Reader Mode

سؤال: كيف يمكننا أن نبلغ أفقَ الفعاليةِ والحيويةِ الدائمة التي يستهدفها الإسلامُ في الحياة الفردية والاجتماعية؟

الجواب: لا مكان للركودِ والجمودِ في فلسفة الإسلام ورؤيته الحياتية، فكلُّ شيء فيها نَشِطٌ وحَيَويّ بدءًا من الإنسان حتى الأرض، ومرورًا بالأشياءِ إلى الأزمان، فكما أمر الإسلامُ الفردَ أن يتحلّى بالنشاط والحيوية الدائمة في أداء الأعمال الصالحة مثلًا، كذلك أمره بأن يستثمر ويستغلّ المال والأرض والزمان أجودَ استثمارٍ وأفضل استغلال حتى يجني من ورائها أرجى الثمار.

أما عن أهمّ المسائل التي تتطلّب حيويةَ المسلم وفعاليته فهي المسائل الإيمانية، لذا نقول دائمًا في دعائنا: “ربَّنا زِدنَا عِلمًا وإيمانًا ويقينًا”، فعلى المؤمن أن يسعى إلى تجديدِ إيمانِه وزيادةِ يقينِه دائمًا بمراجعة الكتب والتعرّف على الحياة المباركة للسلف الصالح والجلسات الإيمانية والتفكّر والأوراد والأذكار، وفي هذا السياق فإن التركيزَ على قراءة الأدعية الواردة في كتب الأدعية المعروفة مثل “القلوب الضارعة”[1] وسبرَ أغوارها إلى حدٍّ ما من شأنه أن يفتح آفاقًا متعدّدة أمام الإنسان.

إنَّ الإنسان إذا أحسنَ توظيفَ الزمان فإنّه ينفتح على “اللازمانية”، ويفوز بالأبدية خلالَ فترة زمنية قصيرة وجيزة.

إن الحيوية والنشاط والفعالية تمتلِكُ أهمّيّة بالغةً في حلِّ ومواجهةِ المشاكل المستعصية التي يتعرّض لها العالَـمُ الإسلامي منذ عصور، ومحافظةِ القلوب المؤمنة على وجودها دون التذلل أو الدخول تحت وصاية الآخرين، لقد فقدَ المسلِمون -مع بالغ الأسف- هذا الحماس والنشاطَ والحيوية منذ قرونٍ، ولم يستطيعوا الحفاظ على مكانتهم كعنصرٍ من عناصر التوازن الدولي، ومن ثمّ فقدوا زعامتهم، ودخلوا تحت وصاية غيرهم في المجال السياسي والثقافي والاقتصادي… إلخ.

مجتمعٌ أسيرٌ مغلول الأيدي والأعناق

ولقد نبهنا الأستاذ النورسي رحمه الله رحمة واسعة إلى هذه الحقيقة بقوله: “يا أيتها القبور المتحركة برجلين اثنتين، أيّتها الجنائز الشاخصة! ويا أيّها التعساء التاركون لروح الحياتين كلتيهما -وهو الإسلام- انصرفوا من أمام باب الجيل المقبل، لا تقِفُوا أمامَه حجر عثرة، فالقبور تنتظركم… تنحّوا عن الطريق، ليأتي الجيل الجديد الذي سيرفع أعلام الحقائق الإسلامية عاليًا، ويهزّها خفّاقة تتماوجُ على وجوه الكون”[2]؛ ولأن هذا الدين العالمي الخاتم ينوءُ بتمثيله الإنسانُ الخاملُ أو الفكرةُ البالية أو ضعفُ الهمة؛ فلقد طلب الأستاذُ النُّورسي من الأرواح الخاملة الفاقدة للحماسة والتي تشكّل نموذجًا سيّئًا للأجيال المقبلة أن تتنحّى، وتُفسح الطريقَ للجيل المقبل الذي سيأتي بعدها متمتّعًا بروحِ الحيويةِ والنشاط؛ حتى يتبوّأ المكانة التي ينبغي له أن يتبوّأها، ويؤدّي ما يجب عليه أن يؤديه.

