سؤال: ماذا يعني اتّساع الأفق الفكري؟ وكيف يمكن الحصول على أفقٍ فكريٍّ واسِعٍ؟
الجواب: أولًا: إننا في عصرنا هذا بأمسِّ الحاجة إلى أرباب الأفقِ الفكري الواسع، العاشقين البحثَ والحقيقةَ، القادرين على التحليلِ والتركيب، وإقامةِ ما يتناولونه من مسائل على أرضيات وأسسٍ علميّة، بيد أنَّه ينبغي لنا أن نعلمَ بدايةً بأنه ليس من اليسير أن يُقبِل الناس في عصرنا وينفتحوا على تعمُّقٍ وتوسّعٍ في هذا الاتجاه؛ إذ إننا عَلِقْنَا بين فَكَّيْ هجمات الخارج الغاشمة المباغتة وأوجهِ ضعفنا الداخلية في فترةٍ حقَّقَ الغربُ فيها لنفسه ثورةً علميّةً وفكريّةً وصناعيّة؛ ولهذا صرنا وكأننا أُصِبْنا بالشللِ التّام اعتبارًا من القرن التاسع عشر، وانعقدَ لسانُنا لِما تعرَّضْنا له من ضَرَبات أخرسَتْنا تمامًا، أما الحوادث التي أعقبت ذلك فقد جاءت ومعها ابتلاءات ومصائب أعظم من تلك؛ فإذ بنا جُعِلْنا أمّة محشورةً في ساحةٍ ضيِّقةٍ للغاية، وقد عُزِلَتْ عن الدنيا، لا تهتمّ بآلام الشعوب الأخرى، ولا تنفتح على أيّة منطقة جغرافية، أَضِفْ إلى ذلك نشأة النزعات الشوفينيّة[1] الـمُغالية؛ إلى أن بَدَأْنا نظنُّ التعاملَ مع الجميع بغليظِ الألفاظ والفتونةَ والتأمُّرَ عليهم مهارةً!
من ينظرون إلى ما وهبه الله لهم ومنَّ به عليهم على اعتبارِهِ مرتبة وترقية هم حقيقون بها؛ إنّما يتردَّون في الهاوية دون أن يشعروا على الإطلاق.
الخطوة الأولى: التملُّصُ من عقدة الدُّونية
إن مشاعرَ كعقدة الخوف والذلّة والدُّونيّة قد تغلغلَتْ في جينات أجدادِنا منذُ العهدِ المذكورِ آنفًا، ولما كنّا نحن أيضًا نحمل جيناتهم فإنه يستحيلُ القولُ إننا استطَعْنا التخلُّصَ من تأثيرِ تلك الصدمة التي ما زلْنا نعيشها، وسواء علينا أأدركنا ذلك أم لم ندركه؛ فإنَّنا نبدو وكأننا قد أُصِبنا بالشلل بتأثير هذه النوعية من الأحاسيس والأفكار، وبالتالي فإن الانعتاق من كل هذه الأفكار السلبية، والانفتاحَ إلى آفاق الفكر الواسع، والتمسُّكَ بهويتنا في الفكر، والتوجُّهَ إلى الأفق الذي أَرشد إليه اللهُ تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم، والذكرَ والتدبُّرَ والتفكُّرَ في ضوءِ التوجيهات القرآنيّة، واستحداثَ تركيبات والإتيانَ بتحليلات جديدة وحديثة دائمًا… إلخ كلّ ذلك ليس أعمالًا سهلةَ المنالِ ولا يسيرة التحقق بالنسبة لأجيال عاجزة مكبّلةٍ بعقدة الدُّونية، ومع ذلك لا يستحيل تحقيقها.
ويجب علينا أولًا أن ننفض عنَّا عقدة الدُّونية اللعينة التي أصابَتْنَا وتتضاعف يومًا بعد يومٍ، فإن أمكننا فعل هذا فقد خطونا أولى خطواتنا من أجل فتح الباب إلى آفاق الفكر الواسع والعميق.
