سؤال: مع تطور مستوى الرفاهية وزيادة الإمكانيات تزايدت درجة الاستفادة من النعم الدنيوية، فكيف يمكن تحقيق التوازن في هذا الأمر حتى لا ندخل ضمن شرذمة “المترفين” الذين ذمّهم الله عز وجل في القرآن الكريم؟
الجواب: “المترفون” مصطلح قرآني يُطلَق على الغارقين كلّيةً في المتع والملذات، يأكلون ويشربون ويركنون إلى الدعة والخمول، يرتعون ويلهون كما يحلو لهم، ولا يعيشون إلا لتلبية الحاجات النفسيّة والجسمانية، وفيهم يقول ربُّنا سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/16).
وفي آية أخرى يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ (سورة الأَحْقَافِ: 46/20)، وهذه الآية تذمّ الذين يُهدرون ما يملكون في الدنيا، ولا يستبقون شيئًا للآخرة، ولقد تنبّه أمثال عمر بن عبد العزيز وأبي ذر رضي الله عنهما لمضامينِ هذه الآية وما كان على منوالها؛ فاعتقدوا أنهم سيعيشون خسرانًا في الآخرة بقدر استمتاعهم بالنعم في الدنيا، أما إذا حافظ الإنسان على توازنه عند استعماله للنعم التي وهبها الله له، ولم يُسرف، وتجنَّبَ الترف والأبّهة؛ فلن يعيش حرمانًا في الآخرة.
يجب على الناذرين أنفسهم للخدمة العملُ بالعزائم وليس بالرخص، والانتباه في كل شيء يستخدمونه بدءًا من دور إقامتهم إلى مطاياهم وملابسهم، وألا ينخرطوا في حياة الرفاهية أبدًا.
وفي آيةٍ مشابهةٍ جعل الله تعالى إيثار الحياة الدنيا على الآخرة من خصال غير المؤمنين، فقال: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/3)، فإذا لم يعِ الإنسان للصيف شتاء، ولم يفكر على الأقل كالنملة في الاحتفاظ بحبات من القمح من أجل الشتاء، وأهدر كل النعم التي جناها في الدنيا، ولم يحتفظ بشيء لما بعدُ؛ فلن يبقى له شيء في الآخرة، وهذا يعني أن من أسباب الخسران في الآخرة أن يعتبر الإنسان الدنيا كلّ شيء، وأن يستنفذ كل الإمكانيات التي بحوزته دون تفكير في الآخرة، وأن يكيّف حياته وفقًا لهذه الدنيا، فيجعلها أكبر همه ومبتغى علمه.. وهكذا تشير هذه الآية وما شابهها من ناحية ما إلى خصال المترفين.
العدالة الاجتماعية
ولقد عني الرأسماليون والشيوعيون وبعض العلماء المسلمين المتأثّرين بهم بمفهوم العدالة الاجتماعية عناية كبيرة، وقد يكون الحديث عن هذه المسألة والكتابة حولها أمرًا سهلًا ميسورًا إلا أنّ الأهمّ والأصعب هو تطبيقها؛ فعلى الناس أن يقتدوا في حياتهم بنبيّهم صلى الله عليه وسلم، ثم بالخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، فهؤلاء لم يتخلّوا عن البساطة في حياتهم حتى في الوقت الذي أقبلت عليهم الدنيا بمتَعها وزخارفها عندما كانوا يحكمون الدولة؛ حيث جعلوا مستوى معيشة السواد الأعظم من الناس معيارًا بالنسبة لهم، فما يقتات منه الشعب وما يأكله ويشربه أقاموا حياتهم على أساسه، لم يلبسوا الألبسة الغالية، ولم يقيموا الموائد الفاخرة المتكلفة، بل أحيانًا كانوا يرقدون على الرمال في المسجد النبوي فتطبع على جنوبهم وأطرافهم.
