العيد هو يوم لقاء للمشاعر وللفكر الإسلامي الذي يفيض فيه من إنائه ويتماوج وينتشر فيحتضن كل جانب… كأن كل ماضينا مستقر ومستكنّ فيه… كأن ماضينا يتكلم أو يهذي في حلمه… ثم يستيقظ ويدبّ فيه النشاط. لقد تسربت كل خصائص ومميزات عالمنا -من الماضي وحتى الآن- إلى بوتقته وإلى جوه العام، إلى درجة أننا نشعر في أعماقنا كلما أدركنا أيامه المباركات وكأننا نعيش أيامنا المجيدة السابقة. وعندما نغمض أعيننا لنصيخ السمع للأعياد، تتراءى أمام خيالنا تلك الأيام التي كانت راياتنا تخفق عالية في السماء، فنشعر بطعم تلك الأيام وبلذاتها المجيدة، ونعيش مرة أخرى في صفحات ذلك التاريخ العملاق… بـل نعيش -بالأصح- قِيَمنا وهويتنا والمعانيَ العائدة لنا. وهكذا نكون وكأننا نصيخ بسمعنا في هذه الأيام إلى مجموعة من الأنغام المتناسقة الإيقاع والمتآلفة من أحزان القلب ومن أفراحه.
أجل!.. نعيش في العيد من حين لآخر شـعور غربة وهجران، وأحياناً يداهمنا شـعور لذيذ من لهفتنا إلى الوصال. وتبدو لنا بعض الأعياد حاليا وكانها برزخ بين الفرح والحزن. فبينما تحتضن أقوى المشاعر العلوية السامية أرواحنا وتثيرها، نرى الأحزان من جانب آخر وهي تُضخ إلى قلوبنـا. أجل!.. فكل منا يعيش في هذه الأيام بمشاعر متداخلة من فرح غامر ومن حزن يكاد يبكينا. ففي اللحظة التي نشعر فيها بكدرِ وحزنِ فقْدِنا -في يوم من الأيام- جناتنا، تتراءى أمام أعيننا في اللحظة نفسها خيالات الفردوس الذي نؤمن بأننا سـنصل إليه في المستقبل فنكاد نغيب عن أنفسنا في لجة الفرح والبهجة. أي بينما تذرف عيوننا دموعا كمطر الربيع، تبدو أمام أرواحنا مناظر سفوح الجنة. أجل!.. على الرغم من كل شيء فإن الحيوية الدافقة لخيالات أيام العيد المليئة بالحسرة تبدو وكأنها تهدي لنا هدية موسم ربيع جديد ناضر حتى ولو كنا في أيام الخريف أو في أواسط الشتاء. في هذه الأيام الزاخرة بالأنوار نشعر بأننا نحيا من جديد بحزن لطيف وبانشراح عميق وبأمل عريض واسع يلفنا ويثير مشاعرنا، وفي كل مكان نرتاده ونـزوره نشعر وكأن الخضر u كان هناك قبلنا وفرش سجادته على تلك الأرض، فندخل في عالم من البعث بعد الموت.
الأعياد أكثر المناسبات العملية لتقوية العلاقات الإنسانية، وأفضل أرضية للأذواق القلبية، وأفضل جو لنشر المحبة والتعاون والامتزاج، وأفضل مسرح لسماع أدبيات الحوار والتساند.
الأصوات الحبيبة في العيد… البسمات المرسومة على الشفاه المنبعثة من الأرواح… مظاهر الإخاء التي تراها في كل مكان… إلقاء السلام على كل شخص تصادفه واحتضانك لـه… توسـيع دائرة الإخاء بحيث تشمل الجميع… الضيافة وكرمها في كل مكان، وكأنها ولائم أعراس… ومظاهر الاحتفال في كل ناحية… يجري كل هذا أمام أعيننا ليهمس في آذاننا باسم الإخاء العالمي أشياء وأشياء.