الصفات هي الأهمُّ لا الأسماء
ثانيًا: ينبغي ألا ننسى أبدًا أنَّ الله جلَّ جلاله أولى عنايةً خاصةً بصفات الناس، ولهذا السبب فإنَّه تعالى يكافئ الإنسان، حتى وإن كان غير مسلم، طالما أنه يفوقكم باعتبار ما يحمله من أوصاف إسلاميّة كالاجتهاد، والعملِ الممنهج، وتحليلِ الحوادث والأشياء عشقًا للبحثِ والحقيقة، والقدرةِ على تركيب العناصر مع بعضها؛ لأن كلَّ هذه صفات مقبولةٌ ومَرضِيَّةٌ عند رب العالمين، واتصافُ إنسان غيرِ مقبولٍ بهذه الصفات المقبولة المرضيّة لا يُقلِّلُ من قيمتها، تمامًا كما أنَّ قطعة الماس لا تفقد شيئًا من قيمتها بسقوطها في الوحل.
وعليه فينبغي النظرُ إلى الصفات من هذه الزاوية، فإن كانت صفات المؤمن موجودةً في غير المؤمن فسوف يُوَفَّقُ المُتَحَلُّون بها ويثبُتُ حكمهم في الحياة الدنيا؛ وسوف يُخْضِعونكم لِوَصَايَتِهم بفضل الإمكانيات والقوّة التكنولوجية التي امتلكوها بالعلم، تمامًا مثلما فعلوا بدءًا من حقبةِ ما يُسمَّى “عصر النهضة”، ومتى عشقتم الحقيقة أنتم أيضًا، وعشقتم البحث وفقًا لها، وسخرتم أنفسكم لهذا العمل تسخيرًا يصل إلى حدِّ الجنون به، ودقَّقْتم الأشياء والحوادث تدقيقًا؛ فسوف يمُنُّ الحق تعالى عليكم حينها بمزيدٍ من النعم والألطاف الخاصّة، وهكذا تعمرون دنياكم، وتسلكون سبيل الفوز بدار السعادة الأبدية.
ينبغي للإنسان مهما ارتفعَ وارتقى باعتبار أفقِهِ الفكريّ والإمكانيّات التي حصلَ عليها، بل حتى وإن لامست هامتهُ الذرى؛ ألّا ينسى أبدًا أنّ الله هو المحسِنُ عليه بهذا كله.
معايير الكتاب والسنة
عند تناوُلِنا لأيِّ مسألةٍ يجبُ علينا أن نتناولَها من وجهةِ نظرٍ عامّة، سواء أكانت تلك المسألة لصالِحِ مخطَّطَاتنا وتصوُّراتنا المستقبليّة، أم لِفَهْمِ الإسلام في إطارِ رحابته وشموليته، أم لأجل حياتنا القلبية والروحية؛ فنُخضع الحوادث إلى تحليل شمولي، ونسعى إلى رؤية الأشياء التي يمكن أن ندركها بأفقنا من المبدإ حتى المنتهى، ونُنْتِج أفكارًا بديلةً أيضًا لما تعذّرت علينا رؤيته من الأشياء، ونختبر تلك الأفكارَ التي ننتجها ونقيسُها دائمًا بمقياس الكتاب والسنة، ولا يمكن الوصول إلى التفسيرات التي أماطَ الزمانُ اللِّثامَ عنها وفقًا لمعايير الكتاب والسنة إلا بكثرة التنقُّلِ المكُّوكي بين ظروف عصرنا ومصادرنا الأساسية؛ فالزمان والملابسات من أكبر المفسِّرين للحوادث والأشياء.
ومن ذلك على سبيل المثال أننا عندما نُفَكِّرُ في عالم اليوم يتحتّم علينا لمستقبلٍ واعدٍ أن نسعى لاحتضانِ الإنسانيّة جمعاء دون أنْ نَأبَهَ بالاختلافات العرقيّة والدينيّة والمذهبيّة، ولِتحقيقِ التفاهم والتعارف بين مختلف الأمم والجماعات وتلاحمها، ويجب أن نعمل على تتويجِ البشريّة جمعاء بالقِيَمِ الإنسانية الأساسية في العالم البشري أجمع، وليس في العالم الإسلامي فحسب، فثمة حاجةٌ مُلِحَّة، بل إننا في أشدِّ الاحتياج إلى وجهة نظر واسعة كهذه، حيث انتشرت الأسلحةُ القاتلة في كلِّ مكان، وإلَّا فإنْ تجرَّأ البعضُ على القيام بأعمال شريرة في مكان ما فقد يدفع هذا غيرهم إلى مقابلته بالمثل، وهو ما سيُنتِجُ بالـمُحَصِّلَةِ يقينًا تحوُّلَ الدنيا إلى خرابة.
