منذ نعومةِ أظفاري وأنا أقرأ عن حياة الصحابة رضوان الله عليهم، وبعد فترة معيّنة أخذتُ أُحدّث الناس عنهم، وكنت أقِف أحيانًا مشدوهًا مذهولًا أمام لوحات الأخوة التي يمثلها هؤلاء، معتقدًا وكأن تلك الصفات خاصة بهم دون غيرهم، أو هي نوع من اليوتوبيا التي لا سبيل إلى تحقيقها على أرض الواقع حاليًّا، وبعد ذلك شاهدت عند البعض أمثلةً حيّةً لهذا المعنى فاقتنعت تمامًا بأن مثل هذه الأفكار والصفات يمكن معايشتها في الوقت الحالي، حتى إن أمثلة التفاني التي كانوا يتعاملون بها هؤلاء الناس مع بعضهم أثرت في الآخرين كثيرًا؛ لدرجة أنني سمعت بنفسي شخصًا يقول بنبرةٍ مفعَمَةٍ بالحيرة والإعجاب بعد أن أتاهم ولمس بإعجاب هذه الأخوة فيهم: يا الله، ما هذه الأخوة! ما زال هذا القول وما اكتنفه من نبرة لذيذة يحافظ على حيويته في ذاكرتي، ولا جرم أنه أسعدني سعادة بالغة، نحن نقر ونعترف بهذا الخلق الرفيع الذي شاهدناه بين المسلمين.
عقبات .. وعقبات:
إذا ما أجرينا تقويمًا يشمل العديد من الناس الذين وقعوا في رق النظم والأيديولوجيات بالمعنى الحديث لأدركنا جيدًا كيف كان فكُّ الرقبة عقبةً حقًّا. أجل، لقد كان فكُّ الرقبة عقبة، وكذلك إيثار المرء أخاه على نفسه رغم ما يعيشه من ضيقِ وضغوطِ العيش هو عقبة أخرى، وتقديم الآخرين على نفسه في الفيوضات المعنويّة فضلًا عن المادية، واعتبار ذلك وظيفة ملقاة على عاتقه لهو عقبة أخرى على الإنسان أن يقتحمها، وتجاوز هذه العقبة منعقدٌ على التمثل بالصحابة رضوان الله عليهم أيضًا، الذي أبهر أحدُهم وأذهل ملائكةَ السماء بحسن صنيعه مع ضيفه، عندما أطفأَ المصباحَ وأظلمَ الغرفة حتى لا يرى الضيفُ ما يفعله، وكان يذهب بملعقته ويأتي بها فارغة حتى يشبع الضيف، فرسم بذلك صورة نورانيّةً على الإنسان أن يتمثلها (انظر: صحيح مسلم، الأشربة، 32).
إننا في احتياج لازديادِ شعور الأخوة حتى نحتضن المستقبل على سعته، وتتمكَّنَ أُمَّتُنا من السير بأمان إلى مستقبلها المشرِقِ. لذا لا بد وأن نقول باستمرار: “هل من مزيد؟“.
مثال آخر: لما ارْتَثَّ يوم اليرموك الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة رضي الله عنهم، فدعا الحارث بماء يشربه، فنظر إليه عكرمة، فقال الحارث: ادفعوه إلى عكرمة، فنظر إليه عياش بن أبي ربيعة فقال عكرمة: ادفعوه إلى عياش، فما وصل إلى عياش ولا إلى أحد منهم حتى ماتوا وما ذاق الماء أحدٌ منهم رضي الله عنهم (ابن كثير: التفسير، سورة الحشر: 59/8؛ الأصبهاني: الترغيب والترهيب، 2/266). وهؤلاء هم الصحابة الذين نزل فيهم قول الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (سُورَةُ الْحَشْرِ: 59/9).
وإطعام اليتيم عقبة أخرى، ولو أطلقنا العنان لأساليب المجاز لظهر كثير من معاني اليتم، فالذين حُرموا الثقافة الإسلامية ووقعوا فريسةً للآخرين بسبب الحاجة الناجمة عن الحرمان يعدّون من صنف اليتامى أيضًا، وهؤلاء علينا أن نأخذ بأيديهم وندرس السبل التي توصلهم إلى أوج الكمالات، وأن نلَقِّنَهم ما يحتاجونه للوصول إلى هذه الغاية، وهذه عقبةٌ أخرى مختلفة تمامًا.
أما النقطة التي أنشدها من وراء هذا الموضوع الذي تطرقْتُ إليه مُطْنِبًا حتى أنبِّهَ على العقبة المحتمل أن تكون حجرَ عثرةٍ أمامنا فهي: يبدو شعور الأخوة كافيًا لنا حاليًا، إلّا أننا في حاجة إلى ازديادِ هذا الشعور حتى نحتضن المستقبل على سعته، وتتمكَّنَ أُمَّتُنا من السير بأمان إلى مستقبلها المشرِقِ. ولذا لا بد من علوّ الهمّة إزاء ذلك، وأن نقول باستمرار: “هل من مزيد؟”.
المصدر: محمد فتح الله كولن: الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص:59-61.
ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.