وكذلك سار الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز على نهج الخلفاء الأربعة، وفي الفترة التي امتلأت فيها خزينة الدولة بالأموال وطفحت لم يغير قط من حياته البسيطة، وداوم على أكل الخبز والزيت، هذه هي حقيقةُ العدالة وجوهرُ الحقانية، إنه في مدّة خلافته التي استمرت سنتين ونصف أنجز من الأعمال ما يحتاج إلى مائة سنة، وأعاد النظر في النظام الذي أخلّ به مَن سبقوه من خلفاء بني أمية، ووضع النظام من جديد، ومع أفول شمس الخلافة الأموية في الشام بزغت شمسها مجددًا في الأندلس بفضل جهوده ومساعيه، فأقامت العمران، وظلت تنير أوروبا على مدى ثمانية قرون، حيث مهّد الله تعالى السبيل أمام هؤلاء العظماء الذين كانوا يراعون هذا القدر من الحساسية والدقة في حياتهم، ووفقهم إلى إحراز العديد من النجاحات الباهرة.
كم هو مؤسف أن عصرنا يعاني قلّةَ عقلٍ، وقسوةَ قلبٍ، وذلّةَ روح؛ فلا تقشعر القلوب عند ذكر الله، ولا تدمع العيون، والحياة ترتكز على البدن والجسمانية.
فإن راعى حكام الدولة وضعَ السواد الأعظم من الناس رغم وفرة الإمكانيات؛ فعاشوا على الكفاف وطبقوا القاعدة الذهبية التي جاد بها عمر بن عبد العزيز عندما قال: “خيرُ القصد عند الجدة”[1]، واستحبوا الفقر بإرادتهم؛ تحقّقت حينذاك العدالة الاجتماعية الحقّة.
أما إن استحوذت فئة من الأرستقراطيين على كل الثروات في المجتمع، فأقامت الموائد الفارهة، وارتدت الملابس الغالية، وعاشت الحياة الفاخرة؛ ثارت حفيظةُ الشعب وشهيّته، وإذا ما نظرنا إلى الثورات الاجتماعية في أوروبا وروسيا والصين في وقت ما سنلحظ أن السبب وراء هذا كله هو صراع الطبقات بين الأغنياء والفقراء، لقد تضجّر هؤلاء الفقراء من تداول الثروات بين أقلّيّة معينة، وللحيلولة دون ذلك جنحوا إلى ديكتاتورية البروليتاريا، لكن الأمر انقلب هذه المرة رأسًا على عقب، وأسفر الإفراط في هذه الناحية عن تفريطٍ في ناحية أخرى. وفي اللحظة التي حسبوا فيها أنهم حلوا المشكلة اتخذ الصراع منحى آخر.
وكما لاحظنا فإن شرذمة المترفين تدمّر عاقبتها من جهة، وتُشعل فتيل النزاع والصراع في المجتمع من ناحية أخرى، أما سبيل الخلاص من هذا فيكمن -كما أشرنا سابقًا- في أن يراعي الإداريون والأغنياءُ الوضع العام للمجتمع في حياتهم ونفقاتهم، بل يجب أن يتقاسموا ثرواتهم مع المحتاجين، ويمدوا إليهم يد العون من خلال الزكاة والصدقة والإنفاق حتى يتحقّق نوعٌ من التوافق والتصالح بين جناحي المجتمع، وبذلك لا يتعرّض الضعفاء للضغط والظلم والاستبداد أو الاحتقار، ولا تشتعل مشاعر الكره والحقد في نفوس الفقراء ضد الأغنياء، وكذلك فإن الخلفاء الراشدين لما عاشوا كعامة الناس كسبوا ثقة المجتمع واحترامه، ولما عاش بعضُ سلاطين بني أمية في رفاهية وبحبوحة من العيش جلبوا على أنفسهم كرهَ وحقدَ وبغضَ المجتمع لهم.
قد يضيّق الله تعالى على بعض عباده في الرِّزق لعلمه أنهم لا يستطيعون أن يؤدوا غناهم حقه، وهذا نوع من اللطف الجبري؛ لأن الله تعالى بذلك يصونهم من السفاهة والغفلة؛ بمعنى أن تقشّف الفقير وتواضعه لطف من الله له، المهم هنا هو أن يتحقق هذا التوازن مع الإرادة؛ فما يُكسب الثوابَ للإنسان في الواقع هو أداؤه حق إرادته، وعدم استغراقه في المتع والملذات، وعدم نسيانه لربه وللحشر والنشر، وعدم تقصيره في عبادته وطاعته رغم توسيع الله عليه في الرزق؛ لأن الثروة وسعة الرزق كثيرًا ما تكون سببًا في الغفلة، والغفلةُ يصاحبها الانشغال بالدنيا والبعد عن الله، وبذلك يكون التوسيع في الرزق رزيّة وليس مزية، فإذا صبر الإنسان، ولم ينحرف، ولم يُثِر شهية الآخرين وحفيظتهم ضده بأفعاله وتصرفاته، ولم يستثر غضبهم عليه، بل مدَّ يد العون للمحتاجين منهم بما لديه من إمكانيات، وكسب محبتهم وتعاطفهم؛ فبذلك يكون قد أوفى حقَّ نعمِ الله عليه، وأدى شكرَه نحو ربه جل وعلا.
