سؤال: “كان كرمُ رسولِ الله ﷺ لحكمة، فلم تذهب ذرة من كرمه سُدًى، بل غدَتْ قوةً للإسلام”، فكيف ذلك؟
الجواب: الكرم فطرة وركن ركين لدى مفخرة الإنسانية ﷺ وعمق من أعماقه، والأصل أن كل ما عنده من صفة عادت عليه أضعافًا، ذلك أنه أحسن توظيفها وأحكمَها فالكرم والمروءة والجود والسخاء شيء واحدٌ وتشير إلى النقطة نفسها وإن تباينت بفروق يسيرة، وقد تخلّق صلى الله عليه وسلم بأخلاق الله تعالى، وأتقن استخدامها ولم يفُته منها ولو ذرة واحدة؛ فضاعف الحق تعالى له ثواب التخلّق بها وأعادها عوائدَ مضاعفة.
كلُّ إنسانٍ تعرّف إلى واحدٍ من جوانب عظَمة النبيّ ﷺ أذعن له ورضيه.
أجل، استثمر مفخرة الإنسانية ﷺ هذا الخُلُق ففاق الخَلْقَ جميعًا، بل والملائكة أيضًا، لأنه مفخرة العالمين أجمع؛ وهذا واقعٌ لكل إنسان، أي كل ما يبذله المرء في سبيل الله سيعود إليه أضعافًا، والقرآن صريحٌ بهذا، من ذلك قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 6/160). أجل، لو أن إنسانًا أحسن مرةً فقط لضاعفها الحق تعالى أضعافًا كثيرة، وأعادها إليه كرةً أخرى، وهذا أقل الفضل الإلهي؛ فثمة مائةُ ضِعفٍ وألفُ ضعفٍ وبلا حساب، ومردّ هذا إلى إخلاص العامل، بل قد تُضاعف أحيانًا آلافًا وفق عناية العبد بالعبادة والطاعة، بل مليونًا في أيام مخصوصة أو بنسبة تضحيته وإيثاره، وتطوّعه وصلته الوثقى بالله.
إذًا هذا ممكن لكل إنسان، ولكنَّ استثمارَ طاقة استيعابية على هذا النحو، وتوظيفها بشكل تام من خصائص سيدنا رسول الله ﷺ فحسب، حتى إنه ليس فيمن نسلِّم بمكانتهم من أنبياء عظام وأولياء كرام وأصفياء فخام من استطاع مطلقًا أن يستغلّ مثل نبيّنا ما وهبه الحق تعالى؛ لذلك لم يعودوا بالقدر نفسه من عطاء الحق تعالى.
والكرم والكرامة والإكرام: من جذر واحد، فالكرم هو أن يغدو حبُّ الخير مدارَ عناية الإنسان ومُسْتَمْسَكَه، أو أن يتملكه شعورٌ بفعل الخير للآخرين، وهذا الشعور لدى كلّ إنسان بقدرٍ تامًّا كان أم ناقصًا، لكن من الناس مَن يخمد هذا الشعور جذريًّا، ومنهم من ينمّيه بتفعيله دائمًا؛ ينمّيه حتى يصبحَ طريقُ الكرم جادته المطروقة، فيعيش جوَادًا ينثر لآلئ الكرم من حوله دائمًا دون أن يضلَّ أو يزيغ يمينًا أو يسارًا قطّ.
إن العطاء الإلهي والموهبة الربانية لمفخرة الإنسانية محمد ﷺ عطاء عظيم وموهبة عظيمة جدًّا بقدر رسالته التي سيحملها، ولا غرو فهو الإنسان المصطفى حقًّا؛ وقد أُعِدّ وجُهِّز وفقًا لعظم رسالته من نوى يمكنها أن تحمل هذه المسؤولية الثقيلة، ثم نمّى ﷺ تلك النوى التي أودعها الحق تعالى فيه، فجاء منها ما لا يخطر ببال.
إنه سبحانه ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 21/23). أجل، لا يُقال له: “لماذا فعلت هذا هكذا؟”، ونعتقد في هذا الصدد: أن الله سبحانه وتعالى تفضّل على رسوله ﷺ ابتداءً بكماليّاتٍ خاصّة لتمام علمه بأنه ﷺ سيستغلّها على وجهها الأمثل، وأنعم الله عليه في علمه الأزلي المحيط بعظمةٍ لا يبلغها بشرٌ ولا شيء من خلقه، فعاد هذا اللطف والإحسان الإلهي على مفخرة الإنسانية في حياته الخاصة وحياة الأمة الإسلامية سواء.
