سؤال: تحدثتم في أحد دروسكم عن الكذب الضمني مثل المبالغة والتماس الأعذار والتعريض، وأكّدتم على ضرورة تجنُّب المؤمن لهذه الأمور.. فهل تتفضلون بتفصيل الموضوع قليلًا؟
الجواب: تسجل الملائكة الكرام كلَّ كلمة تخرج من أفواهنا في سجلِّ أعمالنا، ربما لا تعرف الملائكة ما يقابل هذه الأقوال من قصد، فلا يعلمون بما يخطر على قلوبنا من نوايا وعزائم وقرارات وحسابات وخطط ما لم يأذن الله تعالى، وقد لا يعرفون أيضًا قدر ما يُستهدف منها رضا الله تعالى، وما يُقصَد به إبرازُ النفس، لكن الله جل جلاله مطّلعٌ على كل هذا، فإذا لم يكن هناك توافق تام بين الظاهر والباطن؛ كأن لا تعكس السلوكياتُ والأفعالُ الحسنةُ النوايَا والأفكارَ السيئةَ فإن الله تعالى يحاسب صاحبها على هذا، فلا فرق عنده سبحانه بين الكذب الضمني والكذب الصريح من حيث كونهما كذبًا.
فقد يقع المرء في الكذب الضمني حتى عند ذكره “اسم الجلالة”.. وعلى سبيل المثال فإن الشخص الذي يستمع إلى تلاوة القرآن أو الوعظ، ويصيح قائلًا “الله” دون أن ينفعل من داخله؛ يُعَدُّ فعلُه هذا كذبًا، وعليه أن يرجع من فوره عند إدراكه ذلك، ويعيد النظر في تصرفه، ويتوجه إلى الله عز وجل بالاستغفار.
ومن الأخطاء التي يقع فيها المرء أيضًا اختلاق المعاذير لأخطائه.
فيجب أن ينتبه المؤمن إلى صوت وجدانه في جميع الأعمال التي يقوم بها كتلاوة القرآن والإقامة وأداء الصلاء.. ويجب ألا يسعى إلى إبراز نفسه في الأعمال التي يفعلها لله سبحانه وتعالى، وألا يربط النتائج بشخصه، وألا يحاول التعبير عن نفسه؛ وإلا عُدّ هذا كذبًا ضمنيًّا..
كذلك فإن محاولة المرء التظاهرَ بالرقة والظُّرف واللطافة في حين أنه ليس كذلك؛ أي يتظاهر باللطافة أو يذرف الدموع في حين أن هذا لا ينبع من داخله، فإن هذه نماذج مختلفة من عدم الإخلاص، وجميعها بلا شك يندرج تحت عنوان الكذب الضمني.. ومن المعلوم أن المنافقين يتبوؤون مركز الصدارة في هذا الجانب؛ حيث إنهم يُظهِرون بأقوالهم وأفعالهم ما ليس في قلوبهم، وعلى الرغم من أنه ليس من الصواب وصف جميع من يعيشون تغايرًا بين الظاهر والباطن بالنفاق؛ إلا أنهم جميعًا يحملون شيئًا من النفاق بلا ريب.
وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين التي لا تدمع استعاذتَهُ من النار والشيطان.. فإن العين التي لا تدمع ستؤول إلى الخسران.. ومن جانب آخر فإن من يبكي ويذرف الدموع رياءً وسمعةً، وليس من انفعاله الداخلي وإحساسه ومشاعره، فهو أيضًا قد يكون من الخاسرين، إن الدموع هي إكسير يُخمد لهيب جهنم في الظروف العادية، إلا أنها تفقد كل تأثيرها في اللحظة التي تُرهن فيها برأي الناس وتقديرهم، فلا يمكنها عندئذ إطفاء ولو شرارة واحدة ناهيك عن جهنم.