دور المتع والملذات في انهيار الدول
من أهم الدساتير التي جعلتُها نبراسًا لي في حياتي هي توقير الآباء والأجداد، وذكر السلف بكل خير؛ لأن هؤلاء بذلوا كل وسعهم في خدمتهم للدين، ولهذا فإنني أتجنب بقدر الإمكان مساءلتهم ونقدهم، ومع هذا لا تُنكَر أهمية إدراكِ بعض الحقائق التاريخية واستنباطِ العبرة منها.. وإننا إذا ما درسنا أسباب انهيار الدول الإسلامية منذ فجر التاريخ مثل الدولة الأموية، والدولة العباسية، والدولة العثمانية، والأندلس؛ سنلحظ أن الميل إلى الدنيا والبذخ والإسراف له دور كبير في وقوع هذه الدول وانهيارها.
إن شرذمة المترفين تدمّر عاقبتها من جهة، وتُشعل فتيل النزاع والصراع في المجتمع من ناحية أخرى.
فمثلًا منذ نشأة الدولة العثمانية حتى عهد السلطان القانوني كان السلاطين العثمانيون يخرجون على رأس الجيش إلى المعركة، فكانوا بذلك يرفعون الروح المعنوية لدى الجنود، ولكن في الفترات التالية تخلى السلاطين عن تلك العادة، ولم يشعر الجيش بحاجة إلى إظهار بطولاته الخاصة به، ومن ثمّ توالت الهزائم إثر بعضها البعض، فمثلًا بعد هزيمة “فيينا” حُكم على الصدر الأعظم “قره مصطفى باشا الميرزفونلى (Merzifonlu Kara Mustafa Paşa)” بالإعدام، ولكن يا تُرى هل الجرم يقع فقط على عاتق الجيش والميرزفونلى؟ كما أن هناك تساؤلات أخرى تصرّ على ذهن الإنسان مثل: “سلطاننا المعظم، لماذا لم تخرج مع الجيش إلى فيينا؟ إن العديد من أجدادك مثل السلطان القانوني والسلطان سليم الأول قد رحلوا إلى أفق أرواحهم وهم في جبهة الحرب أو عند خروجهم إليها، فَلِمَ انحرفت أنتَ عن طريقهم؟
فمع الأسف أدى انزواء السلاطين العثمانيين في القصور واستغراقهم في الملذّات إلى تثبيط عزائمنا وركوننا إلى الدعة والخمول، كما أن الرغبة في العيش بالبيوت المبهرجة، وعدم القناعة ببيت واحد، وتشييد البيوت للأبناء والأحفاد، بل والتفكير في الأصهار من الرجال والنساء، باختصار صار الولع بالحياة، والتخلي عن فكرة الإحياء سببًا كارثيًّا كبيرًا بالنسبة لنا.. ولو قرأتم كتاب “ليالي القمر على البوسفور (Boğaziçi Mehtapları)” للأديب التركي “عبد الحق شيناسي حصار” لأدركتم بوضوح كيف كان العثمانيون غارقين في الملذات في العهد الأخير للدولة العثمانية، لقد كان هذا الوضع أشبه ما يكون بفيروس “إيدز” الفتاك بالنسبة لنا.
السبيل إلى العيش بعفة وعدم الانزلاق وراء الإغراءات
يحب ألا ننسى أن مثل هذه الغفلة التي قد تقع دائمًا في حياة البشر يمكنها أن تأسرنا، وعليه يجب أن نكون في حالة تيقّظ وانتباه دائمة.. إنني أنزعج حتى من المكان الذي أقيم به حاليًّا لأنني أراه فاخرًا جدًّا، إنني أتضجّر من الجلوس على المقعد، ولا تزال في روحي رغبة بأن أقيمَ في كوخ خشبي، وعند نافذة الجامع، ولكنني بدأت أرقد في الفراش بسبب آلام معينة أعانيها بعد سن الستين فحسب؛ فما جلست في مقاعد فاخرة لا في سنوات دراستي، ولا خلال المرحلة الطويلة التالية لها من حياتي، ويجب ألا يُعتبر قولي هذا تواضعًا مصطنعًا، فذلك شيءٌ يخالف طبيعتي.