تهفو نفوسنا إلى الأعياد، وتعتبرها ضرورة ماسة، ونحاول أن نشعر بهذه الأيـام المباركة بكل عمق وبكل هبـاتها وهداياها وألطافها… وتتصاعد مشـاعرنـا وانفعالاتنا بالتكبيرات والتهليلات… ويتطهر عالمنا الداخلي بالاستغفار… ونلقي بفرح ونشوة جميع همومنا وأحزاننا جانبا… ونتنفس بالمدائح النبوية والأناشيد الدينية وبصورِ وأنواع المناجاة التي تشكل بُعدا من أبعاد ثقافتنا. وما أكثر الألحان التي نستمع إليها دون كلمات أو أبيات في هذه الأيام الخصبة الغنية! أما الذين بقوا بمشاعرهم وأفكارهم على صلة بجذور هذه الأمة وبمعانيها وبقيمها، وكذلك الذين بقوا ببنية وطبيعة أسرهم وعوائلهم مرتبطين بعالمِ وبدنيا هذه الأمة يحسون طعما آخر ومعني آخر في هذا الشريط الزمني الزاخر بالألوان. وسـواء أكان المحتفلون بالعيد جالسين على الفرش والوسائد في خيامهم، أم جالسين قرب مواقدهم أو مدافئهم المتواضعة، أو جالسين في ظلال أغصان أشجار حدائقهم وفي حضن بساط أخضر، أو في غرف رحبة وصالونات واسعة في قصورهم، يشربون الشاي والقهوة، ويتناولون أنواع الحلوى… في كل هـذه الأجـواء يفوح عطر الاحتفال بالعيد في كل مكان، وتنتشر فرحة العيـد فوق جميع الرؤوس. الأصوات الدافئة والكلمات التي نسمعها في هذا الجو الحريري للعيد، تمس القلوب المملوءة بالإيمان، والمطمئنة به حتى تصل إلى أعماق تاريخنا المجيد مثيرة لدينا تداعيات كلٌّ منها بقيمة هذا العالم.
ينتهز الأطفال سـاعات العيـد ودقائقه المفتوحة على الجميع والمتميزة بالمسامحة ليشاركوا بعواطفهم الجياشة وبأصواتهم التي تشبه زقزقة العصافير وتغريد البلابل التي تنتقل من غصن لغصن فيلعبون ويمرحون في جو العيد حتى منتصف الليل حتى ينال منهم التعب بعد قيامهم بحركات لا تخطر على البال. وهكذا يجعلوننا نعيش عيدا داخل العيد.
الأعياد أكثر المناسبات العملية لتقوية العلاقات الإنسانية، وأفضل أرضية للأذواق القلبية، وأفضل جو لنشر المحبة والتعاون والامتزاج، وأفضل مسرح لسماع أدبيات الحوار والتساند. وفي ساعاته ودقائقه الزرقاء زرقة السماء نستمتع -بجانب جميع اللذائذ الجسدية المشروعة- ونأخذ نصيبنا من موائد الفكر والمشاعر ونستمع إلى تناغم أرواحنا. أما عندما نؤدي عباداتنا وطاعاتنا بإحساس وشعور… وعندما تحيطنا التكبيرات والتهليلات من كل صوب، ويأتي العيد بطعمه الفريد، ومذاقه الخاص، وجوه المتميز، وينسكب إلى أفئدتنا موجة إثر موجة، لتغرق أرواحنا بجو الآخرة… عند ذلك نشعر بأن القيود التي تربطنا مع هذه الدنيا الفانية ترتخي وتنحل قيدا إثر قيد، ونحسب أنفسنا وكأننا في عالم آخر جديـد… نحسب هذا ونرى أن كل دقيقة مستثارة بالبهجة في العيد تنـزل كغيث من رحمة الله على قلوبنا الظامئة للعيد منذ سنوات، ليغسل جوانب أرواحنا التي يبست ويرطبها، ويصبح سورا يحافظ على زهور الأمل المتفتحة في أعماق صدورنا، وينفخ فيها الحياة.
