Reader Mode

سؤال: يقول الله عز وجل ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ (سورة الرَّعْدِ: 13/21) كوصف من أوصاف أُولي الألباب، فما المقصود من “الصلة” المذكورة في هذا البيان الإلهي؟

الجواب: تلفت الآيات الكريمات المقصودة بالذكر الأنظار إلى خمسة أوصاف لأولي الألباب، فيُعبر أولًا عن وفائهم بعهدهم لله تعالى بعبارة “الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ“، وهذه الآية تشمل وفاءهم بوعد “الإيمان” الذي قطعوه على أنفسهم للحق تعالى في عالم الأرواح، وكذلك وفاءهم بوعودهم في علاقاتهم البشرية، وبعد الذكر بالجانب الإيجابي لمسألة الوعد يرد الحديث أيضًا عن الجانب السلبي: “وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ“، فينفي نقضَهم لوعودِهم وعهودِهم.

ثم يُفهَم من قوله تعالى: “وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّٰهُ بِه أَنْ يُوصَلَ” أنهم يصلون ما يأمر الله تعالى بوصله، ويُراعون ما يأمر بمراعاته من الأمور.

بعد ذلك يَلفت الانتباه بقوله “وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ” إلى أن أولي الألباب يعيشون في خوف وخشية من ربهم، وأنهم يتلوّون دائمًا خشوعًا وخضوعًا في طوق العبودية. والخشية تعبير عن احترام داخلي تجاه الله تعالى، والخشوع يعني التذلّل والانحناء كالعصا أمام عظمة الله وجلاله. وكون الإنسان متصفًا بالخشية والخشوع أمرٌ مرتبط بمعرفة الله سبحانه وتعالى، وهو ما يُعبر عنه في الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (سورة فَاطِرٍ: 35/28).

إن كان المرء يحافظ على علاقاته وزياراته بالرغم من التصرفات السلبية للطرف الآخر فتلك هي صلة الرحم الحقيقية.

وعقب ذلك يُقال: “وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ“، أي إنهم يخافون ويرتعشون ارتعاشًا من أن يواجهوا الحساب بشدة للغاية.

أمر إلهي يجب إحياؤه

أوصاف أولي الألباب المذكورة في السورة ليست مقصورة على هذه الأمور فحسب، فثمة أوصاف أخرى أيضًا. ولكن بما أن السؤال عن “الصلة” وليس عن تلك الأوصاف كلها، فدعونا نحاول الوقوف على ذلك بعض الشيء.

الصلةُ لغة تعني الرابطة والعلاقة، وفي الاصطلاح الإسلامي تُستَخدم بمعانٍ مثل الحفاظ على الروابط الإنسانية، وفعل الخير، والمراعاة، لا سيما الحفاظ على دفء علاقات القرابة وذوي الأرحام. وبما أنه تم الوقوف في العبارات السابقة على مسألة الوفاء بالعهد ونقضه، فإن المعنى الأول الذي يفهم من الأمور التي أمر الله بمراعاتها ووصلها هو الوفاء بالعهد، والثبات على الوعود والعهود المقطوعة. وإلى جانب هذا فإنه يدخل ضمن هذه الآية معانٍ أخرى مثل إقامة علاقة وصلة لا تنقطع بالله، ومفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، وأوامر الإسلام الدين المبين؛ فكل الواجبات الدينية بدءًا من أسس الإيمان إلى أركان الإسلام، ومن أصول الدين إلى أحكام الفروع يمكننا أن نراها نوعًا مما يجب أن يوصَل، وباختصار يمكن القول: لقد أُمرنا ههنا بالالتزام بالدين وبأحكامه.

إن كان المرء يصل رحِمَه طلبًا لرضا الله تعالى فحسب، ودون أن يأبَهَ بتصرّفات أقاربه، فلا شك أن عمله هذا سيكون أفضل بكثير عند الله تعالى.

وبمعنى أكثر خصوصية، فإن المقصود من الصلة هنا هو صلة الرحم، أي مراعاة أواصر القربى وعلاقاتها، وهذا الجانب من المسألة من الأهمية بمكانٍ لا سيما في عالم اليوم الذي انقطع فيه الناس بعضهم عن بعض. فمن المؤسف أن البشر الذين هم فروع أو براعم أو أوراق أو ثمار شجرة واحدة يعيشون منفصلين بعضهم عن بعض، فالأبناء ليسوا مقصرين في واجبهم ومسؤولياتهم تجاه أقاربهم فحسب، بل إنهم في قطيعة مع آبائهم وأمهاتهم. بل وحتى لا يعرفون معظم أقربائهم وأولي أرحامهم إلى أن نسوا المسؤوليات الواجبة تجاههم. وبما أن المجتمع قد انفصل عن قيمه الخاصة ويعيش غربةً خطيرة، فمهما يُنفّذ من حشدٍ وجهد ومهما تبذل من جهود لإعادة تأهيل الناس في هذا الصدد فهي قليلة.

