الإنسان مخلوقٌ له استعدادٌ جامع، ولذا يتمتّع بقدراتٍ خاصة بالعالم العلوي والسفلي؛ بمعنى أن الإنسان يتسم بمميزات ملكية وملكوتية، وجسمانية وروحانية، وبدنية وقلبية؛ ومن ثمّ فقد كان السبيل إلى ارتقائه ونجاته منوطًا باستخدام جميع تلك القوى المكنونة في طبيعته بما يتوافق مع الغاية من خلقته.
أجل، خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، فإذا ما عبّر هذا الإنسان عن ماهيته الملكوتية والروحانية بشكلٍ تام، وتغلّب على المشاعر السلبية المكنونة في ماهيته لحكمٍ ما، وأعطى إرادته حقها، ومارس حياته في إطار دائرة الشرع؛ صار كفرسي رهان مع الملائكة.. وكما يقول مولانا جلال الدين الرومي : “وصلَ إلى مقامٍ أحيانًا ما يغبطه عليه الملائكة بسبب ما يقوم به من أعمالٍ جميلة رغم ما رُكّب فيه من مشاعر جسمانية ونفسانية وشهوانية، وأحيانًا أخرى يخجل منه حتى الشياطين”.
إن تفعيل المشاعر الإيجابية الموجودة في طبيعة الإنسان يُعدّ وسيلةً لرقيّ الإنسان مباشرة.
أيها الإنسان “تأمّلْ في نفسك”
وهذا الأمر يقتضي من الإنسان أن يتأمل في نفسه جيّدًا ويتعرّف عليها بكل ما لها من قدرات ونقاط ضعفٍ ومزايا وعيوب، وأن يعتبرَ ما لديه من مشاعر سلبية سبيلًا إلى سموّه ورقيّه؛ لأن الإنسان إذا ما استطاع أن يتحكّم فيما لديه من مشاعر سلبية ووجّهها إلى الخير نمت نوى الجنة التي في داخله، وتشكّلت في القلب حياةٌ زاهرة تجعل هذه الدنيا دهليزًا إلى الجنة.. وعلى ذلك يمكنكم أن تشعروا بهذه الجنة مرة أخرى في كلّ جزء وكل لحظة من الدنيا، وأن تتلذّذوا وأنتم ما زلتم بها بجماليات الجنة الخالدة..
التصدّي للأهواء الجسمانية يُعتبر عبادة تكاد تبلغ أهمية الصلاة.
ويمكننا أن نقول تعبيرًا عن هذه الحقيقة: إن تفعيل المشاعر الإيجابية الموجودة في طبيعة الإنسان يُعدّ وسيلةً لرقيّ الإنسان مباشرة، أما النوى التي تبدو سلبية فإن استطاع الإنسان أن يقمعها عن طريق الحيطة والحذر ومراعاة أوامر الله تعالى ونواهيه، وأن يتجنّبَ تأثيراتها السلبية أصبحت هذه المشاعر أيضًا وسيلة لإحسانٍ آخر من الله تعالى. وبتعبير آخر؛ إن تصدّيكم لهذه المشاعر وثباتكم وصمودكم سيُصبح بمثابة عبادة لله تعالى.. فمثلًا الصلاة عبادة مهمة للغاية تنهض بالإنسان وترقى به إلى عرش الكمالات الإنسانية، وعلى نفس الشاكلة أيضًا فإن التصدّي للأهواء الجسمانية يُعتبر عبادة تكاد أن تبلغ أهمية الصلاة، ويشير الحق سبحانه وتعالى إلى هذه الحقيقة قائلًا: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ (سورة النَّازِعَاتِ: 79/40-41).. ولذا أنبه مرة أخرى إلى أن هذه المشاعر التي تبدو سلبية من نواحيها الظاهرية إن استطاع الإنسان أن يتحكم فيها ويوجهها إلى الخير أصبحت من أهم الوسائل التي تساعده على دخول الجنة.
لم يخلق اللهُ تعالى الإنسانَ مقيدًا كالحيوان؛ فالإنسان ليس عبدًا لغرائزه، بل منحه الله الإرادة.
الإنسانُ إنسانٌ بإرادته
لم يخلق اللهُ تعالى الإنسانَ مقيدًا كالحيوان؛ بمعنى أن الإنسان ليس عبدًا لغرائزه، فقد منح الله الإنسان الإرادة، وقيّد ما سيسبغه عليه من نعم بإعطائه إرداته حقها في إطار الشرط العادي والأخذ بالأسباب.