إن قراءة العالم الذي نعيش فيه قراءة صحيحةً تمثل بعدًا آخر من أبعاد الفِكْرِ العميقِ.
وهكذا فإنه ينبغي لِرجال الفكر والرأي الذين يفطنون إلى خطورة الأمر أن يُصرِّحوا بِقَلَقِهم ومخاوفِهم المحقّة في هذا الموضوع، وأن يستدعوا الإنسانية إلى الوحدةِ والاتحاد، والوفاق والاتفاق، ويسْعَوا إلى تحقيق تلاحمِ الإنسانية حول هذا الفكر، ولذلك فلا بدَّ من التركيز على العناصر التي ستَكون قادِرة على تشيكل الكيان المطلوبِ، وحسابِ الموانع والعوائق التي قد تنشأُ، وتكوينِ فكرٍ مشتَرَكٍ بين مختلف القطاعات، وإفراغِ الأفكار التي تخطر بعقولهم في حوض العقل المشترك الذي كوّنوه، والسعي إلى حلِّ المشكلات بواسطة الوعيِ الجمعيِّ، أما بعضُ المشاريع والخُطَطِ التي يستحيلُ تحقيقُها حاليًّا فلا بد من أن تُتْرَك أمانَةً لِتَقْيِيمِ وتنفيذِ الأجيالِ القادمة.
الظروف الجديدة الطارئة وسلامة الطريق
إن اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة من أجل تحقيق سلامة الطريق والسبيل المسلوك يشكل بعدًا آخر من أبعاد الفكر الواسع، فربما تكونون مزوَّدين تمامًا بالإيمان والأخلاق، وقد تُدهِشُون العالم وتحيِّرونه بمشيَتِكم ومسيرِكم النشيطِ، بل وتكونُ ثقتُكم بعنايةِ الله ورعايتِهِ وكِلاءته كاملةً تامّة، غير أن كل هذا يشكل جانبًا واحدًا فحسب من المسألة، أما الجانب الآخر منها فهو القدرة على أن نضع في الحسبان أحاسيس وأفكار وحركات الآخرين أيضًا، وإلا فربما تواجهون بينا تسيرون من أجل تسليم هذه الأمانة إلى أيدٍ أمينة مجموعةً من الغيلان، فإن تجاهلتم -وأنتم تقدمون ما تملكونه من قيمٍ إلى المجتمع- قوَّةَ وقدرة من يعملون ضدّكم، وانطباعاتهم حولكم؛ فربما يرغبون في هدم وتقويض تراثكم الخدمي، ومن هذه الزاوية فإنَّه يجب عليكم التحلِّي بأبلغ درجات الحساسيّة مع أيِّ تصرُّفٍ يتعلّق بسلامة خطِّ السير على طول الطريق كي لا تتعرّضوا لأيّة مشكلة في أثناء طريقكم، كما يجبُ إعادة اتّخاذِ التدابير الضرورية من أجل سلامة خطِّ السير بحسب الظروف الجديدة الطارئة.
إن قراءة العالم الذي نعيش فيه قراءة صحيحةً تمثل بعدًا آخر من أبعاد الفِكْرِ العميقِ، وقد انفتَحَ “فدائيُّو خدمةِ الإنسانية” في يومِنا الحاضرِ على مائة وسبعين دولة، وهذا يعني أنهم يتعايشون مع أناس نشؤوا في مائة وسبعين مناخًا وبيئة ثقافية مختلفة… وقد يتقبَّلكم المخاطبون ويستسيغون منطقكم ضمن أُطُرٍ محدَّدة؛ غير أنه قد تحدث بعد فترةٍ مصادماتٌ تنشأ عن الاختلاف الفكري والثقافي؛ ومن ذلك على سبيل المثال أنَّ أهل البلاد التي تذهبون إليها ربما يتوهمون أنكم تسعون لصهرهم فيكم قوميًّا وثقافيًّا، وعليه فينبغي أوّلًا تقييمُ كلِّ هذه المواضيع تقييمًا صحيحًا، واتخاذُ القرارات الصحيحة المتعلّقة بما سيتمّ من خطوات في هذه الشؤون، واتّقاء التصرفات والسلوكيات التي قد تثير القلق والريبة لدى الآخرين.