نحن نرى على الدوام أن الأعياد بالنسبة لأصحاب القلوب المؤمنة تقوم بإشباع أذواقهم الأخروية، وأشواقهم القلبية، ووَلَعِهم الذي لا يعرف الفتور، وآمالهم في الحياة الأبدية الخالدة. ومن يدري عدد الأشواق التي نصل بها إليها. والحقيقة أن من الصعب للمؤمنين معرفة ما تحس به قلوبهم في الأعياد وما يشعرون بـه، ويشعرون بصعوبة التعبير عنه. لأن من الضروري لفهم الأحاسيس التي تسكبها الحياة -ضمن تجلياتها الأخرويـة- في الصدور الطاهرة، الشعور بهذه النسمات بدرجة شعور هذه الصدور والبلوغ مبلغها في هذا الأمر.
نحن نرى على الدوام أن الأعياد بالنسبة لأصحاب القلوب المؤمنة تقوم بإشباع أذواقهم الأخروية، وأشواقهم القلبية، ووَلَعِهم الذي لا يعرف الفتور، وآمالهم في الحياة الأبدية الخالدة.
يتم تلمس أسـلوب سـحري في تصرفات المؤمنين في الأعياد، وفي سلوكهم المتوازن المطبوع بطابع الوقار، وفي نظراتهم العميقة، وأحاديثهم التي تفوح بالإخلاص حتى كأنك تستمع إلى حوار سحري من حوارات الجنة. أجل!.. إن هؤلاء الذين يفهمون جـو الأحاسيس الخاصة بالأعياد، بعد القيام بإيفاء وظائفهم ومسؤولياتهم، يبدون نضجا وسعة أفق إلى درجة أن كل نظراتهم تحمل على الدوام عمقا ربانيا، ويحمل كل تصرف من تصرفاتهم وكل حركة من حركاتهم وسكناتهم جدية سـاحرة، ويحمل صمتهم شيئا وراء هذا العالم، وبسماتهم لطافة دافئة. كل واحد يأخذ -حسب درجته- نصيبه من سحر العيد، حيث يمكن سماع هذا من كل مؤمن وملاحظته في وجه كل واحد منهم. يمكن هذا لأن أغلبية هؤلاء الناس هم من الذيـن لم يتيسر لهم التعلم والقراءة ولم يتلقوا تثقيفا جديا. ولكن ترى عليهم آثارا غنية من مكتسبات التكايـا والزوايـا والمدارس الدينية الأهلية والمدارس الرسمية، ويملكون غنى روحيا على الدوام، ويتصرفون على ضوئه. ومعظم هؤلاء على درجة كبيرة من الارتباط بالإسلام، ويتمتعون بدرجة كبيرة من الإخلاص، حتى كأنهم ليسوا أناسا عاديين، بل موازينَ دقيقة تزن كل قيم تاريخنا المجيد، ويمثلون حراسة حية للخزانة البلورية لهذه القيم المتجمعة فيها طوال عصور عديدة من التاريخ. ونحس في سلوكهم وتصرفاتهم بلذة ثمرات الجنة وبسكينة سفوح الفردوس وحلاوة مشاهدة الجمال الإلهي. نظراتهم جدية في كل شيء، وبنية تفكيرهم متينة في كل مسألة. وهذا يظهر كيف أن أعماق أرواحهم لا تزال محافظة على جذور عميقة من المعاني، مما يهمس في قلوبنا مجد الماضي وأمل المستقبل. لأن هؤلاء بتواضعهم وعزة أنفسهم وإخلاصهم وحالاتهم الروحية الممزوجة بالحزن والبهجة يقدمون أنموذجا غير موجود في الأمم الأخرى. في مظهرهم العام ترى -بجانب الألوان الخفية الناتجة عن الانتساب لأمة مجيدة ذات تاريخ عريق- صفات الأرواح التي نضجت بالقرآن من جدية ووقار. وقـد لا ينتبه بعضنا لهذا، ولكن الأمر هكذا، لذا فالنغمات التي تنساب من نظراتهم وتنسكب إلى أرواحنا على الدوام تعكس أصداء واسعة في أعماقنا.