نشأت كثيرٌ من الشخصياتِ العظيمةِ على مدار التاريخِ الإسلامي، وبلغتْ بعلمها وعرفانها وعشقها وحماسها وصوتها ونفَسها ما وراء القرون، وكان بعض هذه الشخصيات مثل الإمام الغزالي والإمام الرباني ومولانا خالد البغدادي يحمل من الفطرة النادرة ما يميّزه عن غيره، ولقد كان مولانا جلال الدين الرومي واحدًا من هذه الشخصيات الشامخة في هذا الأفق.. لقد نثرت هذه الشخصياتُ العظيمةُ النورَ على العصور المظلمة فأنارتها، وتأملتْ عصرها ودرسته وحلَّلَته، وحصرت همّتها على القضايا التي كان الناس في حاجةٍ ملحّة إليها.
احتضن الرومي الجميع بعمق سماحته وعظيم تساهله، وجعل من نفسه إكسيرًا للتخلّص من مثل هذا الجو المليء بالفوضى والفتنة والفرقة.
أجل، لقد أعرض هؤلاء العظام عن جمع المعلومات السابقة وتدوينها في كتب، وشرعوا بدلًا من ذلك في تدبّر العلاقة بين (الإنسان – الكون – الله)، فأحسنوا تقييمها، وقدموا الخطب والمواعظ التي تتماشى مع ظروف عصرهم، وحرروا مؤلفات قيمة بلغ صداها ما وراء العصور.. ومن ثم فلا بد من تناول مولانا جلال الدين الرومي من حيث هذه الخصائص أولًا؛ لأن الحلول التي أتى بها كانت بمثابة ترياقٍ للسموم والآثار السلبية التي راجت في عصره، وإكسيرٍ يداوي حتى أعتى الأمراض المستعصية.
الرومي والانبعاث في “سوغوت”
وإننا إذا ما ألقينا نظرة عامة على عصر مولانا جلال الدين الرومي فسنجد أن الجيوش الصليبية قد اجتاحت العالم الإسلامي بغاراتها، وخلفت وراءها العديد من اللوثيات، وغزا المغولُ العالمَ الإسلامي، وهيَّؤُوا الفرصة للتمزق والانقسام والفرقة، ولفّت نيرانُ الفتنة والتمرد كلَّ مكان، حتى تردّى رجال الدولة السلجوقية في حالةٍ من الضعف والوهن، وفقدوا نفوذهم على الشعب، وزحفت كل هذه الأمور السلبية حتى غزت قلب الأناضول، فما كان من الرومي إلا أن احتضن الجميع بعمق سماحته وعظيم تساهله، وجعل من نفسه إكسيرًا للتخلّص من مثل هذا الجو المليء بالفوضى والفتنة والفرقة، فهيّأ أرضًا جديدة قابلة للنماء من أجل أمتنا التي بزّ ممثلوها الجميعَ بفضل قيمهم الإسلامية وأفقهم الواسع ذي السماحة والتساهل، ونتيجة لهذا وجد العثمانيون الفرصة سانحةً للنهوض والاستواء في ناحية صغيرة من نواحي الأناضول.
ليس من الصواب أن ندرس الرومي من خلال علاقته بالآخرين ونغض الطرف عن عمق عالمه الداخلي وصلته بالله تعالى
والواقع أن هذه الفترة كانت في حاجة أعظم إلى مثل هذا الوفاق والاتفاق، لا سيما بعد أن تمزقت الأناضول وانقسمت إلى إمارات مختلفة، واختلفت الأفكار واضطربت العقول، وأصبح الكلّ يغنّي على ليلاه، فأدرك الرومي هذه الحاجة، فجمع الناسَ حول مفهومٍ محدّد؛ الأمر الذي أتاح الفرصة للانفتاح الأول للعثمانيين.. وإنني على قناعة بأن مثل هذا المفهوم الذي يمكن أن نسميه “روح مولانا” كان له الأثر البالغ في النجاحات التي أحرزتها الدولة العلية العثمانية خلال زمن يسير؛ لأن العثمانيين لو لم يكونوا يتعاملون بالرأفة والشفقة في كل مكان توجهوا إليه؛ لما استطاعوا أن يستمرّوا أبدًا، ولتعثّروا مع أول خطوة على طريق الانفتاح على العالم، ولذا يجب أن نعزو بقاء هذه الدولة طيلة ستة قرون -وهو أمرٌ قلّما حظيت به أمة أخرى في تاريخ الإنسانية- إلى جهود وإسهامات الدراويش مثل مولانا جلال الدين الرومي إضافةً إلى ما اتسم به حكام هذه الدولة من الخصائص والمميزات الخاصّة.