والواقع أنه ليس ثمة علاقةٌ من حيث قانون السبب والنتيجة بين ما يصنعه الإنسان وبين النعم التي يمنّها الله تعالى عليه، أما الألطاف السبحانية فقد ربطها الله سبحانه وتعالى بتلك الأعمال.. فمثلًا كان للحق سبحانه أن يقول: “لو دعوتموني لأنزلت عليكم النجوم من السماء”، وحينذاك لا يصح أن نفتش عن أيّ علاقة بين رفع الأيدي بالدعاء وإنزال النجوم من السماء، وعلى نفس الشاكلة لا ينبغي لنا أن نفتش عن العلاقة في إطار قانون السبب والنتيجة بين ما يقوم به العبد من عبادات ويتكبده من مشقات وبين ألطاف الله تعالى وفيوضاته؛ حيث إن الثانية تفوق الأولى أضعافًا مضاعفة؛ بمعنى أن الله تعالى قد اعتبر الأعمال التي يقوم بها العبد في الدنيا في إطار الشرط العادي وكأنها نواة، ويوم القيامة ينمّيها ويغذّيها حتى يردّها على عبده أشجارًا وبساتين وحدائق أبدية في الجنة.
إذا استطاع الإنسان أن يتحكّم فيما لديه من مشاعر سلبية ووجّهها إلى الخير نمت نوى الجنة التي في داخله.
هجمات من اليمين والشمال
ويمكننا بالنسبة للمشاعر الإيجابية المكنونة في فطرة الإنسان والتي تحتل مكانة مهمة في ترقّيه أن نشبهها بالجانب الأيمن للإنسان، وبالنسبة للمشاعر السلبية أن نشبهها بالجانب الأيسر منه.. وأعتقد أن الله تعالى يشير إلى هذه الحقيقة في قوله: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/17).
أجل، نجد الشيطان يمنِّي نفسه وهو ينظر إلى الضعف الكائن في ماهية الإنسان وكأنه يقول: لآتينهم من بين أيديهم” فَأُسَفِّهَ أحلامهم المستقبلية، وأدمر جسورهم التي تصل بهم إلى الجنة، وأوجههم إلى جهنم.. ولآتينهم “من خلفهم”، فأصوّر ماضيَهم مقبرةً عظيمة، وأجعلهم يجحدون آباءهم وأجدادهم، وأوهمهم أن الحياة بدأت معهم.. ولآتينهم “عن أيمانهم”؛ فإن عملوا خيرًا مكرتُ بهم وشَوَّهت أعمالهم بالرياء والسمعة، وإن تحدثوا عن الله ورسوله ﷺ أو كتبوا عنهما أعجبتهم بأنفسهم ووجهتُ أنظارهم إلى ذواتهم، ودمرتُ أعمالهم الخيّرة النقية بمشاعر الأنانية، وفي النهاية لآتينهم “عن شمائلهم”؛ فأزيّن لهم السيئات، وأقدم لهم السم في العسل على أطباق من ذهب، فأُضِلهم عن الطريق.
الإنسان يتسم بمميزات ملكية وملكوتية، وجسمانية وروحانية، وبدنية وقلبية.
وفي هذا الصدد يقول سيدنا رسول الله ﷺ: “حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ” .. وعلى هذا فقد حُفّت الجنة بأمور شاقة لا تطيقها النفس، غير أن الإنسان يمكنه أن يدخل هذه الجنة بالتغلب على هذه المكاره وتجاوزها، وعبور الأنهار، وتسلق المنحدرات، وتخطي بحار القيح والصديد، أما السبيل الموصل إلى جهنم فمُحاطٌ برغبات الإنسان الجسمانية والنفسانية والشهوانية، ومن ثمّ فإن أكثر ما يمكن أن يغري الشيطان به الإنسان هو أن يجعله ينساق وراء رغباته وشهواته الجسمانية والبدنية مثل الأكل، والشرب، والركون إلى الدعة والراحة.
وقد أشار فضيلة الأستاذ النورسي رحمه الله إلى هذه الثغرات الموجودة في ماهية الإنسان والبارزة كثيرًا في عصرنا على وجه الخصوص في رسالته “الهُجمات الست” ، وهي: حب الجاه، والخوف، والطمع، والقومية السلبية، والأنانية، وحب الدعة والخمول.. ويمكننا أن نضيف إليها نقاط ضعف أخرى ينفذ بها الشيطان إلى داخلنا مثل: الحرص، والحسد، ومدّ البصر إلى عرض وشرف هذا أو ذاك، والمباهاة والتفاخر.
المصدر: فتح الله كولن، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.