سؤال: إلامَ يكون الشدُّ المعنويُّ عند المؤمن ؟ وكيف يجب أن يكون؟
الجواب: الشدُّ المعنويّ بالمعنى الإيجابي هو شعور الإنسان برغبة عارمة إزاء الأمور الحسنة وتلهّفه عليها وتشرّبه بها وتيقّظه تجاهها، إنه توقانُ الإنسان -بعشق- للدين والقضايا والأفكار والمشاعر الدينية، والتلوي في ألم وأسًى من أجلها، والقلقُ بهذا الخصوص، والتفكيرُ فيها ليلَ نهار كما يفكّر الشخص في محبوبته، والقيامُ والقعود بها، وترقّبُ ميعادِ أن يكون الدين روحًا للحياة، وكأنه يترقّب الوصال مع محبوبته، وإيمانُه بأن أعظم أمانيه وأسمى غاياته في حياته هو توجيهُه الإنسانيةَ -بدءًا من أمته- إلى تلك الأفكار والمشاعر الدينية.
إن كنا ننتظِرُ انبعاثًا جديدًا، فَلْنَعْلَمْ أن ذلك يقع على عواتق من يُحرِزُونَ الشدّ المعنوي.
فضلًا عن ذلك لا بدّ للإنسان أن يشعر بالبغض والنفور من الكفر والجحود والضلالة وسوء الأخلاق حتى يحافظ على حيويته ونشاطه، وعلى العكس فإن حدث وأظهر الإنسان قليلًا من التراخي والتقصير ما استطاع أن يفعل أيَّ شيء، وما تمكن من إنجاز أي خدمة.
ولا يمكن تحقيق ما يرضي الله إلا عن طريق السعي والشوق العارم في سبيل هيمنة ما يأمره ويرضى عنه من الفكر والفلسفة والوئام الاجتماعي على الحياة.
فإن لم يكن لدى الفرد إصرارٌ وعزمٌ على مكافحة كل أنواع الانحراف والتفلّت أو إن كان يدنو من الكفر وشتى أنواع الانحراف ولا ينزعج ولا يتأثر سلبيًّا، كل هذا يعني أنه فقد شدّه المعنويَّ تمامًا واستسلم للعجز كُلّيّةً.
المجتمع حين يفقد شدَّه المعنوي كبِّر عليه أربعًا، لأنه ميْتٌ، وإن كان حيًّا صوريًّا.
وموقف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص جليٌّ واضح، يقول عليه الصلاة والسلام:”لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”[1]، ويقول صلى الله عليه وسلم حول مسألة الحفاظ على الشدّ المعنوي تجاه جميع الأوامر والنواهي وتحديد موقفنا منها “ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”[2].
أجل، من أحسّ ووجد في ضميره هذه الثلاث فقد استشعر حلاوة الإيمان.
أولًا: “أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا”؛ يعني ينبغي ألا يوجد شيء يفضُلُهما، فتبادلُ الحبّ الفطريّ بين الأبوين وأولادهما -مهما كان عميقًا- لا بدَّ أن يسبقه -وغيرَه- علاقةُ الإنسان بالله ورسوله صلى الله عليه سلم من حيث العقل والمنطق والفكر والتقدير.
إن الحبَّ والتعلّقَ بالله ورسوله ينطلقان من التفكّر والشعور والبحث والاكتشاف، فإن استشعر الإنسان وتذوّقَ -بالبحث والتفكُّرِ- حلاوةَ هذا الحبّ في وجدانه أيقَنَ بِيُتْمِها وألا شيءَ يعدلها ألبتَّة.
إن أعظم الجرائم التي ارتكبها أعداء الدين والدولة ضدّ هذه الأمة هي تَغْيِيبُ وإذابة شدّها المعنوي وتبديد روحها وقِيَمِها الأساسيّة.
وهذا هو الوصف الأول المنشود في المؤمن الذي ذاق حلاوة الإيمان: أن يقدم الله ورسوله على كل شيء، وبعبارة أشمل: أن يُفَضِّلَ أركانَ الإيمان على كلّ شيءٍ، فإذا ما امتلأت الصدور بحب الله، واستضاءت الوجوه بنور الله نستشعِرُ كلّ شيء، ونشعرُ بمعنى الوجود، وإلا فالعدم والوجود سواء.
وهكذا فإن المؤمن الذي امتزج بهذا المفهوم يُحِبُّ جميع المؤمنين بل يحبُّ كل الكائنات لا لشيءٍ سوى لله الذي يفنى في محبَّتِهِ جلّ وعلا، يحبهم بلا غرض وبلا انتظارِ مقابل. أجل “يحب المرءَ لا يحبّه إلا لله”.
وإنّ هذه المسألة لَتُعتَبَرُ عامِلًا مهمًّا للغاية في تشكّل مجتمع الطمأنينة والوجدان الذي يرتضيه الله، أما الأمر المهمّ الآخر الذي ذُكر في الحديث –ثالثًا- فهو اتخاذ موقف ضد الكفر والشدُّ المعنوي تجاهه: “وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”. أجل، لو لم يكره المؤمن أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذفَ في النار لَمَا ذاق طعمَ الإيمان، أي إنّ على المؤمن أن تأخذه رعشةُ وينتابه التقزُّزُ والتقبُّض عن الكفر والجحود والضلالة وعن كلّ ما هو بغيض وملتوٍ ومنحرِف.
إن من خلا قلبه من البغض لهذه الصفات التي ذكرناها آنفًا لا يمكن أن تكون لديه أدنى رغبة في أن يتلاشى الكفر ويحل محله الإيمان فيهيمن على قلوب الأجيال، ولتحقيق هذا لا بد وأن يشعر الإنسان بعشقٍ عارمٍ للإيمان وبُغضٍ دفينٍ للكفر.
