إن البسملة تبدأ بحرف الجر (الباء)، وحرف الجرِّ يجرُّ الاسمَ الذي يدخل هو عليه، وكلمة “اسم” هنا مجرور بالباء وعلامةُ جرِّهِ الكسرةُ، والكسرةُ والانكسار من جذر صرفيٍّ واحد، وكأن الكسرةَ هنا في بادئِ الكلام تُعلِّمنا الولوجَ إلى بابه تعالى بقلبٍ منكسرٍ، والحقيقةُ أنه لا بدّ لنا ونحن نباشِرُ أيَّ أمرٍ ذي بالٍ أن تكون قلوبُنا منكسرةً تجاهَ الحقِّ تعالى وأن نتبرَّأ من حولِنا وقوَّتِنا معتمدين على حولِهِ وقوَّتِهِ، حتى يكون عجزُنا وفقرُنا بمثابةِ شافعٍ ومُسْتَدْعٍ لحولِهِ وقوَّتِهِ…
وللباء معانٍ، منها: “المصاحبة”، وباءُ المصاحبةِ لغةً: هي التي يحسنُ في موضِعِها (مَعَ)، فالإنسان إن كان يريد معيَّةَ اللهِ ورسولِهِ والقربَ منهما فليقل: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ﴾، ومِن معانيها: “الإلصاق”، فالإنسان بالبسمَلَةِ يلتصِقُ ويتشبَّثُ برحمانيّة الله ورحيميته، وهذا هو كمالُ المقصودِ، وكلُّ السرِّ يبدأُ بنقطةِ الباءِ، وينتهي عند ميمِ “الرحيم”.
وإذا حذفنا نقطة الباء فسيخطر على البال خطٌّ كالألِفِ يمتد من الأزل إلى الأبد، والألِف عند الصوفية ترمز إلى الله تعالى، وقبل أن نضعَ نقطةً تحت هذا الخطِّ فنجعلَه باءً، كان ذلك النور العظيم اللامتناهي غيرَ معروف أو معثورٍ عليه؛ لأنه لم يكن هناك ظلٌّ في تلك المرحلة، إذ كل شيء يُعرف بضده.
والنقطة ترمزُ إلى سيدنا محمد، والرسولُ نواةٌ وخُلاصةٌ للكائنات، ولولاه لما أمكننا معرفة الله، والله تعالى كان يَرَى ذاته في ذاته، ويَعلَم ذاتَه بعلمه الذاتي، ولكنه تعالى أراد أن يُرَى بعيون أخرى،ويُعرَفَ مِن قِبَلِ آخرين، ولذلك خَلق نورَ سيدنا محمد وخَلقَ الكونَ من نورِهِ، وفي نهاية المطاف ظهر الإنسانُ وبرز للعيان كثمرةٍ للكون، وهذا هو مصداقُ المقولة المشهورة: “إن الله لَيُرى في المرآة المحمدية دائمًا”، إن المرآةَ وكلَّ ما يَتراءى فيها لَيُوجَد في ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ﴾.
وأوَّلُ اسمٍ في البسملة هو لفظُ الجلالة: “الله”، فنحن نبدأُ أعمالَنا باسم الله تعالى، و”الرحيم” في آخر البسملة هو من صفاتِ الله تعالى، إنه صفةٌ مشتركةٌ بينه تعالى وبين حبيبه صلوات الله عليه، فلقد وَصف حبيبَهُ الكريمَ في القرآن بصفتِهِ هو، فقال: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ يعني بذلك سيِّدَنا محمدًا.
وهو تعالى إذ يقول: ﴿وَمَۤا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين﴾ (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/107) فإنه يؤكِّد رحيمية سيدنا محمد الذي بُعث رحمةً للعالمين، ففي البسملة يُتحدَّث عن الله، مع الإشارة إلى سيدنا محمد الذي عرَّفَنَا بالله.
وللباء فِعلٌ يتعلَّقُ هو بِهِ، والحقيقة هي أن الكونَ كلَّه عبارةٌ عن أفعال، وهذا الفعلُ مقدَّرٌ مقدَّمًا أو مؤخَّرًا. فنحن نأتي بلفظِ الجلالة “الله” في صدرِ الكلامِ، حيث إن الله تعالى كان ولم يكن فعلٌ، فالله كان “فاعلًا” بِذاته، ويمكن أن نقول: إن أفعالَهُ كانت مُصاحِبةً لذاته، فحينما يَصِلُ الأمر إلى هذه النقطة فإننا نُمْسِكُ عن الكلام.
والمتعلَّق المقدر هو “أبدأ”، ويمكن أن يقدَّرَ المتعلَّقُ: “ابتدائي”؛ فإن قدرناه: “أَبْدَأُ” فالفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره: “أنا”، وإن قدرناه: “ابْتِدَائي” فالفاعل هو ياء المتكلم.
ــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، خواطر حول سورة الفاتحة، الفصل الثاني الاستعداد الروحي للفاتحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.