وحينما ننظر إلى القرآن الكريم يتبين أنه كثيرًا ما يتم التأكيد على حق الوالدين وصلة الرحم في آيات عديدة منه؛ فمثلًا يقول الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/36)، فقد قرن الحق سبحانه وتعالى عبادته وطاعته بالإحسان إلى الوالدين والأقربين.

لهذا السبب يجب أن يكون لدى المؤمن شعور حقيقي بصلة الرحم تجاه أقاربه، وينبغي ألا يُحرَم أحدٌ منهم مهما كانت درجة قرابته، وخاصة الآباء والأمهات، من صلة الرحم. وبما أن الله جل جلاله قد قرَن الأمر برعاية حقوقه بالأمر برعاية حقوق الوالدين، ثم الأقارب، ثم الأشخاص الآخرين الذين بيننا وبينهم صلة أو علاقة ما، فيجب مراعاة هذه الحقوق ألبتة. فحتى الأحجار الجامدة لا تسقط ولا تنهار عندما تتكاتف وتتعاضد فتشكل قبابًا وأقواسًا متينة، وهكذا أيضًا حينما يتعاون الناس ويتكاتفون في الحياة الاجتماعية بدءًا من أقرب دائرة، ويدعم بعضهم بعضًا في احتياجاتهم المادية والروحية؛ فلن يسقطوا ولن ينهاروا.

يجب ألا تحول الخدمة دون صلة الرحم

من وقت لآخر قد يخطر بذهن الإنسان بعض الملاحظات الشيطانية مثل “إنني على أية حال أعمل في الخدمة، إنني أركض خلف واجب مقدس مثل إعلاء كلمة الله، وبينما أضطلع بهذه الواجبات المهمة للغاية فلا ضير حتى وإن لم أهتمّ بحقوق الوالدين والأقارب…”، وبالتالي قد يصبح الإنسان غير مبال برعاية أواصر القرابة وصلة الأرحام، ذلك أنه ليس من الممكن التوفيق بين مثل هذه الأفكار والمنطق القرآني، لا أحدَ يستطيع أن يمحوَ أو يتهاونَ بمسألةٍ أكَّدَ وشدَّدَ عليها القرآن والسنة، فإن كان الله جل جلاله أمر في كتابه العظيم بمراعاة حقوقهم فهذا تكليف ديني مهم جدًّا بالنسبة للمؤمن، لا حقّ لأحدٍ في تغيير أحكام الله، لذلك فمن واجب المؤمن أن يَصِلَ ما أمر الله به أن يوصَلَ، ويقبّل أيدي والديه، ويطلب دعاءهم، وإذا كان لديهم احتياجات فيجب عليه تلبيتها.

فإنه من الممكن أداء الخدمات التي يجب القيام بها دون تقصير، ولكن مع مراعاة حقوق الوالدين والاهتمام بالأقارب ورعايتهم، لا ينبغي لأي شيءٍ مهما كان مهمًّا أن يكون عقبةً أو حائلًا أمام الآخر، ويجب كذلك أن نخدم الإسلام الدين المبين طلبًا لرضا الله عز وجل، ومن ناحية أخرى لا ينبغي لنا أن نتجاهل نَيل رضا الوالدين والأجداد والجدات، والأخوال والخالات، والأعمام والعمات.

بما أن المجتمع قد انفصل عن قيمه الخاصة ويعيش غربةً خطيرة، فمهما يُنفّذ من حشدٍ وجهد ومهما تبذل من جهود لإعادة تأهيل الناس في هذا الصدد فهي قليلة.

الواقع أنه يمكن اعتبار صلة الرحم وسيلة مهمة لإفراغ إلهامات قلوبنا في صدور الآخرين، ومن خلال الحفاظ على تماسك علاقاتنا مع عائلاتنا وأقاربنا يمكننا أن نجعلهم يدركون ما لدينا من جماليات أيضًا، وهكذا نجعل زياراتنا أكثر بركة بعون الله وإذنه تعالى، ويمكننا تحويلها إلى سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، يمكننا أن نعبر لهم بمواقفنا وتصرفاتنا -وإن لم يكن بأقوالنا- عن بعض الأشياء، وأن نكون قدوةً لهم، وكما نقول دائمًا: “الحال مفتاح لحلول جميع المعضلات”.