أجل، إن اتخاذ موقف مناهضٍ للكفر الذي يترتب عليه كل أنواع الشرور والمفاسد والفوضى والاضطراب والتفلّت وعدم الاستقرار شرطٌ جِدُّ مهمٍّ في سبيل حصول المؤمن على الشدّ المعنويّ، ومن أجل صالح الدولة والأمة بل والإنسانية بأسرها.
إن أعظم الجرائم التي ارتكبها أعداء الدين والدولة ضدّ هذه الأمة هي تَغْيِيبُ وإذابة شدّها المعنوي وتبديد روحها وقِيَمِها الأساسيّة، وهذا الفكر الملعون أطلق على الجهاد بغيًا، وعلى النصر احتلالًا، وحوّل أمةً جسورةً عريقةً إلى قُطْعَان من الغنم وعلى حدّ قَول الشاعر “محمد إقبال” فلم يَعُد يؤثّر فيها احتلال أو استغلال، أو تلاعبٌ بعزتها وشرفها، فمثلًا إن انتُهك عرضها، ودُنِّس شرفها، ولم يعد هناك ما يسمى شرف واعتبار، واخْتُرِمَ كلُّ شيء فيها فلن يكون بوسعها حتى أن تتأفَّفَ؛ وذلك لأنها فقدت شدَّها المعنوي.
وكما يمكن للإنسان -بفضل الشد المعنوي هذا- أن ينال كل ما يرغبه ويتوق إليه، فكذلك يمكنه به تجنّبُ ما لا يحبّه الله أو يُناقِضُ رضوانه جلّ جلاله.
والخلاصة: إن الشدَّ المعنويَّ هو رغبةٌ مُلِحَّةٌ في الإيمان، ومَقْتٌ بغيضٌ للكفر والضلالة والطغيان، ولا يَمُتُّ إليه بِصِلَةٍ الاحتشادُ والنزاعُ في الشوارع.
إن ذا الشد المعنوي هو مَن يستشعرُ في وجدانه انفعالًا داخليًّا كأنّه ناجمٌ عن ألف مشاجرة ومشاجرة…
هو الذي يتضوّرُ بما تجرّعه ألوفًا من المعاناة…
هو الذي لا ينشغِلُ سوى بمشاكلِ أمّته…
هو الذي يرضى أن يُقذفَ به في جهنّم، وأن يموت ويحيا مرّاتٍ ومرّات فداءً لأمّته وفي سبيل نجاتها…
هو الذي يستشعر في وجدانه بهموم مجتمعه وأمّته…
هو الذي يتحسّر أنينًا، ويتضوَّرُ أَلَـمــًا، حيالَ مَن يُشرِفون على جهنّم ويتتابعون سقوطًا فيها كحلقات السلسلة المربوطة ببعضها…
هو الذي يحمِلُ في وجدانه هموم أصحاب الضمائر المعذّبة ممن بلا خلاقَ لهم بالإيمان…
هو مَن تتّقِدُ في أعماقه نار الشعورِ بالمسؤوليّة، وجذوة الشفقة فيقول: كيف يتحمل هؤلاء حياة المعاناة هذه، وكيف يواصلون حياتهم في هذا الجو الخانق من الكفر والضلالة؟!
الشدُّ المعنويّ بالمعنى الإيجابي هو شعور الإنسان برغبة عارمة إزاء الأمور الحسنة وتلهّفه عليها وتشرّبه بها وتيقّظه تجاهها.
ها هو ذا إنسان الشد المعنويّ!
إن أمثالَ هؤلاء يُحرِزون كلَّ يومٍ مرتبة الشهادة والجهاد بما يحملونه من الأحاسيس الإنسانية النقية، لذلك لا يمكن أن تُخيفهم أو تُثَبِّط من عزيمتِهم أو تقودهم إلى الفتور والتراخي صعوبةُ الظروف، ولا ضيق السبل، ولا تتابع الظلمات، ولا سيطرة الضباب والدخان على البيئة حولهم، بل لا يمكن لهذا كلّه أن يؤثّر فيهم فضلًا عن أن يلوي أعناقهم للكفر أبدًا، وهذا ما نقصده بالشد المعنوي.
فالمجتمع حين يفقد شدَّه المعنوي كبِّر عليه أربعًا، لأنه ميْتٌ، وإن كان حيًّا صوريًّا، وحتّى تلحقَ أجسادهم بأرواحهم الميتة يسلط الله تعالى الظالمين عليهم فيسحقون أجسادهم لِتُقْبَرَ مع الأرواح.
الموت يبدأ أوّلًا في الروح والقلب، ثم يسري إلى الجسد، أما من لم تمت أرواحهم فإنّ الله يرعاهم فلا تسحقهم أقدام عدوهم، وبالعكس فإن الهزيمة المعنوية تعقبها هزيمةٌ مادّيّة.
فضلًا عن ذلك فإن رغبة هؤلاء في حياة دينيّة ما هو إلا وهم وعبث، لأنّ مَن لم يحافظوا على شدّهم المعنويّ -أيًّا كانوا- لا عاقبةَ لهم سوى الموت.
فإن كنا ننتظِرُ انبعاثًا جديدًا، فَلْنَعْلَمْ أن ذلك يقع على عواتق من يُحرِزُونَ الشدّ المعنوي.
والله أعلَمُ وهو المستعان.
[1] صحيح البخاري، الإيمان، 7؛ صحيح مسلم، الإيمان، 70.
[2] صحيح البخاري، الإيمان، 8.