Reader Mode

ليس في البشرية مَن قَرَن بين الإيمان والحركية قرانًا لازمًا متوازنا، فريدا من نوعه إلا حضرة النبي محمد (عليه أكمل التحايا). فقد ارتبط وتعلق بالله بإيمان غامر، وآمن -بكل كيانه- بأنه رسول الله، وسلَّم له تسليما مطلقًا، وعَمِل -في كل وقت- بشعور عميق بالمسؤولية، ولم ينـزغه نزغ من التردد والتلكؤ في اعتقاده أو دعوته أو استقامة سبيله أو توفيق الله له. وتلقاه الناس بالقبول كصرحٍ للصدق والأمان. فمن سعد بمعرفته صدَّقه واطمأن إليه واعتمد عليه، واحتَسَب الإيمانَ به والاعتمادَ عليه واتِّباعَه حَظوة حباه الله بها. وقد كانت الثقة العالية به، واللاهوتيةُ والرصانةُ في الأسس العمومية التي بشر بها، والاستقامةُ والجدُّ في حياته السَّـنِـيَّة، مدخراتٍ وكنوزًا فريدة فيه، جَعلت الآلافَ ومئاتِ الألوف يُهرعون إليه سراعًا من غير توان، لا يأبهون بعاداتهم وتقاليدهم وموروثاتهم الراسخة في دمهم ولحمهم. وكان هذا حدثًا نادرًا لا مثيل له في التاريخ، مؤيِّدًا أنه رسول الحق تعالى. فينبغي أن يَنظر علماءُ النفس والتربية مليًا في أسس هذا الانقلاب العالمي الشامل الذي حققه حضرةُ الذات النبوية، وأن يتفحصوا علومه ومكتسباتِه وأفكارَه تارة أخرى، وقد عجزوا في عصرنا هذا الوافرِ بأجهزة التربية ووسائله، عن نـزعِ بضعِ عادات عن بضعة أطفال!

أنشأ الرسول ﷺ من أجزاء متفرقة من أبناءِ فلسفات وثقافات شتى مجتمعًا منظَّمًا كالبينان المرصوص، يباري الملائكة… ويرغم أنف الإفراط، ويلجم التفريط

في هذه البيئة نشأ

ولقد نشأ في بيئة يتهالك الناس فيها على المناصب والمواقع، ويتحركون دائمًا بحس التوحش، ويتفاخرون بالنهب والسلب، ويلهثون وراء الشهرة، ويتخذون عيش المتعة والثراء غاية وحيدة للحياة… بيئةٍ مستعدة للاعتداء والظلم والتعصب والأنانية والحسد والفحشاء؛ بيئةٍ لا يُسمع فيها إلا نعرات الظالمين وعويل المظلومين وأنين الضعفاء ودوي القوة العمياء، كما عبر محمد عاكف (في أبيات ترجمتها):

ليس في البشرية مَن قَرَن بين الإيمان والحركية قرانًا لازمًا متوازنا، فريدا من نوعه إلا حضرة النبي محمد (عليه أكمل التحايا).

كانت الأرض كلها في ذلك الزمان،

في بلايا أشد من بلايا حاضرِ الأيام

والبَشَرُ أوحش من الضباع طبعًا

فمَن لا ناب له، يفترسه إخوانه من الأنام

والفوضى في آفاق الدنيا،

والنـزاع سارٍ كالوباء،

و-كما اليوم في الشرق- ناخر في العظام

الظالمون زمر وزمر، والمتمتمون بغريزة الثأر أفواج وأفواج، وكان هناك ركام من البشر مصابون بِحُمَّى الهيمنة على الآخرين، وآخرون يظنون الانسحاقَ تحت حكم الظالمين طاعةً وانقيادًا… وكذا هناك متسلطون وحكام وقحون يمثلون القوة العمياء، وجموعٌ من الناس فاقدون للشعور يُستَغَلون كالعبيد، ومنهم منفلتون من ضوابط الأخلاق، ومهدِّدون للفضائل والقيم الإنسانية العالمية، وعابثون، ولاهون، ومغبونون غرباء أُجبِروا على أداء العبودية لله في قيود القواعد التي وضعها العِباد… وغيرهم كثير وكثير… هكذا كان المشهد العام على وجه الأرض. فمِن هذه الجموع البشرية المتخلخلة التي كل جانب منها ينطوي على ثغرة من تلك التي سردناها، استطاع هو أن يبني مجتمعًا ممتازًا ومثاليا وخارقا هو أكمل ما عرفه التاريخ كله.

على هذه الطريق سار ..

فبالأسس التي أتى بها كان يسيرُ في طريقٍ فسيحةٍ في لاهوتيتها وقربها من الله تعالى، متطابقة مع النُّظم الكونية العامة تطابقًا تامًا ودقيقا، موصِلة سالكَها إلى الأهداف الدنيوية والأخروية… فتنفست البشرية في أجوائه العجيبة هواءَ الانسجام مع قوانين الطبيعة ممتزجةً بالدين والتقوى والمسائل الماورائية. فليس في رسالته أو في تمثيله للرسالة تصادُمٌ مع الأشياء والأحداث، وليس فيها إهمال الإنسان باعتباراته الجسمانية والروحانية بحال من الأحوال.

وكان ينشئ من أجزاء متفرقة من أبناءِ فلسفات وثقافات شتى مجتمعًا منظَّمًا كالبينان المرصوص، يباري الملائكة… ويرغم أنف الإفراط، ويلجم التفريط، في جموع بشرية غريبة عن بعضها، وسهلة الانجرار إلى كل الانحرافات، وكان يشير إلى العقبى حينما يتكلم عن الدنيا، وينبه إلى الروح حينما يومئ إلى البدن، ويقدر كل شيء بقدره. عليك صلوات ربي يا رسول الله !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، صـ 154

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر ، ونوصي الباحث بالرجوع إلى الكتاب .

 

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts