سؤال: الحقيقة أن أي خلل في المركز يُحدِث خللًا أوسع في محيط الدائرة؛ فما هي الضوابط الأساسية التي يلزم من هم في المواقع المركزية أن يلتزموا بها؟
الجواب: من كان رائدًا لأفكار مثالية سامية فتصرفاته كلها محسوبة عليه، فتابِعوه سيقتفون إثره، فإذا استقام الرُّوّاد سلك أتباعُهم صراطهم المستقيم أسوةً بهم، وإذا ارتكبوا أخطاء -نسأل الله السلامة- فإنها سوف تتضاعف بين الذين يتبعونهم وستنتشر سريعًا انتشار الجراثيم.
الحقوق العامة
والمؤسف أن بعض من احتلوا موقع الريادة لدى الناس قديمًا وحديثًا في مختلف حركات الإحياء عجزوا أن يوفوا مواقعهم حقَّها، فزلّوا بكلمات وفلتات اللسان وانحرافات فكرية وبياناتٍ جازفوا بها وتعجلوا فتجاوزت مقصدهم منها، فكانت كلما انعكست على أتباعهم نتج عنها دمار أكبر، فقد حدث أنّ كلمة فظّة أو تصرفًا غير لائق، بل رفع الصوت بشكل غير مناسب، وتقطيب الوجه ونحوها نتج عنها تهييج مشاعر الحقد والكراهية عند الآخرين حتى استحال تلافيها، ومهَّدَ هذا الموقفُ لحدوث خراب خطير حتى وإن كان السائرون خلف هؤلاء الرواد لم يزيدوا على ما ارتكبه قادتهم بل قلدوهم فحسب، فهذه النوعية من الأخطاء لا تنتقل أبدًا كما وقعت في أول الأمر؛ بل يفسرها الأتباع ويؤولونها وفقًا لطبائعهم ومدارك الإحساس عندهم، فتنتشر في قاعدة المجتمع مضاعفة؛ فعلى كل من يَشغل موقع الإدارة والرياسة -أيًّا كان مستواها- أن يكون دائمًا حسّاسًا يقظًا جدًا في تصرفاته وسلوكه.
إذا تُرك الأمر للمبادرات الشخصية في أي مجال وتخصص وبُنِي الحَرك عليها فلا مفر من وقوع الأخطاء.
وعندما أراجع الماضي وأتذكر مسيرة حياتي أجد عُقَدًا كثيرة يجب حلّها في ضوء ما سبق؛ حتى إنني أشعر تجاه كل واحدة منها أن عليّ أن أقول: “ليتها لم تكن هكذا، وكانت كذا وكذا!” لكنني متيقن أن تمنيًا مثل هذا فيما يتعلق بأحداث وقعت في الماضي لا يفيد مطلقًا في تصحيح الأمر.
الأصل أن على الإنسان أن يضبط تصرفاته وسلوكه وكلماته وحركاته بحيث لا يحتاج للتصحيح ولئلا يقع في أمانيّ لن تفيد شيئًا وقد قُضي الأمر وفات الأوان، وعليه أن يعيش وفقًا لهذا. ويستحيل أن يقدر عقل الفرد وحده على ذلك، فعلى الإنسان –وخاصة من هو في موضع الريادة- أن يستشير غيره في كل أمر وقضية؛ أجل، عليهم أن يشكِّلوا في كل أمر لجانًا استشارية، وألا يقرروا شيئًا في أي موضوع إلا بالتشاور مع تلك اللجان. نعم، إن لدينا مصادرنا الأساسية الخالدة وقيمنا الموروثة، لكن تفسيرها وتحليلها وتطبيقها وفقًا لعصرنا هذا يتطلب الرجوع إلى العقل الجمعي.
ولا بد أيضًا من العلم بأن حركةً تتمثل غايتُها المثلى في تعريف الآخرين بالحق والحقيقة يتعلق بها الحقّ العام، فأي تقصير في هذا هو اعتداء على الحق العام؛ فالحق العام يُعتبر من حقوق الله تعالى في الفقه الإسلامي، فأي خطأ فيه هو اعتداء على حق الله، بل إنه عسف بحق رسول الله وحقِّ من سبقونا بالخدمة وحقّ من يسعون معنا في الطريق نفسه من أهل الخدمة.