وكرمُه ﷺ من هذا القبيل، ومعناه أولًا عنده ﷺ: رغبةٌ في حبّ الخير أو الباعث على فعل الخير مع التهيُّؤ والأهلية لأن تصدر عنه الكرامة، فهو كلما أنفق وجاد أغدق عليه الله تعالى العطاء، ونسمي خوارق العادات عند الأنبياء معجزاتٍ لأنها تصديق لدعوى النبوة؛ والمعجزة: “أمر خارق للعادة، يُقْصَدُ بها إظهار صدق من ادعى أنه رسول من الله”، وهو ما كانت الماهية الأحمدية مؤهَّلةً له.
والكرمُ خصلةٌ محبوبةٌ في ذاتها، بل إننا نحب الناس لكرمهم، ومن لطيف الأمثال: “الإنسان عبدُ الإحسان”، فللكرم فاعلية نحقِّقُ بها مهامَّ كثيرة، ونجتاز بها صعابًا عسيرة.
والعربُ يومئذ أهلُ الكرم، وعُنِيَ الشعر الجاهلي منذ مطلعه بمشهدين مهمين: الكرم، والشجاعة. أجل، لقد عنوا بهما جميعًا منذ “امرئ القيس” حتى “طرفة بن العبد” إن صحت تلك الأشعار عنهما، فلقد كان ذلك من بقية دين إبراهيم عليه السلام يومئذ، ومما يُحكى ويرِدُ عن كرم إبراهيم عليه السلام الأسطوري:
أن الملائكة قال بعضهم لبعض: اتخذ ربُّنا من نطفة خليلًا، وقد أعطاه ملكًا عظيمًا جزيلًا، فأوحى الله تعالى إلى الملائكة: اعمدوا إلى أزهدكم ورئيسكم، فوقع الاتفاق على جبريل وميكائيل، فنزلا إلى إبراهيم في يوم جمع غنمه، وكان لإبراهيم عليه السلام أربعة آلاف راع، وأربعة آلاف كلب، في عنق كل كلب طوق من ذهب، وأربعون ألف غنمة حلابة، وما شاء الله من الخيل والجمال، فوقف الملكان في طرفي الجمع، فقال أحدهما بصوت عذب: “سُبُّوح قُدُّوس”، فجاوبه الثاني: “ربُّ الملائكة والرُّوح”؛ فقال إبراهيم عليه السلام: أعيداها ولكما ربع مالي، ثم قال أعيداها: ولكما نصف مالي، ثم قال: أعيداها ولكما مالي وولدي وجسدي، فنادت ملائكة السموات: هذا هو الكرم، هذا هو الكرم، فسمعوا مناديًا من العرش يقول: الخليل موافق لخليله.
“سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ”[1]: هذه الكلمات مختارةٌ بدقّةٍ لتقديسِ الله تعالى وتسبيحِه، وللتسبيح ألفاظ دقيقة، كما أنّ البلاغيين وفرسان البيان يدركون أسرار الشعر وكلماته، ويقولون: “ما أعذبها من كلمات! لقد وقعت من موسيقى الشعر موقعًا”؛ وهكذا تدرك معانيَ التسبيح العميقة أرواحٌ فريدة عرفت الذات الإلـهيّة وانكشفت لبصيرتها، وهذا حال إبراهيم عليه السلام؛ لذا عجب كلَّ العجب لما سمع تسبيحًا كهذا من الملائكة، فقال ما قال؛ فإذا كانت علاقة الثروة بهذه المشاعر وثيقةً، فإنها لا تناقض النبوة بل هي دعامة مهمة جدًّا.
نعم، إن بقايا كرم إبراهيم عليه السلام لم تكن غريبةً على المكّيّين، فضربَ كلٌّ منهم بنصيبه منه بحسب حاله؛ غير أنه لا أحد منهم قطّ بلغ به كرمه أن ينافس سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قبل النبوّة؛ لأن رسول الله آخر ثمار شجرة إبراهيم عليه السلام ومجمعها؛ فكأنه ﷺ وَرِثَ كرم إبراهيم عليه السلام كلَّه؛ وعظُم هذا الكرمُ لا سيما بعد الرسالة، وكأنه تجسّد على الأرض؛ لا سيما في شهر رمضان كان أجود بالخير من الريح المرسلة كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها[2]؛ فما كان يبيت وعنده شيء يأكله ذو روح.
ولقد كانت مهمة تبليغ الرسالة له ﷺ مثاليةً عظمى، بل معشوقه؛ حتى إنه يكاد يموت حين يعوقه عن أدائها عائق، فيخفف الله تعالى عنه ويخاطبه مواسيًا: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (سُورَةُ الْكَهْفِ: 18/6)، وقوله: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/3).
