل الشكُّ في نفوس الجماهير؛ فإنّ الدَّور يأتي على هؤلاء الراتقين؛ فيتدخّلون ويأتون بدعائم تعضد هذه الأكاذيب، ويحاولون إقناع الجماهير بها بتأويلاتهم وتفسيراتهم، في محاولةٍ لتبرئة ساحة هؤلاء الكذابين أمام المجتمع قائلين: “كانت زلة لسان! خانهم التعبير عن مقصدهم بشكل تام، فقد كانوا يقصدون كذا وكذا…”؛ وبذلك يشجعون هؤلاء الكذابين أكثر وأكثر، ويفسحون لهم المجال لاختلاق أكاذيب أكبر وأعظم، وكم من الأبرياء يُجرَّمون ويُعبَث بسمعتهم ويُمارس ضدّهم ألوان من الظلم والاضطهاد نتيجة هذا التعاون بين الكذابين والراتقين! وإنّ جهل الجماهير وعدم إعمال عقولهم يُجرِّئ هؤلاء الكذابين بشكل خاص على أن يفسدوا بأكاذيبهم أفكار الشعب ويمزقوا المجتمع إربًا إربًا.
كثير ممن يتظاهرون بالإيمان قديمًا وحديثًا يرتكبون فجائع لا يمكن تصوّرها، ولكي يقمعوا خصومَهم ويصلوا إلى أهدافهم الخبيثة يستحلّون كلّ وسيلةٍ.
إن كلَّ إنسانٍ يُظهر ما تقتضيه طبيعته، وكلّ إناءٍ بما فيه ينضحُ؛ وهذا يعني أن العداوة والحقد والغل والحسد كامنٌ في الأصل في البَيض الموجود في مفرخة أفكار هؤلاء، لكنهم يبحثون عن ذريعة من أجل الإفصاح عن ذلك، وتهيئة الظروف لأفكارهم الخبيثة التي يضمرونها، كانوا يتلوّون حسدًا وحنقًا على الخدمات، ويتحرون السبل للإفصاح عن الأراجيف التي يخفونها؛ وبمجرد أن واتتهم الفرصة حتى حاولوا بأكاذيبهم وافتراءاتهم التي لا يتصوّرها عقلٌ إظهارَ عشراتِ الآلاف من الناس المبرَّئِين من كل شبهة على أنهم مجرمون، والواقع أنهم لو وقفوا أمام المرآة سيرون مَن الذي تنطبق عليه هذه الأكاذيب والافتراءات التي يُطلقونها!
لقد تعرضت البشرية في مجمَلِ عصورِها إلى ابتلاءاتٍ منهِكةٍ، فلم يذق السائرون على نهج النبي ﷺ خاصّة طعم الراحة.
فما يقع على عاتقنا إزاء كل هذا هو: مواصلة طريقنا بعزم الأنبياء والأولياء دون تردد أو تأزّم، والعمل على رؤية الجماليات المخفية وراء المتاعب والمشاقّ الظاهرة؛ لأن ذلك سيسوقنا إلى الأفكار الجميلة، والأفكار الجميلة ستسوقنا إلى التلذّذ بالحياة، يجب أن ننكبّ على عملنا دون اكتراث للإهانات، ودون امتعاض أو استياء من أحد؛ ولْنرَ ما يفعله المولى، فما يفعله هو الأجمل والأوْلى، أما إذا حاولتم الردّ على كل نقيق وهدير فستضيعون وقتكم وطاقتكم هباء، فضلًا عن ذلك لن تستطيعوا مواجهة هؤلاء الكذابين والراتقين المحترفين في عملهم؛ لأنهم سيخرجون عليكم كلّ يومٍ بكلمات زائفة وأقاويل باطلة، فلا تنتهي أكاذيبهم، ولا تنفد تأويلاتهم.
ينبغي للإنسان ألا يشكو من الزمان والحوادث والأزمات والمشقات، وأن يحرص على رؤية الجوانب الإيجابية للحوادث قدر الإمكان.
وبدلًا من إرهاق نشاطنا العقلي بمثل هذه السلبيات علينا أن نواصل خدماتنا الجميلة، وأن نبحث عن حلول بديلة للتعامل مع الناس، يجب أن نُعلي همتنا، وأن نجد وسيلة لجعل الواحد منا ألْفًا، وأن نحسن استغلال الفرص والإمكانات التي بأيدينا دون أن نقلّل من جدوى أعمالنا، أو أن نستصغر أدنى حركة نقوم بها، فلا نعرف كم من الثمار التي ستؤتيها هذه الأعمال الصغيرة في المستقبل! علينا ألا نربط خدماتنا بصغرنا، فكل شيء بيد الله سبحانه وتعالى، فهو إن شاء جعل من قطرات الأمطار بحارًا وأنهارًا.
“مَنْ أحسن رؤيته حَسُنتْ رويّتُه وجمُلَ فكره، ومن جمل فكره تمتّع بالحياة والتذّ بها”.
المهمّ هو أن نقابل هذه الابتلاءات الشديدة التي نتعرّض لها بالصبر والرضا، وأن نرحل إلى الآخرة دائنين لا مدينين، فأحيانًا يأتينا الشيطان ويوسوس في صدورنا ببعض الأفكار التي تدفعنا إلى الشكوى، من قبيل: “لقد كنا نسعى إلى الخدمة في سبيل الله دون تشوّف لأجر، مفعَمين بروح التفاني، وقد ضحينا في هذا السبيل بأنفسنا وأموالنا، فهل هذا هو المقابل؟!”، ولا جرم أن السبيل إلى عدم الانسياق وراء هذه الأفكار التي لا تتوافق مع الشعور بالعبودية هو الوقوف على سِيَر الأنبياء فهم الهداة والمرشدون لنا، والاقتداء بهم، واقتفاء آثارهم، ولا ننسَ أن تعرُّضَ أحبِّ العباد إلى الله لأقسى الابتلاءات هو سنة إلهية منذ القديم، وقانون إلهي لا يتغير، وعند النظر إلى قصص الأنبياء في القرآن الكريم سنلاحظ أنهم استقبلوا أشدّ أنواع الابتلاءات التي تعرّضوا لها بالصبر والرضا.. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبطال السائرين على نهجهم!
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، نوى الحقائق، ص 575.
[2] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، اللوامع، ص 851.