الفكرُ يترعرعُ في حضنِ الحركةِ والعمل
إن قراءةَ ما بِحَوزَتِنا من آثار كُتبت من أجل إقامة صرح روحنا قراءةً جيِّدةً، وحسنَ فهمِ الأهداف التي حدَّدَتْها من أجل حياتِنا المستقبليّة والأبديّة، إلى جانبِ فهمِ الرسائلِ المبثوثة فيها والمعاني التي عبرت عنها من أجل حياتنا، وتحليلِ طبيعة الدنيا التي رسَمَتْها من أجلنا تحليلًا جيِّدًا لأمرٌ مهمٌّ جدًّا، لأنَّ الاكتفاء بالموجود تقَاصرٌ في الهمّة، ومن هذه الزاوية فإنَّه بينما نُطالِعُ ما بأيدينا من مصادر لا بدَّ وأن نداوم على قراءتها ونحن تحدونا فكرة: “تُرى أيَّةُ معانٍ أخرى يمكننا أن نستخرجَها منها!”؛ فربطُ المسألةِ بمجرَّدِ التسلِّي بالقراءة فهمٌ ناقصٌ، والمهمُّ هو تناولُ تلك المؤلّفات بحسنِ المذاكرة، والقدرةِ على رؤيةِ ما تُظْهِرُهُ من أهدافٍ تَصُبُّ في صالحِ مستقبلنا.
ولا ننسى أنّه يجبُ أن يتزامنَ كلُّ هذا مع الحركة والعمل، ويسيرَ بمحاذاتِهِما، فإن تسنَّى تحويل الأفكار إلى أعمال وحركات أمكن اتخاذ قرارات أكثر منطقية وعقلانية؛ فمن يقبعُ خاملًا دون حركةٍ ثمَّ يتخيَّلُ عوالم برّاقة مثلما يفعل كُتَّابُ الطوبيا (المدينة الفاضلة)؛ فلن يعودَ ذلك عليه بشيءٍ من النفعِ والفائدة؛ ما لم يكن لذلك وجودٌ ومقابلٌ في الحياة العملية، وما أكثر الأفكار البرّاقة التي طُرِحَتْ حتى اليوم، ولكنها سرعان ما فقدت بريقَها دون أن تتقدَّمَ خطوَتَين؛ وذلك لأنها لم تُتَرْجم على أرضِ الواقع، ولا سيما أن القرآن الكريم تحدَّثَ عن العمل الصالح في معظم الآيات التي تحدث فيها عن الإيمان، فأشار بذلك إلى ضرورة أن يتزامنَ العملُ والحركة مع الفكر، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 25/2).
يجب علينا أولًا أن ننفض عنَّا عقدة الدُّونية اللعينة التي أصابَتْنَا وتتضاعف يومًا بعد يومٍ، فإن أمكننا فعل هذا فقد خطونا أولى خطواتنا من أجل فتح الباب إلى آفاق الفكر الواسع والعميق.
العقل المشترك
إن أفكارنا ورؤانا ليست نتاجَ الوحي، ولذلك فإنها دائمًا ما تكون مشوبةً بموروثِنا المعرفيّ القديم، أي إنَّ مجموعة من المعلومات الخاطئةِ التي في أذهانِنا قد تدفَعُنا إلى تحليلات وتراكيبَ خاطئة، وقد نُخْطِئُ في اجتهاداتِنا واستنباطاتنا الشخصيّة، وبعضُ الأفكار التي نطرحُها ربما لا تكون صالحةً للجميعِ دائمًا، ومن هنا فإن اعتبارَ الأفكار التي نتوصل إليها والخطط والمشاريع التي نرسمها بشأن المستقبل محتاجةً للتصحيحِ ومطروحة للتشاور والنقاشِ؛ أمرٌ في غاية الأهمّـيّة من أجل الوصول إلى رحابةِ الفكر واتساعه.
