Reader Mode

معلومٌ أن الطفل سرعان ما ينسجم مع كلّ وسطٍ يعيش فيه؛ ولذا يجب على الأبوين والمعلّمين والمربّين أن يحولوا بينه وبين المعاصي حتى لا يألفها قلبُه وعقلُه وأذنه وعينه وسائر أحاسيسه، وأن يكفلوا له بيئةً صالحةً نقيّةً ينشأ ويترعرع فيها، فإن حدث ذلك بالفعل انعكسَ الجوّ الديني الذي يشعر به الطفل في أسرته على البيئة الخارجية، فتتوافق البيئة الخارجية مع البيئة الداخليّة.

إن البؤسَ والحرمان الحقيقيّ هو الحرمان من روح القرآن ومن الثراء الناتج عن جعل القرآن روحًا للحياة.

ومن الأهمّيّة بمكانٍ أن يحافظ الإنسانُ على كرامته وشرفه واستقامة فكره ومشاعره في هذا العصر الذي استُخدِمت فيه كلُّ القوى كعناصرَ للضغط والاضطهاد، وإنني على قناعة بأن تربية النشء تربيةً قرآنيّةً وتخلُّقه بأخلاق القرآن ومناصرته الحقّ دائمًا، ووصوله إلى مستوى وقوّة لا تقوى على مواجهتها القوى التي لا تُقهر هو أهمّ السبل الناجعة بالنسبة لنا كأمّة للحفاظ على وجودنا وبقائنا؛ لأن أنموذج المجتمع المثالي في عالم الحسّ والوجدان أو في عالم الواقع لا يتحقّق إلا في ظلّ القرآن الكريم وقد تحقّق.

علينا أن نتّخذَ القرآن الكريم أستاذًا ومربّيًا نَتَتَلْمَذُ بين يديه، وإن هذه التلمذة هي السبيل الأمثل لكشف القرآن عن أسراره لنا.

لقد نشأ في المناخ النورانيّ للقرآن الكريم هذا المجتمعُ الإسلاميّ الرائع الذي أضاء حقبةً من الزمن تتجاوز الألف سنة، وأبهر الأبصار دائمًا بتجسيد الأيادي الأمينة له، وكان ظهور هذا المجتمع وتغييره لمجرى التاريخ هو أكثر الحوادث إثارة للدهشة والإعجاب في عالم الإنسانية، ولقد استطاع أفراد هذا المجتمع الرائع الذين لم تتكدّر عقولهم بأي تيّار فلسفيّ أن يصِلوا إلى مثل هذا المستوى بفضل ما استقَوْه من المنبع الصافي وما ارتشفوه من معين القرآن النقي.

كان صلى الله عليه وسلم خُلُقه القرآن، فمن اقتدى به شعر بالقرآن وعاشه ونما وانتعش به، أما مَن عجزوا عن إدراك مثل هذه الجماليات والروعة -وإن تراءى ارتباطهم بالقرآن- فهم ذَوُو أرواحٍ وأفكارٍ سطحيّة لم ينفذوا إلى روح القرآن.

لقد نشأ في المناخ النورانيّ للقرآن الكريم المجتمعُ الإسلاميّ الرائع الذي أضاء حقبةً من الزمن تتجاوز الألف سنة، وأبهر الأبصار دائمًا بتجسيد الأيادي الأمينة له.

إنّ فهمَ القرآن والانبعاث به مرتبطٌ بالتعمّق في لبه وجوهره ومكنوناته، ولذا فإن مَن يتسلّون بترديد عبارات القرآن وألفاظه -بألسنتهم دون قلوبهم- وإن كانوا ينالون الثواب بقراءته إلا أنهم لا قبل لهم أن يكوِّنوا مجتمعًا صالحًا والله أعلم، فالأصل في علاقتنا بالقرآن هو التوجّه إليه بقلبنا وقالبنا وشعورنا وأحاسيسنا وإرادتنا وإدراكنا والشعور به بكل أبعاد ذاتيّتنا، وبفضل هذا التوجّه والشعور نُحِسُّ بمخاطبة الله تعالى لنا فننمو وننتعش كالبراعم التي وصلها الضوء والماء، ونبلغ أعماقًا مختلفةً في كلّ جملةٍ وكلمةٍ من آياته، بل ونصل إلى أفق المشاهدة لخريطة السماوات في نفس اللحظة التي نشاهد فيها أطلسَ روحنا.

وأعتقد أنه من الممكن أن يتشكّل جيلٌ جديد في جوٍّ ملائم كهذا، وعند ذلك تبدأ وتيرة الدائرة الصالحة، ويكشف لنا القرآن عن كلّ أسراره، وكلّما ارتقينا بسبب هذا الثراء المعرفيّ من العلم إلى الإيمان ومن الإيمان إلى المعرفة وصلنا مع اختلاف مستوى الخطاب الموجَّه إلينا إلى أعماقٍ داخليّةٍ أخرى، وأدركنا بشكلٍ آخر أبعادَ كلمات الله تعالى.

يجب على الأبوين والمعلّمين والمربّين أن يحولوا بين الأبناء وبين المعاصي حتى لا تألفها قلوبُهم وعقولُهم وسائر أحاسيسهم.

أجل، علينا أن نتّخذَ القرآن الكريم أستاذًا ومربّيًا نَتَتَلْمَذُ بين يديه، وإن هذه التلمذة -التي تعطي أولويّة للحركيّة وتعتمد على التطبيق- هي السبيل الأمثل لكشف القرآن عن أسراره لنا، وإلا فإن كان احترامُنا للقرآن وارتباطنا به مقصورًا على الشكل ولم نقدِر على سبر أغواره عشنا بعيدين عنه رغم قربنا منه والتصاقنا به، إن البؤسَ والحرمان الحقيقيّ هو الحرمان من روح القرآن ومن الثراء الناتج عن جعل القرآن روحًا للحياة، فالأصل في علاقتنا بالقرآن الكريم هو تحريك الآلية الإنسانية بعد المعرفة، فعلى الإنسان أن يجعل من معارفه قوّةً محرّكةً ليُحقّق ما فهمه من القرآن مراعيًا الظروف والأحوال والأجواء، فإن تيسّر ذلك تسنّم الإنسانُ مكانَه المتوائم مع غاية خلقه، ونجا من الضياع.