هل الدموع فحسب؟ في الحقيقة إن كل الأعمال التي يضطلع بها الإنسان في سبيل الله تعالى هي إكسير حياة أيضًا من أجل إحياء وإعمار حياته الأخروية أو الفوز برضا الحق تعالى، المهم أن تُؤدَّى بإخلاص وصدق، وأن تكون بعيدة عن كل أنواع الرياء، من هذه الزاوية يجب على الإنسان أن يقف على الدوام عند كل كلمة تخرج من فمه أو كل عمل يصدر من أعضائه، ويقول: “هل أستطيع يا تُرى أن أعكس بأقوالي وأفعالي هذه صوتَ وجداني؟! هل أنا يا تُرى رجل النوايا؟!”، إذا لم يشعر المرء بصدق حيال هذا الأمر، فيجب أن يتراجع خطوة إلى الوراء، ويقف حيث يجب أن يقف في الأساس.
كما أن للصدق اعتبارًا كبيرًا في نظر الناس؛ فإن له مقامًا في غاية الرفعة والأهمّية عند الله عز وجل، وإن الألطاف والنعم التي يحظى بها ممثلو الصدق عظيمةٌ جدًّا لدرجة أنها تتجاوز إدراكنا.
لنفترض أنكم تخرجون أمام الجماهير وتحاولون أن تكونوا مترجمين لبعض الحقائق سواء بالوعظ أو الخطبة أو بأي وسيلة أخرى، فإن لم ينعكس ولو واحد من عشرة من صوت وجدانكم على الكلام الذي يخرج من أفواهكم، ولم تشعروا بكيانكم باختلاجة الكلمات الصادرة من قلوبكم؛ فإن هذا يعني أنكم تكذبون ضمنيًّا بأسلوبكم وأفعالكم، وإذا كنتم تقصدون إبراز أنفسكم وأنتم تذكرون اسم “الله”، فأنتم أيضًا تكذبون ضمنيًّا.. ولو أن الملائكة الكرام لا يعلمون ذلك ولا يكتبونه فإن الله يعلمه، لأنه تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد، فإذا أردتم الانسلاخ عن هذا النوع من الأكاذيب الضمنية، فيجب عليكم تحقيق التكامل بين الظاهر والباطن، وأن تتركوا المسألة تجري وفقًا لمجراها الطبيعي.
إلى جانب ذلك قد يرغب المرء من خلال آرائه أن يُظهر نفسه بأنه مفكِّرٌ ومتعمِّق، وقد يحاول من خلال أطواره وأفعاله أن يومئ إلى أنه إنسان قلب وروح منفتح على الروحانيات واللدنّيات، ومن خلال نبرة صوته وتوكيداته يريد أن يُبرز نفسه ويعبر عنها.. بيد أن كل هذه الأفعال مجرد كذب ضمني على الله جل جلاله طالما لم تكن انعكاسًا للقلب والروح.. فالواجب على المؤمن التزام الصدق والإخلاص.
اختلاق المعاذير للأخطاء كذب ضمني
ومن الأخطاء التي يقع فيها المرء أيضًا اختلاق المعاذير لأخطائه، فقد نرتكب كلنا بعض الأخطاء في أزمنة متفاوتة؛ لأنه على حد تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ابن آدم خطَّاءٌ، بل إن ارتكاب الخطإ كامن في طبيعة جيناته، وإلا فكيف لكم تفسير الحديث الذي يقول: “وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ“[1]، فإذا همّ الإنسان بسيئة دون قصد ربما لا تكتب سيئةً في صحيفة سيئاته، لأن نبينا صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أن القلم قد رُفع عن الناسي والنائم والمُكره، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ“[2]، وكذلك فإن الآية الكريمة ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/286) تدعو المؤمنين إلى الاستغفار حتى عما يبدر منهم من خطإ أو نسيان، مشيرةً إلى ضرورة أن نتحلى بالحيطة والحذر في هذا الأمر.. فإذا كنا مدعوِّين إلى الاستغفار حتى من الزلات والهفوات غير المقصودة، فمن الواجب علينا الإسراع إلى التطهر بالتوبة والاستغفار من الذنوب المرتكبة عمدًا وبسابقِ قصد.
إن إخبار المرء وتحذيره من خطئه في وجهه يمسّ من كرامته ويثقل عليه.