وحاصلُ القول: لقد كان مولانا جلال الدين الرومي صاحبَ قلبٍ عظيم يُحلّق عشقًا وشوقًا وينفتح على أفق المعرفة.. هيّأ مناخًا رزح الكثيرون تحت تأثيره، فجاؤوا ودخلوا في حلقته، حتى إن الشاعر الصوفي يونس أمره (1238-1321م) قد جاء من بلاد قاصية، ودخل في حلقة درسه.. لقد حاول الرومي أن يبثّ إلهامات روحه في قلوب الذين التفوا حوله فأنار العصور، وربّى نماذج مثالية.
جذبٌ وانجذابٌ محورُهما العلمُ والمعرفة
ومع ذلك دارت حول هذه الشخصية العظيمة بعضُ القناعات الخاطئة التي ركّز أصحابُها على مفهوم الشفقة والسماحة الذي كان يتعامل به مع الناس، وغضّوا الطرف عن عبادته العميقة وتمسُّكه بالكتاب والسنة، وننوّه بدايةً إلى أن الرومي إن لم يكن متمسّكًا بأركان دينه -كما يدعي البعض- لَلَفظه أهل “قونية” من بينهم، ولَمنَعَهُ الحكام المسلمون من نشرِ أنواره، فضلًا عن ذلك لم يقدح ممن عاصره من العلماء الكرام في شخصيته، فعلى سبيل المثال السيد صدر الدين القونيوي (1210-1274م) الذي عاش في نفس العصر الذي عاشه الرومي كان عالِمًا كبيرًا شرح الشجرة النعمانية لمحي الدين بن عربي (1165-1240م)، وكتب حاشيةً موسَّعةً لتفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي (ت: 1286م)، وإذا ما أمعنا النظر على حياته ومؤلفاته سنجد أنه لا توجد كلمة واحدة تنال من شخصية مولانا جلال الدين الرومي؛ لأن الرومي إلى جانب تمسُّكِهِ الشديد بأركان الإسلام قد أبان في مسألة احتضان الآخرين عن شفقةٍ ورحمةٍ لا نظير لهما، فلم يقم بأيّ عمل أو فعل يخالف ظاهر الشريعة.
لم يفكر الرومي ألبتة في مخالفة أحكام الدين، فهو يطوف بإحدى قدميه في أصقاع الأرض، بينما تظلُّ قدمه الأخرى راسخةً في مركز دائرة الإسلام..
ولكن للأسف الشديد يعتبر البعضُ مولانا جلالَ الدين الرومي رجلًا تنتابه حالةٌ من النشوة والطرب، فيقوم ويلبس تَنُّورَتَه، ويشرع في الدوران المولويّ، وكلما دار شعرَ بمزيدٍ من التلذذ والاستمتاع، ثم يقوم الآخرون من بعده ويأخذون هم كذلك في الدوران، والحال أن المسألة ليست مسألة دورانٍ مجرّدة، بل إن الرومي قد كشف عن نسيجٍ معرفي عظيمٍ بدورانه بين الإنسان والكون والله جل جلاله، فأثار بذلك مشاعر العشق والشوق لدى الناس، وفي هذا السياق يقول الأستاذ النورسي رحمه الله معبرًا عن هذه الفكرة: “إن أسمى غاية للخلق، وأعظم نتيجة للفطرة الإنسانية.. هو “الإيمان بالله”.. وإن أعلى مرتبة للإنسانية، وأفضل مقام للبشرية.. هو “معرفة الله” التي في ذلك الإيمان.. وإن أزهى سعادة للإنس والجن، وأحلى نعمة.. هو “محبة الله” النابعة من تلك المعرفة.. وإن أصفى سرور لروح الانسان، وأنقى بهجة لقلبه.. هو “اللذة الروحية” المترشحة من تلك المحبة”[1]؛ بمعنى أنه ينبغي للإنسان أن يُطبق الإسلام دون نقص أو قصور، وأن يشعر بالإخلاص في كلِّ أعماقه، وأن يسلك طريق معرفة الله بمعرفةٍ نابعةٍ من الوجدان، وأن يجعل الأعمال التي يقوم بها بُعدًا من أبعاد طبيعته حتى يصل إلى الذوق الروحاني والشوق الإلهي؛ فليس بالإمكان الوصول إلى هذا العشق والشوق دون إيمانٍ سليم، وإسلامٍ صحيح، وإحسانٍ قويم، ومعرفة الله ومحبة الله.. فيجب أن نتناول من هذه الزاوية جذب الرومي وتوتره بالعشق والشوق وغياب وعيه.
