سؤال: هل الكوارث السماوية والأرضية مقدمات لكوارث أكبر -عافانا الله- أم قِلاعٌ دونها؟
الجواب: قبل الجواب لنتأمل مسائل مثل: ما المصيبة، وما مفهومها عند الناس، وكيف يجب أن ننظر إليها؟
الحقُّ أنَّه لا أحدَ يُدرك ما للمصيبة من دلالات سوى المؤمنين سواء أكانت هذه المصيبة حرقًا أم غرقًا أم زلزالًا أم هيلانًا؛ فالمصائب لا تُنذر من يهوي في أودية الإنكار والكفر والضلال والغفلة، ويعيش في دركات مثل التي قال الله عنها ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/171)؛ ويشير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه المسألة المهمة بقوله: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ، وَلَيسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ”[1].
قد يبتليك الله تعالى بشوكة في قدمك؛ فيحملك هذا على الحيطة والحذر من شوكات أكثر وأكبر.
إذًا ليس في الزلزال أو الحريق أو السيل أو الإرهاب دلالةٌ عند الصمّ البكم العُمي، وإن كانت له دلالات كثيرة عند المؤمنين.
هذه حقيقة جليّة، يليها الجواب عن السؤال من وجوه:
1- للمصائب السماويّة والأرضية أسبابٌ ومقدماتٌ لا بدّ لفهمها وإدراكها من معرفة “تأويل الأحاديث” إلى حدٍّ ما. نعم، ثمّة من خصّها بتفسير الرؤى، ونرى أن لها معنى آخر يتجلّى في فقهنا لحركة الكون وأحداثه، أي إن “تأويل الأحاديث” هو: فقهٌ ذو وجوه لدلالات حركة الكون وأحداثه على وجود الحق تعالى ووحدانيته، والمضيّ في تأمّلها في أفق “هَلْ مِنْ مَزِيد؟” تأملًا يزيد الإيمان بالله اطّرادًا، وتتحقق به “معرفة الله” ثم “محبة الله” ثم “السير إلى الله” مرورًا باللذة الروحية وفقًا المعنى الصوفي.
وفي ضوء هذا تتضح أهمّيّة إدراك الإنذار الإلهي في المصائب الحادثة؛ وهذا الإدراك مِنْ تأويل الأحاديث؛ فالفقه الإيماني للكون وأحداثه يدلُّك أن كل مصيبة في بلدةٍ من حرق وسيلٍ وهَيلَان وانفجار وغيرها إنذارٌ لأهلها، فظاهرها مصيبة وباطنها رحمة لنا، فمهما بدت أنها شرّ في ظاهرها إلّا أنّها خيرٌ في حقيقتها ونتيجتها، ولا يتأتّى لكل امرئٍ إدراكها وفقهها.
قد يقع زلزال بقوة ثلاث درجات بمقياس “ريختر”، فيتذكر كثيرون ربهم؛ فيتوجهون إلى الله مسبِّبِ الأسباب وقد سكنت الأسباب كلها، ثم يتوجّهون بعدئذٍ توجّهًا يتجلى به “سرّ الأحدية” في “نور التوحيد”، وبهذا يصبحون جميعًا في اتصالٍ مع الله، يكلمونه بلا وسيط، وقد يغدو امرؤٌ وليًّا باتصالٍ كهذا وإن كان كلمح البصر، بل قد يُنزِله الجنة.
وقد يحمل الزلزال الشعبَ وكبار رجال الدولة على أمورٍ مهمّة في الحياة كأن يُجْروا تعديلات إدارية متنوّعة لإنهاء فوضى العُمْران إحدى أكبر مشكلاتنا اليوم، ويُعِدُّوا إحصائية دقيقة للعشوائيات.
فـعندما يقع زلزال كهذا قد تتصدع مبانٍ وتتكسر نوافذ وتُخرّب أشياء وحتى تحدث وَفَيَاتٌ… مع هذا كله قد يكون الزلزال محض خيرٍ لنا على نحو ما ذكرنا من نتائج آنفًا، أو هو شرٌّ قليلٌ فتحَ الأبوابَ لخير كثير.
وتحلّ كارثةُ السيل بمكان ما، فتكون عقابًا لمن حقّ عليهم العذاب، ومن مات من غيرهم فهو شهيد، وما فُقِدَ من مالٍ فهو صدقة، علاوةً على أن كثيرين يتوجّهون إلى ربهم رهبةً وخشيةً، ويبلغون درجة “القرب” منه سبحانه؛ بل أظن أن درجةً كهذه لا يمكن أن تُنال ولو بصلاة ألف ركعة في اليوم الواحد.
