في العام السادس من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى مكة بقصد العمرة؛ حتى يعلّمهم كيف تُؤدَّى العمرة وفقًا لأسسِ الإسلام وروحه، غير أن قريشًا استخدمت كلَّ قوّتها وشدتها للحيلولة دون إتمام هذا الأمر، فلما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أرسل إليهم سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ليخبرهم بأن المسلمين ما جاؤوا للقتال بل لأداء العمرة، فاحتبس المشركون عثمان رضي الله عنه في مكة[2]، حتى أُشيع أنه قد قُتل، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا المسلمين إلى البيعة[3]، وإثر هذه الأحداث ارتفعت حدّة التوتر، وبلغ السيلُ الزُّبَى، ووضعَ الصحابة أياديهم على مقابضِ سيوفهم استعدادًا للمواجهة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد وعدهم بأداء العمرة والطواف حول الكعبة، كما أنهم قطعوا على صهوة جيادِهم طريقًا يبلغ أربعمائة كيلومتر، وكابدوا مشقّات ذلك الزمان، ووصلوا إلى مكانٍ قريبٍ من جدة، غير أنهم فوجئوا باعتراض المشركين لهم، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في نفسه وكرامته وأعطى صحابته إشارةً بالاقتحام فما كان بوسع خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص أو جيش المشركين كله الذي يبلغ قوامه عشرةَ آلافِ شخصٍ أن يقف أو يعترض طريق هؤلاء الصحابة المغاوير؛ إذ كانوا قادرين على دحرِ المشركين والوصول إلى مكة، ولكنّ تصرُّفًا كهذا ما كان ليفيد شيئًا بالنسبة لغاياتهم العليا وأهدافهم السامية؛ لأن الطرف المقابل كان مليئًا بأولئك الذين سيكتب اللهُ لهم الهداية لاحقًا.
لم تكد تمرّ سنتان على صلح الحديبية حتى شعر بعضُ وجهاء مكة بفجوةٍ كبيرة في صفوف جبهتهم وتنامي قوة المسلمين.
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم؛ رجلُ الحيطةِ والحذرِ يعلم جيّدًا ما يمكن أن يؤول إليه أيُّ تصرفٍ يقوم به، ولذا عقد مع المشركين صلحَ الحديبية، بعد أن بايعه الصحابة الكرام على الحرب معه حتى الموت وعلى عدم الفرار؛ وبهذا كان من الأيسر على المسلمين قبولُ الرجوع مرة أخرى إلى المدينة، وهم الذين بايعوه على أمرٍ أصعب من هذا الأمر بكثير.. وهذا التعامل الفريد من النبي صلى الله عليه وسلم الناشئ عن فطنته وبصيرته، مصدرُه الوحي غير المتْلوّ، أو هو نتيجةٌ فاضت بها فطرته.
قد تبدو للمسلمين مواد الصلح جائرة بحقّهم في الظاهر؛ فهؤلاء الصحابة الذين كان يُناهزُ عددهم ألفًا وخمسمائة كانت قلوبهم تتحّرق شوقًا واشتياقًا إلى الكعبة المشرفة، ومع ذلك اضطروا إلى الرجوع من حيث أتوا دون أن يطوفوا بالكعبة، كان هذا الأمر في الظاهر خسارة كبيرة للمسلمين، ولكن هؤلاء الصحابة الذين أَمِنوا على أنفسهم في الجزيرة العربية استطاعوا بفضل صلح الحديبية الانتشار بين العشائر والقبائل المختلفة في كلِّ مكان، وتهيَّأت لهم الفرصة لتحديث الناس عن جماليات الإسلام، وآيات القرآن، كما أن هذا الجو السلمي قد ألان قلوب المشركين الجامدة القاسية، فلم تكد تمرّ سنتان على صلح الحديبية حتى شعر بعضُ وجهاء مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة بفجوةٍ كبيرة في صفوف جبهتهم وتنامي قوة المسلمين، فجاؤوا إلى المدينة المنورة وأعلنوا إسلامهم عن طيبِ نفسٍ منهم طوعًا لا كرهًا.
كان النبي ﷺ؛ رجلُ الحيطةِ والحذرِ يعلم جيّدًا ما يمكن أن يؤول إليه أيُّ تصرفٍ يقوم به.
ولا يقتصر الأمرُ على الثلاثة الذين ذكرناهم فحسب، بل يتجاوز المئات، وربما الآلاف وفقًا لظروف هذا العصر، فبفضل حلمه صلى الله عليه وسلم ولينه تفكّكت الجبهاتُ المعارضة على اختلاف أنواعها في هذا الجوّ السلمي المخْمَلِيّ اللطيف الذي انبثق عن صلح الحديبية، وجاءت إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته؛ جاءت بلا إكراه، ودخلت في دين الله أفواجًا.. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشرف كلَّ هذه الأحداث بنظرةٍ أفقيّة ويقيّمها برؤيته الإجمالية؛ ولذا لم يكن مقصده الذهاب إلى مكة، والطواف بالكعبة، وفتح مكة فحسب، بل كان ينشد أكثر من ذلك؛ فتحَ القلوب، وكسبَ الناس، ورغم أن شروط الصلح كانت جائرة في الظاهر على المسلمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بصنيعه هذا قد فوّت الفرصة على القبائل في الجزيرة العربية بأن يقولوا: “لقد دخل محمدٌ وأصحابُه مكة وسفكوا الدماء في البيت الحرام”، كما أن مكة قد فُتحت بعد وقت يسير دون إراقة دماء، وحُفظت هيبة الحرم الشريف، والواقع أن بعض الأشخاص ممن لم يستوعبوا دقّة الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم قد دخلوا في نِزاعٍ وشجار مع بعض المشركين، ولكن هذا الأمر يشكّل حالة استثنائيّة.