سؤال: كيف يكون حالنا إزاء فتن آخر الزمان؟ وكيف نحمي أنفسنا؟.
الجواب: في القرن التاسع عشر اُحْتُلَّت عدة دول إسلامية وسُحقت تحت هيمنة الأفكار والنظريات الباطلة. ولقد غادر المنافقون والظالمون الأوروبيون البلادَ التي احتلّوها مغادرةً ماديّةً بعد أن نثروا فيها البذور المسمومة لكلّ أراجيفهم الفكرية، ومن سوءِ طالِعِنا أننا نعيش في عصر ترعرعَتْ فيه هذه البذور التي لا أصلَ لها في صدورنا؛ فأوقَعَتْنا في حالةٍ يُرثى لها. ولقد أحدثت شرارات فتنهم نارًا هائلةً أحرقت حياة المجتمع، وهذه الفتن بالمئات! وها هو جيلنا الحالي قد بدأ يسأل عن موقفه إزاء هذه الفتن، ولقد أسعدنا وأثلجَ صدورَنا البدءُ في طرح هذا السؤال، وفي رأيي أن هذا ينمّ عن مدى ما وصل إليه شبابنا من وعي.
حاول الذين أنكروا وجود الله ووحدانيته إعمال سهامهم أولًا في عقيدة التوحيد، ونجحوا في ذلك فترةً من الزمن، وعاصر هذا الشعب فترات جعلت إنكارَ الله من قبيل الحداثة والتحضُّر، فاسْتُخِفّ بالدين كلّيّة، وامْتُهِنَت المفاهيم التي تُقدّسه.
محاولات محو روح الأمة
حاول الرعاع جاهدين محو تبعية الأمة للقرآن الكريم بشكلٍ ممنهج، وإحلال الكتب الأخرى بدلًا عنه، وسعوا لانتزاع الاسم المبارك للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يتربّع على عرشِ القلوب من صدور المؤمنين وجعْلِ غيره مكانه. واخترعوا أماكن للحج بديلةً عن الكعبة، وهكذا عملوا على إبعاد الأجيال عن جذورِها الروحيّة وجوهرها بالدفع بها إلى مثل هذه الفوضى الفكرية، ورغم أن هذه المحاولات لم تؤثّر تأثيرًا كبيرًا في عموم الشعب إلّا أن أكثر الجيل الجديد الغرّ قد انجرف وراء هذا التيار نظرًا لضعفِ إرادته وخَوَر قوته على مواجهة مثل هذه المؤامرات.
كم من أرواح جرحى! وعقول عليلة! وقلوب حالكة الظلام اليوم بسبب هذه الفتن!…
ظاهرة جنونية
لا حدّ ولا حصرَ لكمّيّة الارتداد عن الدين، ولقد تفشَّت ظاهرةٌ جنونيّة لم نسمع بها أو نشاهدها في أيِّ عصرٍ مضى؛ فلقد تجرّدَ البعضُ عن أسمائهم رغم أنها أسماء لأشخاصٍ نضحّي بأنفسنا من أجلهم، وتحوّلوا إلى أعداء لمحتوى ومعنى الأسماء التي كانوا يحملونها.
وفي هذه الفترة أصبحت الدنيا فقط هي المطمع والمبتغى، وحُبِّب إلى الناس كل ما يثير شهواتهم وأطماعهم المادية، وأصبحوا يشترون بالجنة الدنيا الفانية. واندفع الناس بعلمٍ أو بدون علم إلى هذا السباق، فمن آثروا الآخرة وسلكوا سبيلها امتُهِنُوا، أما غيرهم فلاقى كل تعظيم وتقدير، مما زادَ مِن عزوف الناس عن الدين.
فاضطر جيلنا اجتياز هذه المرحلة التي أصبحت فيها المرأة نهبًا للناظرين، وشاع فيها مصائد الخمر والقمار والرشوة والاحتكار والربا… إلخ. كان لا بدّ لجيلِنا عبور هذا الطريق الشائك، ولكن الواحد منهم لو نجح في تجاوز عقبةٍ لم يستطع تجاوز أخرى غالبًا، أما المصطفون الذين نجحوا في عبور الطريق إلى الجهة المقابلة فهم أقلّ القليل.
“النورسي” يصلح ما خربه الآخرون
سبيلَ خروجِ الفردِ من البئر والنجاة منها هو الفوّهة نفسها التي تردّى من خلالها. وممن استوعبوا هذه الحقيقة مبكّرًا مرشدُ العصر الكبير الأستاذ النُّورسي، إذ رأى أنّ من الحكمة أن يبدأ الإصلاح من المواضع التي خرّبها السابقون. لقد أراد هؤلاء إُضرام نار الفتنة، غير أن الله أبى إلّا أن يطفئها: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سُورَةُ يُوسُفَ: 12/21)، وسَدَّ المنفذ الذي انبعثت منه بعدَ أن كادت تصيب العقيدة. أما فتن الأعمال، وشرارات الذنوب؛ فسنحاول إطفاء نيرانها أيضًا -بمشيئة الله ـ بماء الكوثر الذي استخلصناه من دروس وعبر القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وما قرأناه من مؤلفات، غير أننا في هذا الصدد بحاجة ماسة إلى دعم كلِّ مؤمن؛ لأن الفتن عندما تهاجمُ فإنّها تداهمنا كجيش العدوّ العرمرم، مما يُصعِّبُ علينا مواجهتها -بل يستحيل- أفرادًا، فعلينا ألا ننسى أنَّ “يدَ الله مَعَ الجَمَاعَةِ”[1].
—————————-
المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 167-170، بتصرف.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] سنن الترمذي، الفتن، 7.