أجل، من الأهمية بمكان ألا يكون الإنسان نموذجًا سيّئًا، وإنني لا أريد هنا أن أقترفَ ذنبًا بذكر مساوئ أجدادنا رحمهم الله، ولكنّني انطلاقًا من مسؤوليّة إحقاق الحقّ وإجلاء الحقيقة أستميحكم عذرًا في أن أنوه بهذا الأمر:

إنّ ممّن تسببوا فيما نعيشُه اليوم من ركودٍ وضعفٍ في الهمّة آباءَنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، ووراء أخطائهم مَنْ سبقوهم -بقدر ما-، وللإنصافِ فلقد أدّوا ما يقع على عاتقهم في إيمانهم بربهم وأدائهم لعباداتهم، ولكنهم عجزوا عن تجاوز القوالب الفكرية البسيطة عند تقييمهم للأحداث، فلم يستطيعوا بلوغَ آفاقٍ يُدركون بها عصرَهم عند دراسته وتحليله، ومن ثمّ تسبّبوا فيما نعيشه اليوم من قحطٍ وجفافٍ في حياتنا الفكرية والعملية على حدٍّ سواء.

وبناءً على ذلك إننا نُعَدّ جيلًا ضائعًا فاشلًا، لأننا لم نُنَشّأ بما يتناسبُ وأُفُقَ إدراكِ عصرِنا، وعلى ذلك لم نستطع أن نحظى بوصف أمناء المستقبل الذين يرثون الأرض، وأصبحنا نحن مَن نقوم بالتجديف وغيرُنا هو مَن يتولى قيادة الدفّة.

وإذا نظرنا إلى المسألة من الناحية الاجتماعية نقول: إما أن تديروا الدفّة في التوازن الدولي أو أن تظلوا تُجدّفون طوال عمركم؛ لا توسّط بين الأمرين. أجل، إما أن تكونوا حاكمين أو تظلوا محكومين؛ وبعبارةٍ أخرى: إما أن تكونوا عنصرًا من عناصر التوازن الدولي أو تعيشوا ضمن الإطار الذي رسمه لكم غيركم؛ أو قُلْ: إما أن تكونوا أصحاب الكلمة والنفوذ أو تغدوا أسرى لغيركم؛ بمعنى أن تصيروا كالعبيد الذين يحملون أغلالًا في أعناقهم وأقدامُهم مقيدةٌ بالسلاسل، وهذا -للأسف- هو حال المسلمين منذ عدّة قرون.

إن التردّي في مثل هذا الحال الناشئِ عن عدم تمثيل الإسلام التمثيلَ الحقّ قد أفضى إلى أننا لـم نستطع أن نحافظ على كرامة الإسلام وشرفه، بل وألحقنا به الذلّ والهوان، والحقُّ أننا بقدرِ ما يتسَبَّبُ حالُنا الكئيبُ هذا في إهانة الإسلام سنَلْقَى هوانًا عند الله، فهذا بذاك، لذا فالعملَ العملَ، والسعيَ السعيَ على طريق استعادةِ مكانتنا اللائقة بنا مرّةً أخرى، من أجل هذا يجب على الإنسان أن ينشد المعالي والذرى دائمًا وأن يُعلي من هِمَّتِه، ويرفع من سقف طموحاته.

على المؤمن أن يسعى إلى تجديدِ إيمانِه وزيادةِ يقينِه دائمًا بمراجعة الكتب والتعرّف على الحياة المباركة للسلف الصالح والجلسات الإيمانية والتفكّر والأوراد والأذكار.

أبطال الإرادة وكرامة الإسلام

ليس الإنسانُ نباتًا ولا جمادًا، بل هو كائنٌ حيٌّ منحه الله إرادةً إن أعطاها حقَّها بصفتِها شرطًا عاديًّا، وأحسنَ استغلال القوّة التي وهبه الله إياها استغلالًا سليمًا استطاع بإذنٍ من الله أن ينفث نسمات الانبعاث في جنباتِ الأرض كلها، فمتى شُحذت الإرادات، وأُشعلت مشاعل الآخرين أنارت الأرضُ كلها وكأنها ساحةٌ للمهرجانات، وإن شئتم فانظروا إلى عصر السعادة من هذه الزاوية؛ ألم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحقّق في غضون ثلاثةٍ وعشرين عامًا ما لا يمكن أن يحقّقه غيرُه خلال عدّة قرون؟ أَوَلم يستطع الخليفة الأول سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يُقلّم أظفار إمبراطوريتين عملاقتين في تلك الآونة بجيشٍ لا يتعدّى قوامه عشرين ألفَ جندي؟ رغم أنه كان في الوقت ذاته يُصارِعُ فلولَ المرتدّين بما فيهم مسيلمة الكذاب الذي كان على رأسِ جيشٍ يبلغُ أضعاف المنظّمة الإرهابية التي لم نستطع دحرَها في تركيا منذ سنين.