لذا بذل سيدنا رسول الله ﷺ كل ما وهبه الحق تعالى في سبيل دعوة الحق، أي قدَّم كل ما أعطاه الله لإحياء دينه، لقد وهبه إقدامًا فائقًا، فحطم عليه الصلاة والسلام بهذا الإقدام كل غارة يجب تحطيمها، وتَخلَّق باسم الحق تعالى “الجواد” على أكمل وجه؛ لكنه لم يبدد طاقاته هنا وهناك بلا حساب؛ بل وضعها في طريق الحقِّ بحيطةٍ وحَذَرٍ على نحوٍ لم يُعهد من قبل، ونثر ما أنفقه نثر البذور المكفورة في باطن الأرض، فأنبتت كلُّ حبةٍ نثرَها سنبلةً بل سبعَ سنابل.
الكرم هو أن يغدو حبُّ الخير مدارَ عناية الإنسان ومُسْتَمْسَكَه، أو أن يتملكه شعورٌ بفعل الخير للآخرين.
وكان لسيدِنا رسول الله ﷺ وأمِّنا خديجة رضي الله عنها ثروةً عظيمةً في فترةٍ ما؛ وما أتت عليهما سنتان أو ثلاث من البعثة وفي بيتهم شيء يُؤكَل؛ لقد أفنَتِ الدعوة تلك الثروة العظيمة، إذ أُنفقت على مآدب الضيافة، أو تألُّفِ هذا وتطييب قلب ذاك والحدِّ من النزاعات؛ استُهلكت تلك الثروة العظيمة، وما مضت على مفخرة الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم خمس سنوات أو ست حتى غدا يربط على بطنه حجرًا لئلّا يشعر بالجوع؛ أنفق ما أنفق في موضعه بحكمةٍ مبرمة، فألّفَ قلوبًا كثيرة إلى الإسلام، وكشف عن سرِّ “الإنسانُ عبدُ الإحسان” بكلِّ ما فيه من جاذبية وسحر.
كَشَفَ عن ذلك حتى إنّ من عميت أعينهم عن فضائله وأمانته ووفائه سلَّمُوا قطعًا بكرمه صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان حتى آخر عمره؛ وهذا الخُلُق النبوي جعل الناس يومئذٍ يوقنون أنه قد يبلغ الإنسان هذه المنزلة من الكرم بتوكله على الله فحسب، وتلك أَمارة النبوة.
أجل، هكذا كان سيدنا رسول الله ﷺ يدخل القلوب قلبًا قلبًا، وينال بهذا الكرم العُجاب ما لم ينلْه بصفات الوفاء والصدق والأمانة. أجل، فكلُّ إنسانٍ تعرّف إلى واحدٍ من جوانب عظَمة النبيّ ﷺ أذعن له ورضيه، فقد أحسن ﷺ توجيهَ كرمه، واستثمره حتى بدت كل حبة من ثروته كأنها سنبلة أنبتت سبع سنابل، بل سبعين سنبلة، بل سبعين ألف سنبلة، فحَسَبَ كل مسألة على هذا النحو في عالم التخطيط والمشروعات، ونَثَرَ ثروته هكذا كالبذور، وسرعان ما أثمرت بعناية الله وكرمِه سنابل، شَمَخَتْ وتفتحت أزهارها حتى صارت الأرضُ كلُّها ربيعًا.
الكرم فطرة وركن ركين لدى مفخرة الإنسانية ﷺ وعمق من أعماقه.
وهذا شأن الأبطال الفدائيّين الذين نذروا حياتهم في سبيل رسالة الإحياء في يومنا هذا، أصحابِ رسالة مهمة، ورثةِ دعوة النبوة.
لقد أحيا سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم شعور الكرم في عصره، وبلغ به أسمى درجة، فعلى ممثّلي دعوة النبوة في يومنا هذا أن يقتدوا به في ذلك.
دلَّ هذا أنَّه يمكن استثمار كلّ ما وهبنا الله جلّ جلاله في الدعوة وغايتها السامية مثلما فعل مفخرة الإنسانية، دون أن نضيع ولو عود زرنيخ؛ وأن نعجِّل حركةَ التطورات الإيجابية التي نصل إليها وتخدم ديننا. أجل، إنَّ الكرمَ آتى وسيؤتي ثمارًا مهمّةً جدًّا لمستقبل هذه الأمة، وقيّمةً وجديرةً ببذلِ كلِّ تضحية.
[1] صحيح مسلم، الصلاة، 223.
[2] سنن النسائي، الصيام، 2.