مخالفة النفس ليست ضررًا ولا خسارة مطلقة، بل العكس؛ فقد يربح الإنسان في مواقف بفضل مخالفته لنفسه وترك الخضوع لها في حراكه؛ ويخسر أحيانًا باعتماده على عقله ومنطقه.
مخالفة الإنسان رغبات نفسه
الاستشارة تعني –من وجه- أن يتحرك الإنسان على خلاف هواه، فمخالفة النفس ليست ضررًا ولا خسارة مطلقة، بل العكس؛ فقد يربح الإنسان في مواقف بفضل مخالفته لنفسه وترك الخضوع لها في حراكه؛ ويخسر أحيانًا باعتماده على عقله ومنطقه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّه” (البخاري، الأذان 36؛ مسلم، الزكاة 91) ثم يضع على رأس القائمة الإمامَ الذي يحكم بالعدل والحق، فيقول: “إِمَامٌ عَادِلٌ” ؛ وهذا يعني أن عدل الحاكم صعب جدًّا؛ فمن يترأس مجتمعًا ما، ويُمثل القوة، ويتحكم في طاقات الأمة، تعود ملازمته للعدل والاستقامة والحق والمروءة والإنسانية إلى مخالفة النفس.
يقول مفخرة الإنسانية _عليه الصلاة والسلام_ في حديث شريف آخر: “ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ“. (مسلم، الإيمان 172)
على كل من يَشغل موقع الإدارة والرياسة -أيًّا كان مستواها- أن يكون دائمًا حسّاسًا يقظًا جدًا في تصرفاته وسلوكه.
ركزّ على بعض الأمور في هذا الحديث في أمثلة سلبية؛ فالزنا حرام على الناس جميعًا، لكن إذا حصل التلوُّث بمثل هذه اللوثيات من إنسان طاعنٍ في السنّ يُفترَض أنه عازف عن الدنيا، فهذا لوثةٌ فوق لوثة؛ فمثله يجدر أن يُقال له: “عار عليك! لقد طعنتَ في السن أيها الرجل الوقح! إن لم تستحي من الناس فاستحي من ربّ الناس!”
والفئة الثانية المنذرة بالوعيد في الحديث: سلاطين اتخذوا الكذبَ طبعًا وديدنًا لهم؛ فالكذب حرام على الناس جميعًا، لكنه إذا كان من حاكم يرأس الناس، فإثمه مضاعف.
وثالث أولئك الثلاثة الذين يُعرِض الله عنهم هو الفقير المتكبر؛ يقول المثل التركي: “خلا بيتُه من المأكل والمشرب، إلا أنه يتكبر ويتعجرف”. فمثل هذا حريٌّ أن يقال له: “يا هذا علامَ أنت تتبختر؟!” ففي هذا السلوك انحراف خطير يُضاعف به الوِزر؛ ويدل الحديث بمفهوم المخالفة على فضلِ الغني المتواضع؛ فهذا يعني أنه عكس ذاك، يتصرف على خلاف هواه.
ففي الحديث الأول فضل مراغمة النفس، وفي الثاني ذمٌّ لمن عاش أسيرًا لشهوات نفسه؛ فجهنم حُفَّت بالشهوات البدنية والنفسية، فقد ينجرف الإنسان إليها ويتردى فيها إذا أرخى عنانه لهذه الأهواء؛ وحُفَّت الجنة بالمكاره، فالسبيل إليها يمر من مخالفة الإنسان طبيعتَه البشرية وتغلُّبِه على نفسه.
“مَا خَابَ مَنِ اسْتَشَارَ”
قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا خَابَ مَنِ اسْتَشَارَ” (الطبراني، المعجم الكبير 366/6) فعلى من يخشى الخسران والخيبة أن يتناقش مع الآخرين ولو في المسائل التي يقدر على حلّها بنفسه.