في الواقع يجب على كل مؤمن أن يكون حذرًا في هذا الموضوع، وأن يحقق التوازن من تلقاء نفسه وبإرادته الخاصة؛ لدرجة أنه لا ينبغي أن يسمح للمشاعر والمتع والرغبات والأهواء الدنيوية بأن تغريه فيظن بأنه سيستطيع أن يحافظ على توازنه رغم وجودها، وأنه ربما يستطيع التعبير عن نفسه أكثر من خلالها، كلا.. بل يجب على الإنسان أن يُكَوِّن أرضية يستطيع العيش عليها بشكل يوائم فطرته ويكفي حاجاته، وأن يُغلق جميع المنافذ التي قد يتسلل إليه الشيطان والنفس منها، أما مَنْ يغوص في البوهيمية فإنه ينخدع بوهمٍ يُسيطر عليه ويأسره ويُسيِّره ويتحكّم به، وكأن رُقاقة إليكترونية قد ثُبِّتت في عقله للتحكم فيه.
إن لم يسيطر الإنسان على نفسه بخصوص الاستفادة من النعم الدنيوية، ولم يكتفِ بالدائرة المشروعة فقد يصبح عُرضةً لاستغلال الآخرين إياه؛ حتى إنه يقع في فخاخ أناس يضطر بعد فترة أن يكون ذيلًا لهم فيتحرك كيفما يشاؤون، ومن قضوا علينا وفرّقونا منذ الأمس وحتى اليوم فعلوا ما فعلوا عبر استخدامهم هذه النوعية من الطرق، ولا نَنْسَ أنه يوجد في يومنا أيضًا بعضُ بُؤر الشر سيئة النية لن تتوانى عن إزعاج ومضايقة حركة كهذه التي نذرت نفسها للخدمة ولتحقيق السلم والطمأنينة في العالم، وقد تتزلف تلك البؤر الشريرة إلى بعض الناس كي تستخدمهم في سياق آمالها المظلمة، وتعرض عليهم أشياء من المتع الدنيوية، حتى إنها قد تظهر أحيانًا على أنها تنافح عن الحق، فتزين لهم الشرور، وتقدم لهم بعض الإمكانيات الدنيوية، وبينما هي تفعل ذلك تقدم لكم شتى أنواع الإغراء، فتجعلكم أسرى وأرقاء لها، فإن لم تُظهروا الحساسيّة اللازمة في هذا الشأن ولم تنتبهوا فإنكم، ودون أن تدركوا أبدًا، قد تُشِلُّون إرادتكم وأنشطتكم التي ستقومون بها.
إنكم تمثلون رسالةً حياتيّة للغاية.. أنتم أبطالُ الإحياء، وإذا ما أُصبتم بحبّ الحياة فإنكم تئِدون مهمّة الإحياء، وإن تستسلموا للحياة تخسروا نشاطاتكم الإحيائية، وعندئذ يستحيل الحديث عن وجودكم؛ إذ إن هذا يعني أنكم صرتم عدمًا، وحكمُ الله تعالى بشأن جماعةٍ هكذا حكمٌ واضحٌ صريحٌ، إذ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/54) وكما ورد في هذه الآية الكريمة يذهب الله تعالى بهؤلاء، ويقضي عليهم، ويأتي بأناس آخرين جدد ونُضرٍ تمامًا.
و”الارتداد عن الدين” المذكور هنا له مستويات مختلفة؛ فالبعض يرتد من الإيمان إلى الكفر، والبعض يظهر تراخيًا في تطبيق الأركان الإسلامية، والبعض الآخر يفقد تمامًا ما لديه من عشق وشوق للخدمة؛ فيُنحّيَ جانبًا المشاعرَ والأحاسيس مثل: حس الإحياء، وحس التضحية، ومفهوم الإيثار، ويرجع عن الطريق الذي يسير فيه فيتخلى عن الخدمات التي يقوم بها، وكل واحد من هذه الأمور ارتداد بمعنى مختلف عن الآخر، ويعني تراجعًا إلى الوراء.