ومن النتائج الحميدة للسيول أن يقوم المهندسون بدراسة التربة لمنع الهَيلان، ويحتاط الخبراء والأكاديميون في هذا، وترعى المنظمات التطوعية والمسؤولون هذا العمل؛ وهذا كلّه خيرٌ محض.
2- ما ينبغي أن يتسلل إلينا أيُّ تشاؤم من تلك الكوارث، فهي تحذيرٌ إلهي، ونتائجها أو مظاهرها الملكوتية -وإن كانت مصيبةً- خيرٌ، فحقيقتها تجلّيات رحيمة وإنذارات إلهية، فقد يبتليك الله تعالى بشوكة في قدمك؛ فيحملك هذا على الحيطة والحذر من شوكات أكثر وأكبر.
ناهيك أنه ما من صدفة في الكون؛ فمقاليد كل شيءٍ بيده تعالى، وكلّ شيء خَلَقَه بقدر، وإنما يتحقق في أوانه بمشيئته وقدرته سبحانه وتعالى، وإرادتنا شرط عاديّ لا غير، فليوجِّه العبدُ إرادته إلى الخير، وليستعملها فيه دائمًا؛ إذًا فما ينبغي التشاؤم عند تقييم ما حلَّ بنا من مصائب، وينبغي تفريج ستائر الخير التي تتوارى خلفها، ومواصلة صلتنا بالله بتوجيه إرادتنا نحو الخير دائمًا.
3- هذا تقييم شخصي لا يُدركُه من لم يُعايروا صلتهم الروحية بالله عيارًا دقيقًا، بل قد يعترضون عليه لكونه ليس موضوعيًّا، وقد تودي المصائب السماوية والأرضية بحياة الشيوخ والأطفال والنساء الأبرياء، فلنقل: إن هؤلاء حالوا دون وقوع المصائب الأكبر كأنهم مانعة الصواعق.
الفقه الإيماني للكون وأحداثه يدلُّك أن كل مصيبة في بلدةٍ من حرق وسيلٍ وهَيلَان وانفجار وغيرها إنذارٌ لأهلها، فظاهرها مصيبة وباطنها رحمة لنا.
ومثل هذا الفقه لا ينكشف إلا لِلَّدُنّيين وأهل الله، فهم أهل هذا المقام: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ (سُورَةُ الصَّافَّاتِ: 37/103)، وكأنهم يمدون أعناقهم للحق تعالى وكأنها كبش فداء مثلما فعل إسماعيل عليه السلام وقال: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ (سُورَةُ الصَّافَّاتِ: 37/102)، أو كما قال الشاعر “نسيمي”:
إنني لك عاشق، وعنك لن أستغني
وإنْ بخنجر طعنتَ قلبي فعنك لن أستغني
وإن شقُّوني كزكريا نصفينِ
وإن وضعوا المنشار على مفرق رأسي فعنك لن أستغني
وإن أحرقوا جسدي، وجففوا في النار رفاتي
وذَرَّوا تراب جثتي فعنك لن أستغني
المصائب لا تُنذر من يهوي في أودية الإنكار والكفر والضلال والغفلة.
إنَّ من يُقتلون بيد الإرهاب هم أهلنا، وما يحدث لا يضرّ أحدًا سوانا، فيلحق بنا كل الضرر حيث الأموات من الناشئة والرجال والنساء واليتامى والأرامل والمنازل المهدمة والبلاد الخربة والأراضي المهجورة، فنموت حسرةً على كل هذا ونكتوي ألـمًا، وتفيض أعيننا دمعًا كل يوم؛ لكنني أظن أن لهذه الحوادث وظيفة الموانع من الكوارث العظمى. أجل، يُخيّل إليّ أن تلك المنظمةَ الإرهابية التي نُعاني منها الآن تشبه مانعًا يحول دون حربٍ محتملةٍ مع اليونان وسوريا لتأجّج عواملها باستمرارٍ.
والحاصلُ أنَّ المصيبة الصغيرة سدٌّ يحول دون مصيبة أكبر، والهيلانات الصغيرة تحذيرٌ من هيلانات أكبر.
[1] صحيح مسلم، الزهد، 64.