حاولتُ أنا شخصيًّا طوال عمري أن أستشير الناس ولو في أصغر المسائل؛ وحينما يهمني أمر في ليلة ما، أتصلُ ببعض الإخوة في تركيا إن لم أجد هنا من أبحثها معه، وأقول له: “مشكلة كذا وكذا تكرَّم من فضلك بحلول بديلة!” وما لحقني ضرر من هذا حتى الآن مطلقًا، فإن أخطأنا أخطأنا جميعًا، أي نتحمل الخطأ معًا، وعندما نقف بين يدي الله تعالى سنقول: “يا رب! تحاورنا وتشاورنا؛ ولم نُصِبْ، هذه طاقتنا”، فمعنى هذا أن عقولنا جميعًا لا تَقْدر على هذا الأمر.
مواقف بعض الناس تشير أن له خبرة وموروثًا بلغ به أن يقول: “أنا خبير بهذه المسألة”؛ لكن ينبغي ألا يُنسى أبدًا أنه قد يأتي من ينظر إلى الأحداث بشكل مخروطي شمولي؛ فهذا لا يكتفي بالنظرة العجلى، بل يضع في حسبانه علاقته بغيره، علاوة على أن من الإنجازات ما يراه بعض الناس مصلحةً باعتبار وضعه الشخصي لكن قد لا تكون مصلحة في الحقيقة، فمن يدري فربما تكون مصلحة موهومة.
نعم، فمن زعم عقلانية قراره وكلامه قائلًا: “وفقًا لرأيي” فذلك لا يعني أنه عقلانيّ في الحقيقة، فالعقلاني لا يخضع “للرأي الشخصي”، بل هو الحقيقة التي يرتضيها العقل المشترك؛ والعقلاني هو الحقيقة التي يرتضيها العقل القرآني والمنطق القرآني –كما يقول “المحاسبي”-، فإذا أراد الإنسان أن يقوِّم معقولية أي من أفكاره، فعليه أوَّلًا أن يقوِّمها في ضوء معايير الكتاب والسنة؛ فإذا أُهملت هذه العملية احتمل أن تكون أفكاره التي يراها معقولة كلماتٍ حمله عليها هوى النفس.
ويوجهنا القرآن الكريم بالآية الكريمة التي نقرأها عدة مرات يوميًّا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (سورةُ الفَاتِحَةِ: 5/1) أن نقول: “نحن”؛ فالإنسان قد لا ينجو بعبادة فردية؛ فنجاته في جهة من جهاتها مردّها إلى تحقيق الأخوَّة الحقيقية بينه وبين إخوة له في طريقٍ معين، وإلى تثقيله ميزانَ حسناته بحسناتهم؛ وبهذا المنطق فإن تحقيق الإداريّين نتيجةً أبعد عن الخطأ وأقربَ إلى الصواب مردها إلى قولهم: “نحن”، وتحرُّكِهم بالعقل المشترك والوعي الجمعي.
من كان رائدًا لأفكار مثالية سامية فتصرفاته كلها محسوبة عليه، فتابِعوه سيقتفون إثره.
والحاصل: إن تضاعُف الخدمات ونموها يقتضي مراغمةَ الرُّوّاد رغباتِ أنفسهم، وأن يبرؤوا من قولهم: “يكفيني عقلي وفهمي وأفكاري…”، ثم يردوا كل ما يقولون ويقررونه إلى فكر منهجي؛ أجل، فالحاكم ليكون “عادلا”، _كما في الحديث_ لا بد وأن يُقدّر أفكار جلسائه، ويشاورهم، ويتنازل عن آرائه الشخصية إذا اقتضى الأمر، وعليه كذلك أن يسعى بهذه الطريقة للعثور على ما هو معقول ومنطقي؛ فإذا أُحيلت القضايا إلى لجنة لتناقشها وتباحثها فالحقيقة ستظهر وتنكشف بتبادل الأفكار، وبهذه الطريقة يُتغلب على الأخطاء؛ وإلا فإذا تُرك الأمر للمبادرات الشخصية في أي مجال وتخصص وبُنِي الحَرك عليها فلا مفر من وقوع الأخطاء.