من أسباب الخسران في الآخرة أن يعتبر الإنسان الدنيا كلّ شيء، وأن يستنفذ كل الإمكانيات التي بحوزته دون تفكير في الآخرة، ويكيّف حياته وفقًا لهذه الدنيا، فيجعلها أكبر همه ومبتغى علمه.
أجل، إذا ما ارتد قوم عن الطريق والغاية والإدارة والنظام والرؤية الكونية وفلسفة الحياة التي تبنّاها المجتمع -أيًّا كان نوع ذلك الارتداد- فإن الحق عز وجل يقول لهم: “إنكم باستسلامكم للفساد والتعفّن تُعلنون عن أداء مهمّتكم وانتهاء أمركم؛ لذلك حقّ عليَّ أن أستبدلكم بقوم آخرين يحبون الله ورسوله حبًّا جمًّا، ويحبهم الله ورسوله حبًّا عظيمًا”.. وبينما هؤلاء ينحنون أمام المؤمنين رأفةً وتواضعًا يقفون صامدين في مواجهة الكفر والإلحاد، ويقومون بواجبهم في إعلاء كلمة الله؛ أي إنهم يسعون كي يبلغوا ثقافتهم وقيمهم إلى كل أرجاء الدنيا، وبينما يقومون بهذه الوظيفة لا يُلقون بالًا إلى انتقادات ولَوم بعض الأفواه الثرثارة، لأن هؤلاء الناذرين أنفسهم حين يُقبلون على خدمة كهذه دون تشوف إلى أي شيء فقد يرميهم بعضُ المنزعجين من النور بِتُهم ومزاعم لا أساس لها من الصحة، ويسعون إلى تشويههم بأكاذيب وافتراءات مُختلقة، غير أن مَن نذروا أنفسهم يواصلون مسيرهم دون أن يقفوا عند هذه النوعية من العراقيل.
لذا يجب علينا أن نسعى كي نظل جددًا نضرين دائمًا؛ فأهمُّ ديناميات هذه الخدمة هو روح التضحية، إنْ نذَر إنسان نفسه لقضية معينة فيجب ألا يتشوّف إلى شيء آخر، فلا يركض وراء المنافع المادية، ولا يفكر في الرفاهية الدنيوية، ولا يركن للمتعة والدعة، وتراه يهرب من المكاسب غير المشروعة والمتع الحرام كمن يهرب من الشيطان، ويدعو الله دائمًا ويتوسل إليه: “اللهم لا تحرمنا من روح الإحياء والتضحية! اللهم لا تدعنا إلى علةٍ هي بلاء منك مثل علة حب الحياة والعيش!”، وكما يتنبه من نذروا أنفسهم إلى هذا يسعون كذلك إلى أن يظل رفاقهم أيضًا على هذا الدرب، وإن انزلق وانحرف في هذا الشأن أحدٌ سعوا إلى إعادة تأهيله وإصلاحه، ويستخرجون الدروس والعبر من حال السابقين الغابرين، ويعيشون عازمين جاهدين على ألا يقعوا في مثل ما وقع فيه السابقون من خطإ وزلل.
إذا حافظ الإنسان على توازنه عند استعماله للنعم التي وهبها الله له، ولم يُسرف، وتجنَّبَ الترف والأبّهة؛ فلن يعيش حرمانًا في الآخرة.
طريق من نذورا أنفسهم للخدمة
أرى أنه يجب على الناذرين أنفسهم للخدمة العملُ في هذه الشؤون بالعزائم وليس بالرخص، يجب عليهم الانتباه في كل شيء يستخدمونه بدءًا من دور إقامتهم إلى مطاياهم وملابسهم، وألا ينخرطوا في حياة الرفاهية أبدًا، فإن كان منزل من حجرتين يفي بحاجتهم لزمهم ألا ينتقلوا إلى ما هو أكبر، وعليهم عند شراء سيارة أن ينظروا أيحتاجونها أم لا، وألا تحتوي خزائن ملابسهم على ما زاد عن حاجتهم، وإن كانوا سينتقلون من مكان إلى آخر وجب عليهم اختيار أكثر الطرق اقتصادًا، عليهم أن يجعلوا منهجهم في الاستفادة من نعم الدنيا تذوُّقًا لا شبعًا منها، وعليهم تعويدُ أنفسهم على حياة الاقتصاد والتدبير.. -والحقّ أن اقناعَ الفقير الفاقد للإمكانيات المادية واقتناعه بالاقتصاد والتدبير ليسَ فضيلةً، وإنما الفضيلة والأساسُ في القدرة على الاقتصاد مع توفر الإمكانيات لأنَّ خيرَ القصد عند الجدة- فإن لم يراجعوا حياتهم ثانية وتعذّر عليهم تصميمُها وفقًا لهذه المبادئ استحال عليهم أن يمنحوا غيرهم النظام والانتظام.