لقد أعطى سيدنا أبو بكر رضي الله عنه إرادته حقّها، وتغلّب بفضلٍ من الله وعنايته على كل تلك المشاكل والصِّعاب؛ وهذا مثالٌ حيٌّ للفعالية والحيوية التي يجب أن يكون عليها المسلم.

أُسُس المحافظة على النشاط والحيوية

يمكن إيجازُ أُسُسِ المحافظة على النشاط والحيوية على النحوِ التالي:

إن أحدَ العناصر المهمة في سبيل الحفاظ على نشاط الناس وحيويتهم هو الإرشاد إلى سبيل يتسنّى للجميع السيرُ فيه، وتحديدُ مجال معين واضحِ المعالم، فالإنسان وإنْ انسلّ من الأنانية وتحرّك باسم الجماعة لكنه يرغب من الناحية النفسية في معرفةِ إطار العمل الذي سيقوم به والنقطةِ التي سيصل إليها، أما تقديرُ الإنسان بسبب ما بذله من سعيٍ وجُهدٍ فإنه يُحفّزُ عشقَه وشوقه إلى فعل الخيرات، وإن كان هناك من يخلطون أنانيتهم في العمل كلّما حقّقوا درجاتٍ مختلفة من النجاح إلا أنه ينبغي في مثل هذا الموقف توجيههم إلى الإخلاص بأسلوبٍ ملائمٍ ليِّنٍ.

لا مكان للركودِ والجمودِ في فلسفة الإسلام ورؤيته الحياتية، فكلُّ شيء فيها نَشِطٌ وحَيَويّ بدءًا من الإنسان حتى الأرض، ومرورًا بالأشياءِ إلى الأزمان.

ومن جانب آخر ففي نفس الوقت الذي تُساعِدون فيه غيرَكم على الانبعاث والحياة تُساعِدون أنفُسَكم أيضًا على البقاء في نشاط وحيوية؛ فالإنسان الذي يُحيي العالمَ لا يُتصوَّرُ أن يبقى هو ميتًا؛ لأنه يستحيل عندما تساعدون الآخرين على النهوض من كبوتهم وتستبدِئُونهم العمل وتجعلونهم يركضون كالمتسابق في سباقات الماراثون أن تتخلّفوا أنتم عنهم وتتأخروا دونهم.

إن معرفةَ القيمة الحقيقيّة للزمن الذي يمثّل خطًّا اعتباريًّا لأَمرٌ في غاية الأهميّة كي نحافظَ على النشاط والحيوية، وقد تعذَّرَ علينا نحن أن نُدرك -مدّةً طويلةً- أنَّ الزمنَ بِـحَدِّ ذاته قيمةٌ مهمةٌ، فهو الكنز الفريد الذي يمكن الفوزُ بالجنة بفضله إن استُغلَّ استغلالًا جيّدًا. أجل، إنَّ الإنسان إذا أحسنَ توظيفَ الزمان فإنّه ينفتح على “اللازمانية”، ويفوز بالأبدية خلالَ فترة زمنية قصيرة وجيزة، فإنَّ معرفة القيمة الحقيقية الأصلية للزمان وإحياء كل لحظة فيه بالحركة والعمل الصالح لتُمثّلُ أساسًا “جوهريًّا” من أجل حياة “خدمةٍ” حيوية نشطةٍ.

[1] القلوب الضارعة: هو كتاب يجمع بين دفتيه مختاراتٍ من أدعية سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وإخوانه من النبيين والصحابة الكرام وكبار الأولياء والصالحين، أشرف على جمعها الأستاذ فتح الله كولن، ومعظم هذه الأدعية مقتبسةٌ من كتاب “مجموعة الأحزاب” للشيخ ضياء الدين الكومشخانوي من علماء العهد الأخير للدولة العثمانية.
[2] بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، المناظرات، ص 379-380.