Reader Mode

إن الذي يظفرُ في الجهاد الأكبر فلا بدّ وأن يفوز بالجهاد الأصغر غالبًا، غير أنه لم يُر قطُّ أن من خسرَ الجهادَ الأكبرَ قد فازَ بالجهادِ الأصغرِ، وحتى وإن استطاع أمثال هؤلاء الوصول بالخدمة والعمل إلى مرحلة معينة فمن المتعذّر عليهم الوصولُ إلى النتيجة المنشودة.

عن السيدةِ عائشة رضي الله عنها قالت: “لما كان ليلةٌ من الليالي قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيلَةَ لِرَبِّي” (يا له من إنسان غايةٍ في اللطف لدرجة أنه يستأذن زوجَتَهُ في قيامه للتعبّد لربّه! ولا غَرْوَ ولا عجب فالأصالةُ تجري في عروقه) قُلْتُ: وَالله إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ الله لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: “أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيلَةَ آيَةٌ وَيلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/190)”[1].

وأحيانًا كان صلى الله عليه وسلم يقوم لعبادته دون إيقاظ زوجته أو استئذانها؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَيلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: “اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيتَ عَلَى نَفْسِكَ”[2].

             لم يُر قطُّ أن من خسرَ الجهادَ الأكبرَ قد فازَ بالجهادِ الأصغرِ.

تشبهوا به لينالوا الفوز بقربه

ها هو صلى الله عليه وسلم، وها هو جهاده الأكبر، وعمقه المعنوي، فإن كان صلى الله عليه وسلم هكذا أيمكنُ أن يكون صحابته غير ذلك؟ فلا بدّ من التشبّه به حتى يتسنّى الفوز بالقرب منه، وكان الصحابة رضوان الله عليهم على وعي تامٍّ بهذا الأمر، فكان منهم أمثال “ثَوبَان”رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الذي خطر بباله يومًا مفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم فانقطعت شهيّته واستولى عليه الهمّ والغمّ.

وكان سيدنا عمر العظيم رضي الله عنه يتلظّى شوقًا طوال حياته للفوز بمصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد تحقيق هذا الأمر عن طريق الزواج بالسيدة فاطمة رضي الله عنها، لكنها كانت من نصيب سيدنا علي كرم الله وجهه، فلما لم يجد عمر رضي الله عنه بدًّا تزوج من أم كلثوم ابنة سيدنا علي رضي الله عنه، ولو أراد لتزوج من ابنة الإمبراطور البيزنطي ولن يجد في هذا عناءً أو مشقةً، بل إنّ ذلك في متناول يده، غير أن همّه لم يكن مجرّدَ الزواج بل توثيقَ الصلةِ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا كان يسعى حثيثًا خلف حسبٍ ونسبٍ ربما يكون في صالحه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.

في الواقع لقد كانت علاقته المعنويّة برسول الله صلى الله عليه وسلم وطيدةً للغاية وفي أعلى درجاتها، ولقد رُئيَ النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ عن يمينه وعمر عن شماله وهو يقول: “هَكَذَا نَكُونُ ثُمَّ هَكَذَا نَمُوتُ ثُمَّ هَكَذَا نَبْعَثُ ثُمَّ هَكَذَا نَدْخُلُ الْجَنَّةَ”[3].

غير أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يريد أن يوثّق صلته المادية أيضًا برسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن هذا المنطَلَقِ زوّجَ ابنته السيدة حفصة رضوان الله عليها بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم، وتزوج هو بحفيدة سيدنا رسول الله؛ أم كلثوم ابنة علي وفاطمة رضي الله عنهما، ولقد سعد سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه أيَّما سعادةٍ بهذه الصِّلة والمصاهرة.

—————–

[1] صحيح ابن حبان، 2/387.

[2] صحيح مسلم، الصلاة، 222.

[3] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 22/205.

المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، صـ199-202.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.