سماحة كبيرة مقيدة بالأركان الأساسية
من جانب آخر فإن بعض الأقوال التي ذكرها الروميّ من قبيل الشطحات ودورانه بسبب استغراقه في حالة الجذب، كلُّها أمورٌ متعلقة بالحال والذوق، وناشئة عما يشعر به من حيرة ودهشةٍ وهَيَمان وقلقٍ، فعلينا ألا نقترب من هذا الموضوع إلا ونحن نتحلّى بأعلى درجات الحيطة والحذر، وألا نتسرّع في الحكم على إنسان ما بسبب ما أتى به من أقوالٍ أو أفعالٍ في حال سكره وغياب وعيه.. ومن ثمّ فلا بد أن نضع حسابًا للخصائص التي تتمتّع بها الشخصيات العظيمة مثل مولانا جلال الدين الرومي، وأن نلتمس لهم العذر ونعزو أفعالهم وأقوالهم التي تثير اللبسَ والشبهة إلى محملٍ معقول.
فمثلًا من أكثر الانتقادات التي تُوجَّه إلى الرومي قوله: “تعال تعال، لا يَهُمّ من أنت ولا إلى أي طريق تنتمي، تعال لا يهمّ مَن تكون، تعال ولو كنتَ كافرًا أو مجوسيًّا أو من عبّاد الأصنام، تعال فلا مكانَ لليأس هنا، تعال حتى لو فسخت توبتَك ألف مرة، تعالَ.. تعالَ..”.
إن لم يكن الرومي متمسّكًا بأركان دينه -كما يدعي البعض- لَلَفظه أهل “قونية” من بينهم، ولَمنَعَهُ الحكام المسلمون من نشرِ أنواره، فضلًا عن ذلك لم يقدح ممن عاصره من العلماء في شخصيته.
وإننا لا ندري تمامًا ما إذا كان هذا القول لمولانا جلال الدين الرومي أو لا، ولكن وإن لم يكن له فللرومي أقوالٌ تعكس مثل هذا المفهوم والمضمون، وأعتقد أن من انتقدوا قوله هذا قد انتقدوه لعدم درايتهم الكاملة بمقصده ونيته، وإنني على قناعة بأنه لا حرج في ذكر مثل هذا القول؛ لأننا إذا ما نظرنا إلى حياة الرومي ومؤلفاته فسنجد أنه يريد بهذا الكلام أن يقول: “لا يهم من تكون، تعال واكتشف جماليات عالمنا، واحظَ بِخُلاصتها”.