ولا سيما أنه مع تطور وسائل الاتصال في يومنا قد صار من السهل جدًّا السؤالُ عن أحوال الأقارب وذوي الأرحام وظروفهم وإرضاؤُهم، فإن كنا نعيش بعيدًا عنهم ولا نستطيع زيارتهم دائمًا يمكننا أن نفي بواجبنا في صلة الرحم عن طريق وسائل مختلفة مثل الهاتف والإنترنت، يمكننا أن نتحدث معهم صوتًا أو صوتًا وصورة، وننقل إليهم ودّنا ومحبتنا، وأن نكون على دراية بأحوالهم، ونرضيهم.

يجب وصل من قطعنا

أريد أن أتطرق إلى نقطة أخرى تتعلق بالموضوع، ألا وهي أن قطع أقاربنا علاقاتهم بنا وعدم وفائهم بحق صلة الرحم لا يمكن أن يكون حجة لنا لئلا نفي بهذا الواجب تجاههم؛ فقد ورد في الأحاديث النبوية الشريفة أن ثواب من يصل رحمه وقد قطعوه أكثر وأفضل مِن ثواب مَن يَصِلُ من وصلوه[1].

ليت الجميع يفي بهذا الواجب المهم المنوط به! ليته يتصل بأقاربه ويسأل عنهم ويزورهم، ويقبّل أيدي كبارهم، ويعتني بصغارهم، وكما أشرنا سابقًا هناك انفصام خطير في يومنا هذا حتى بين أقرب الأقارب، لذا علينا أن نذهب نحن إلى أقاربنا حتى وإن لم يأتوا هم إلينا، ونسأل عن أحوالهم وشؤونهم حتى وإن لم يسألوا هم، وكما جاء في المثل التركي: أن مقابلة الخير بالخير هو شأن الجميع، بينما مقابلة الشر بالخير هو شأن الرجال العظام.

إن قطع أقاربنا علاقاتهم بنا وعدم وفائهم بحق صلة الرحم لا يمكن أن يكون حجة لنا لئلا نفي بهذا الواجب تجاههم.

الجميع يستجيب لصلة من وصلوه، وزيارة من زاروه، فمقابلة الخير والإحسان بمثلهما أمر سهل، وهذا يشبه نوعًا من البيع والشراء، فهو وسيلة ربح لكلا الطرفين، إلا أنه ليس سهلًا الحفاظ على البر والإحسان حين لا يقوم طرف بأداء ما يقع على عاتقه، فإن كان المرء يحافظ على علاقاته وزياراته بالرغم من التصرفات السلبية للطرف الآخر فتلك هي صلة الرحم الحقيقية، فإن كان ثواب المرء عشر حسنات مثلًا في وصله رحم من يصله فربما يكون ثوابه مائة حسنة في صلةِ رحمٍ هكذا من جانب واحد.. لأن وصل إنسان لمن قطعه، وأعرض عنه أمرٌ صعبٌ جدًّا على النفس، فإن كان المرء يصل رحِمَه طلبًا لرضا الله تعالى فحسب، ودون أن يأبَهَ بتصرّفات أقاربه، فلا شك أن عمله هذا سيكون أفضل بكثير عند الله تعالى.

والأكثر من ذلك أنه قد تغلق الهواتف في وجوهنا أحيانًا، ونُطرد من أمام الأبواب، ويُقال لنا إننا لا نريدكم، ربما لا يأتينا رد على رسائل التهنئة كلها التي نرسلها في الأعياد وفي المناسبات الخاصة، يجب ألا نستاء وألا نتضايق بالرغم من كل هذا.. بالعكس نحن بحاجة إلى إيجاد طرق لتليين مخاطبينا عبر البحث عن أساليب جديدة وتطوير أنماط مختلفة، يجب أن نذهب إليهم سواء جاؤوا إلينا أم لا، وأن نكرمهم سواء أكرمونا أم لا، يجب أن نتصل بهم سواء اتصلوا بنا أم لم يتصلوا، يجب أن نقابل شرهم بالخير وغلظتهم باللين والرفق.

إن أخلاق المؤمن تقتضي ذلك، والبطولة والمروة تكمن هنا، وهذا هو المنهاج المحمدي.


[1] انظر: صحيح البخاري، الأدب، 15؛ مسند الإمام أحمد، 383/24.

ملحوظة: هذا المقال تم تجهيزه من اللقاءات التي دارت في (27 ديسمبر 2007م و10 يوليو 2012م).

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts