إن العقل يعني الفهم والإدراك واستجماع الفكر. وهو بهذا المعنى وسيلة مهمة لتفهُّم الأمور الداخلة ضمن تعريفه، ومن المقومات الحيَوية للروح؛ فبالعقل نفهم ما نفهم، وبه نعلم ما نعلم، ونقوِّم ونستنبط الحاصلَ والناتج. وضده الحمق والغباء وعدم الإدراك. الحمقى والأغبياء ومعدومو الإدراك لاهثون في طريق اللامعقول بلا هدف ولا مقصود… فلا يفهمون كتاب الكائنات ولا يتآلفون مع الأشياء ولا يستمعون إلى القرآن ولا يدركون أسرار التكليف… ومحال على هؤلاء أن يفهموا الدين وروحه وغايةَ الوجود ومقصوده. ويُسنَد إلى نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) قول مآله: “أن الأحمق عدونا (/عدوّ لنا)”… فجعله مولانا جلال الدين الرومي عنوانا وصاغه شعرًا بلسانه الفصيح (ترجمته):
إذا ارتبط العقل بالقلب وتزود وتغذى من “وارداته”، وأدام التزودَ منه، فإنه لا يترك عدوًّا إلا صرعه ودحره .
“قال النبي (صلى الله عليه وسلم): الأحمق عدو لنا، شقي يقطع طريقنا.
إذَنْ العاقلُ حبيبنا… نَسِيمُه المعتلُّ بردٌ يفوح رَوْحًا وريحانا.
فإنْ غضِبَ العقلُ مني.. فسبَّني وشتمني، أُطأطِئْ رأسي وأُدِمْ صمتي،
لأن العقل من (الله) الذي يمنُّ عليَّ بالفيوض أبدًا.
أما الأحمق فإنْ وَضَع في فمي حلوى، أعتلّ من حلواه ويصبني بالحمَّى”.
العقل وثاق الجسد
وكذلك كبار الربانيين الآخرون يرون العقل السماوي المستمدَّ من “الأخرويات” وثاقًا يوثَق به الرغباتُ الجسمانية، فلا تستطيع الميولُ الجسدية أن تعبر عن نفسها (/تلعب دورها السيئ) إلا إذا انفلتت من هذا الوثاق. فالعقل في هذا المعنى قفل حديديٌّ لحفظ القيم الإنسانية ومفتاح سحريٌّ للسعادة البشرية. العقل لجام الرغباتِ النفسية وقفلٌ يَغلق فمَها، وهو أيضًا جناح ملائكيٌّ تُحلِّق به الروح إلى عالم الخلود. النفس تجرف الإنسان (/كل ساعة) إلى معضلات ومشكلات مختلفة كل ساعة بأباطيلها وترهاتها. وضدُّها العقل، إذ هو قوة سماوية تبدد لعبة النفس.
العقل لجام الرغباتِ النفسية وقفلٌ يَغلق فمَها لحفظ القيم الإنسانية ، ومفتاح سحريٌّ للسعادة البشرية وهو جناح ملائكيٌّ تُحلِّق به الروح إلى عالم الخلود.
العقل والقلب
إذا ارتبط العقل بالقلب وتزود وتغذى من “وارداته”، وأدام التزودَ منه، فإنه لا يترك عدوًّا إلا صرعه ودحره؛ أما إذا انقطعت وشيجته عن القلب وانقلب من السماوية إلى الترابية، فإنه يصير خائنًا يرشد الأعداء ويقيم في جيرة الشهوات ويدافع عن الحقد والبغض وينضم إلى القوة العمياء فيقاوم السماويةَ ويخوض في الجدَلية فيكدُّ في إلباس الباطل لباس الحق ويحسب المغالطة براعة، فيجادل مخلِّفًا وراءه الاختلافَ والتفرق، ويحسب فضح الآخرين وتَرَاجُعَهم غلبةً وظفرًا… فيتمادى في قتل القلب كل ساعة ويقيم على أنقاضه سرادق النفس، ويتلطخ كل يوم مراتٍ عديدةً بلوثيات تسر الشيطان وتفجر الروح بالبارود.
فالعقل الذي انفلت إلى هذا الحد وصار عنصرا للجماح، يكون -بحسب تعبير مولانا الرومي- “مصدرَ وهمٍ وظنٍّ، لا بدّ من أن يُذبَح قربانًا أمام المصطفى (صلى الله عليه وسلم)… ثم يُقالَ: حسبنا الله، ويستأنف المسير إلى الله”. ويقولُ الشاعر فضولي رحمه الله( ) بيتًا في هذا العقل المشؤوم (ترجمته):
إذا انقطعت وشيجة العقل عن القلب وانقلب من السماوية إلى الترابية، فإنه يصير خائنًا يرشد الأعداء ويقيم في جيرة الشهوات ويدافع عن الحقد والبغض.. !
أريد من عقلي إشارة ودلالة
وعقلي يريني ضياعًا وضلالة
ويؤكد الكاتب الهولندي أرامسوس في “مدح للجنون”: أن لا نفْع ولا فائدة ترجى من عقل كهذا… مستهزئًا وساخرًا به.
نتذكر خلاصة حكيمة هي أنه: “إذا فسدت الأشياء الثمينة، صار ضررها أشد من الأشياء المضرة”.. ونقول: إن هذا العمق العميق هو الفارق بين الإنسان وسائر الأحياء، والجوهر الناصع الذي يصعد به إلى مقام “المتلقي لخطاب الله تعالى”، والمعلم والدليل الأول له للارتقاء إلى الحياة القلبية والروحية، يجعله كالملائكة ما دام متغذيًا بالسماوية وقارئًا لكتاب الكائنات ومحوِّلاً ما يطالعه إلى المعرفة. أما إذا انقطع عن الله تعالى وارتبط بالطبيعة أو النفس، فيكون حية تلسع وعقربا تلدغ في كيان الإنسان، وينقلب إلى سم يميته موتا أبديا، بدلا عن أن يكون إكسير حياته الأبدية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، صـ73.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.