مناخ الفكر الحرّ وهجرة الأدمغة
إن تحويلَ وجهةِ هجرةِ الأدمغةِ التي تحدُثُ على المستوى العالميّ إلى عالمنا نحن عبر إبراز نتاجات خبراتنا العلمية يُشكِّلُ جانبًا آخر من المسألة، والواقع أنَّ انسلالنا من التسوُّلِ على عَتَبَةِ الآخرين، وقدرتَنا الذاتيّة على الحياة، والوصولَ إلى تراكيب وتحليلات حديثة متجدِّدة بواسطة الفِكْرِ الحرِّ أمرٌ لا يتحقَّقُ إلا بحصولِ العقولِ الشابّة والنشيطة على مناخٍ وإمكانيّاتٍ تستطيعُ فيها خدمةَ بلادِها.
إن مشاعرَ كعقدة الخوف والذلّة والدُّونيّة قد تغلغلَتْ في جينات أجدادِنا في عهود الضعف، ولما كنّا نحن أيضًا نحمل جيناتهم فإنه يستحيلُ القولُ إننا استطَعْنا التخلُّصَ من تأثيرِ تلك الصدمة التي ما زلْنا نعيشها.
التوفيقُ كُّلُه منه سبحانه!
وبعد كل ما سبق فإنه ينبغي للإنسان مهما ارتفعَ وارتقى باعتبار أفقِهِ الفكريّ والإمكانيّات التي حصلَ عليها، بل حتى وإن لامست هامتهُ الذرى؛ ألّا ينسى أبدًا أنّ الله هو المحسِنُ عليه بهذا كله، وعليه أن ينحني أمام الألطافِ والإحسانات الإلهيّة كالعكّاز تقديرًا وإجلالًا له جلّ جلاله؛ لأن الرفعة تقتضي التواضعَ، كما كان من شأن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين، صاحب أعظم الدرجات وأرفعِ المقامات؛ الذي جسَّدَ طيلَةَ حياتِهِ تواضعًا ولينًا لا ندَّ له ولا نظير، وكما تتمايل الأشجارُ نحو الأرض وترتكن إليها كلما تثاقلت الثمار في أغصانها؛ ينبغي للإنسان أيضًا أن يُزيد من تواضعه ولين جانبه كلما زادت ألطافُ الله وإنعاماته عليه.
إننا في عصرنا هذا بأمسِّ الحاجة إلى أرباب الأفقِ الفكري الواسع، العاشقين البحثَ والحقيقةَ، القادرين على التحليلِ والتركيب، وإقامةِ ما يتناولونه من مسائل على أرضيات وأسسٍ علميّة.
ومن ينظرون إلى ما وهبه الله لهم ومنَّ به عليهم على اعتبارِهِ مرتبة وترقية هم حقيقون بها؛ إنّما يتردَّون في الهاوية دون أن يشعروا على الإطلاق، وإنهم حتى وإن أنقذوا بلدًا أوشكت على الزوال؛ فسَيَحيقُ بهم تعنيف الله ولومه إيّاهم ويسقطون يومًا ما في هُوَّةٍ سحيقة جدًّا إذا نسبوا إلى أنفسهم ما أنعم الله تعالى به عليهم من تجلّيات وطلبوا التقدير والتصفيق مقابل هذا، وفي هذا قال فضيلة الأستاذ بديع الزمان: “مَن يقصّر منكم في الإخلاص فقد هوى من على برجٍ عالٍ، ولربما يتردى في وادٍ سحيقٍ، إذ لا موضع في المنتصف”[2]، وبتعبيرٍ مختلف؛ فإنَّ مَن يتردّون مما يُعادِلُ قمّةَ جبلِ “إفرست” مثلًا يندفنون في قعرِ بحيرةِ لوط، وكثيرًا ما يتجاورُ الأعلى والأدنى؛ فإن أعطى الإنسان حقَّ الأعلى ظلَّ ثابتًا هناك، وإن لم يعطه حقّه تدحرج من القمة وانحطَّ إلى القاع.
[1] الشوفينيّة: إفراط في الوطنية ينتهي إلى معاداة الدول والثقافات الأخرى.
[2] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الحادية والعشرون، ص 224.