قد يخطئ الإنسان بأقواله أحيانًا وسلوكياته وأفعاله أحيانًا أخرى.. وعليه إذا ما ذكَّره أحدهم بهذا أن يستدرك خطأه، ويتوجه إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار، أما إذا لم يفعل ذلك وأخذ يبرِّئ ساحتَه بالمعاذير المختلَقة، والتلاعب بالكلمات، دخل هذا أيضًا في خضم الكذب الضمني، وهذا أمرٌ يقع فيه الكثيرون مع الأسف!
أجل، إن إخبار المرء وتحذيره من خطئه في وجهه يمسّ من كرامته ويثقل عليه، حتى إن الشخص قد يرتجف أحيانًا وكأنه قد صُفع أمام هذا التحذير والتذكير، لكن إذا ما كان التنبيه في محلّه، فالواجب شُكر المخاطب وتصحيح الخطإ، ومحاولة منع النفس من الامتعاض والتذمّر، يقول الأستاذ بديع الزمان مشيرًا إلى أهمية هذا السلوك: “إن نبهني أحدٌ على وجود عقرب في أي جزء من جسمي، عليّ أن أرضى عنه، لا أمتعض منه”[3].
وعلى حد قول الأستاذ بديع الزمان، إن الكذب هو صفة من صفات الكفر.. ومن ثم لا يليق أن يصدر عن فَمِ المؤمن، فكما لا يستطيع من يؤمن بالله أن يضع في فمه المسكرات أو الأطعمة المحرمة، فلا يجوز أن يصدر من فمه أي نوع من الكذب كبيره وصغيره، سره وعلانيته، لا شك في أأن الكاذب لا يمكن وصفه بالكفر لمجرد هذا الذنب، إلا أن هذا يعني أن ذلك الشخص قد بات يخطو أولى خطواته نحو الكفر، وأصبح يحمل إحدى صفاته، وإن ارتكاب الإنسان أيَّ سلوكٍ يخالف الواقع سواء قوليًّا أو فعليًّا أو حاليًّا أو حسيًّا؛ فهو كذب وخداع وخطوة يخطوها نحو الكفر، فإن من يبحر لمرة واحدة في بحر الكفر والذنوب -حفظنا الله- قد لا يقدر على العودة مرة أخرى، لذا فعلينا ألا نحوم حول هذه المياه الخطرة، وألا نخرج أبدًا عن دائرة الحلال..
الشخص الذي يستمع إلى تلاوة القرآن أو الوعظ، ويصيح قائلًا “الله” دون أن ينفعل من داخله؛ يُعَدُّ فعلُه هذا كذبًا.
وكما أن صدق الأنبياء هو أكبر شاهد على صدق نبوتهم، فإن صدق السائرين في درب الخدمة الإيمانية والقرآنية هو بالمثل أكبر ضمان لصدق دعوتهم.. فيجب على الإنسان أن يعيش ما يقول حتى يُحدِثَ التأثير في مخاطبيه.. والقرآن الكريم يعاتب من يكذِّب فعلُه قولَه، فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (سورة الصَّفِّ: 61/2-3)، وهذا في الحقيقة أحد العوامل المهمة الكامنة وراء عدم فعالية وتأثير أقوال الأئمة والناصحين في يومنا الحاضر.
ينبغي للمؤمنين أن يعبروا عن أصوات وجدانهم بأحوالهم وحركاتهم، وقيامهم وقعودهم، وإيماءاتهم وقسمات وجوههم، وأن يكونوا دائمًا ممثلين للصدق والحقيقة، فكما أن للصدق اعتبارًا كبيرًا في نظر الناس؛ فإن له مقامًا في غاية الرفعة والأهمّية عند الله عز وجل، وإن الألطاف والنعم التي يحظى بها ممثلو الصدق عظيمةٌ جدًّا لدرجة أنها تتجاوز إدراكنا.
[1] سنن الترمذي، تفسير القرآن، 8.
[2] سنن ابن ماجه، الطلاق، 16.
[3] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب السادس عشر، ص 82.