والخلاصة أنه يجب عليهم أن يُؤسسوا حياتهم على الاقتصاد والقناعة، ويبتعدوا عن الإسراف بكل أنواعه؛ فكما أن الاقتصاد سببٌ للبركة فإن الإسراف سبب للخيبة والخسران، وينبغي أن نتّخذ مفخرة الإنسانية أسوةً حسنة لنا في هذا الشأن أيضًا كما هو الحال في كل شأن؛ ذلك أن الحجرة التي أقام فيها هو وزوجتُه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها كانت ضيّقة لدرجة أنه ما كان يبقى له موضعٌ يسجد فيه ما لم تطْوِ أمُّنا المباركة قدميها[2]، لقد كان ينام على الحصير صوات الله وسلامه عليه، وكما أن ميل الناس في زماننا إلى الحياة الفارهة والترف يستحيل أن يكون حجةً لنا يستحيل أيضًا أن يكون معيارًا؛ فلدينا معيار واحد ووحيد: إنه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم؛ ومن كان ذا رؤيةٍ ومعايير مخالفة لما نراه فليعش وفقًا لفهمه وعاداته الخاصة كما يحلو له، لكن يجب ألا ننسى أبدًا أن الإنسانية لن تجني نفعًا ممن يعيشون حياتهم من أجل جسمانيتهم وراحتهم فقط.
“المترفون” مصطلح قرآني يُطلَق على الغارقين كلّيةً في المتع والملذات، يأكلون ويشربون ويركنون إلى الدعة والخمول.
كم هو مؤسف أن عصرنا يعاني قلّةَ عقلٍ، وقسوةَ قلبٍ، وذلّةَ روح؛ فلا تقشعر القلوب عند ذكر الله، ولا تدمع العيون، والحياة ترتكز على البدن والجسمانية؛ لقد سُلّمَت أزِمّة الأمور إلى النفس، وراح الناس يفكرون في الأكل والشرب والراحة والاستمتاع بالحياة فحسب.. فلا حديث عن سلامة الروح والعقل والقلب، كم أنه صعبٌ جدًا! وبالتالي تبدو الإنسانية سائرةً في طريق من شأنه أن يمهد الطريق إلى الشقاء والسفه، في حين أن تحويل ديار المحنة هذه إلى ممرٍّ يؤدّي إلى الجنة يمكن أن يتحقّق بالحيوية في حياة القلب والروح، والسبيل لنيل راحة الدنيا والعقبى كليهما مرهون بالعقل السليم والقلب السليم والروح السليمة، لكن المؤسف أنّنا فقدنا ذلك منذ بضعة عصور، ويستحيل القول إن أمّتنا على وعي بهذا الذي فقدناه.
إن إنسانًا يبحث دائمًا عن الفُرش الدافئة والوسائد الناعمة، والأرائك الملائمة للراحة والدِّعة، ولا يفارق الموائد الفاخرة، واعتاد على الاستفادة من شتى النعم يستحيل أن يشعر بالشوق إلى الله الذي هو المتعة الحقيقية.. تُرى كم يبلغ عدد الأشخاص الذين يمكن القول إن صدورهم تخفق بإعلاء كلمة الدين؟ كم شخصًا يرفع الواحد منهم يديه ويتألم داعيًا الله “اللهم إن كانت حياتي تفيد شيئًا لصالح إعلاء الدين فأحيني، وإلا فخُذني إليك!”؟ إنّ ما يقع على عاتقنا هو السعي إلى بلوغ هذا الأفق وبعث هذه الروح بيننا من جديدٍ.
[1] الغزالي: إحياء علوم الدين، 3/356، ومعنى العبارة: أي إن أفضل أنواع الاقتصاد ما كان عن غِنى وليس عن فقر.
[2] صحيح البخاري، الصلاة، 106.