من جانب آخر؛ فالروميُّ -كما عبر هو عن نفسه- إنسانٌ لم يفكر ألبتة في مخالفة أحكام الدين، فهو يطوف بإحدى قدميه في أصقاع الأرض، بينما تظلُّ قدمه الأخرى راسخةً في مركز دائرة الإسلام.. كان يراعي الدقة البالغة في اتباع الأصول والأركان، ويعتصم بها بشدة، ولذا فمن غير المحتمل أنه ترك فرضًا أو واجبًا أو سنة، وعلى ذلك فليس من الصواب أن ندرس الرومي من خلال علاقته بالآخرين ونغض الطرف عن عمق عالمه الداخلي وصلته بالله تعالى؛ لأن للرومي جانبين؛ أحدهما: أنه كان يعيش حياته في تبعية مطلقة لأحكام دين الإسلام المبين، والآخر: أنه كان يعيش بين الناس، ويبلغهم الدين بكيفيةٍ يتقبّلونها بإخلاصٍ وحبّ، وأظن أن نُقّاده كانوا ينظرون إلى الجانب الثاني فقط، ولا يُعيرون اهتمامًا لعمق عالمه الداخلي.
لقد كان مولانا جلال الدين الرومي صاحبَ قلبٍ عظيم يُحلّق عشقًا وشوقًا وينفتح على أفق المعرفة.. هيّأ مناخًا رزح الكثيرون تحت تأثيره، فجاؤوا ودخلوا في حلقته.
فلا يزال البعضُ اليوم يقوم بتوجيه الانتقادات إلى أشخاص عُمّرَت قلوبُهم بحبّ الله والإنسانية، وراعوا الدقة الكاملة في طاعاتهم واتباعهم لأركان دينهم، وإلى جانب ذلك انفتحوا على العالم بأسره.
أجل، ينظر البعض إليهم من خلال ما يقومون به من أنشطة حوارية مع الآخرين فقط، فيَحكمون عليهم بناء على ذلك، ويجرّحون فيهم، متجاهلين حياتهم التعبدية وما فيها من أذكار وأوراد وأدعية وتهجّدٍ بالليل، بيد أن الأنشطة الحوارية القائمة على الحبّ والاحترام والسماحة لها أهمية كبيرة في عصرنا الذي انتشرت فيه الأسلحة الفتاكة، وأخذ العالم يشحذ أنيابه لِيَلْتَهِم الآخرين؛ لأننا إن أردنا أن نحطّم التوتر السلبي ونقمع هذا الفوران الطاغي الذي تعيشه الإنسانية اليوم فعلينا أن نستخدم مفتاح الحب السحري، فهو المفتاح الذي يفتح كلّ الأبواب والقلوب ويرسم البسمة على الوجوه..
الحلول التي أتى بها جلال الدين الرومي كانت بمثابة ترياقٍ للسموم والآثار السلبية التي راجت في عصره، وإكسيرٍ يداوي حتى أعتى الأمراض المستعصية.
فضلًا عن ذلك يجب ألا ننسى أننا لا يمكننا أن نبلّغ مشاعرنا وأفكارنا إلى أرواح الناس عن طريق الحِدَّة والوجه العبوس، ولكن بالبسمة الحلوة التي تعلو وجوهنا، من أجل ذلك يجب أن يقابل الناسُ صدرًا رحبًا حتى لا يخشى أحد ألا يجد مكانًا فيه عند إرادة دخوله، وهذا يدعونا إلى التزام المنهج والسبيل الذي كان يتبعه أبطال الإرشاد الذين جعلوا القرآن والسنة مرشدهم ودليلهم من أمثال مولانا جلال الدين الرومي، والإمام الرباني، ومولانا خالد البغدادي، وبديع الزمان سعيد النورسي، فإن وجدنا اختلافات فرعية فيما بينهم نظرًا لظروف عصرهم فلا يغيب عنا أنهم كانوا يقومون ويقعدون بالحبّ، ويجيشون بالمرحمة، ويبثون الشفقة فيمن حولهم، ويفتحون صدورهم للجميع، فكانوا بلا يد لمن ضربهم، وبلا لسان لمن سبهم، وبلا قلب لمن كسر خاطرهم.. ومن ثم فإن الوظيفة التي تقع على عاتقنا هنا هي أن نقتدي بهذه الشخصيات التاريخية، وأن نتضامن فيما بيننا، وأن نستخدم القوة الخفية للإنسانية في صالح الإنسانية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب العشرون، المقدمة، ص 271.
المصدر: فتح الله كولن، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2017م، صـ315/ 316/ 317/ 318/ 319/ 320/ 321/ 322.