ليس هناك مثيل آخر للقيمة التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة لا من قبل ولا من بعد. فلو زار في إحدى الليالي إحدى زوجاته للسؤال عنها فإنه كان يطوف على زوجاته الأخريات أيضًا للسؤال عنهن. إذ لم يكن يُظهر أي فرق من ناحية معاملته لهن. وكانت كل واحدة منهن ترى أنها أقرب إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان هذا ينبع من مروءته التي لا مثيل لها. غير أنه لما كان الإنسان عاجزًا عن التحكم في قلبه، فإن تكليفه بما لا يطاق لم يكن واردًا. لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول مستغفرًا الله: “اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك”[1]. ما أروع هذا اللطف وهذه الرقة.
نفوذ رقة النبي إلى قلوب زوجاته
لقد نفذت رقته صلى الله عليه وسلم وأدبه الجم إلى قلوب نسائه، فأحدث فراقه عنهن جرحًا لا يندمل في أرواحهن ووجدانهن، وكان هذا الشعور مشتركًا بينهن دون استثناء، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتلّ في قلوبهن محلاًّ وموضعًا لا يمكن تعديله أو تبديله أبدًا؛ فقد أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتهن ومن كيانهن، إذ عاش معهن عيشة حياة فطرية سليمة وطبيعية وبِخُلِق لين هين سهل. ولو افترقن عنه لأصبحن مثل إنسان محروم من الهواء يكاد يختنق.
والمنظر الذي نراه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ..منظر الفراق الأليم والهجران الموحش، ففي كل مرة يزور فيها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إحدى أمهات المؤمنين كانا يشاهدانها تبكي بحرقة فيجلسان ويبكيان معها، وقد دامت حال البكاء هذه حتى نهاية حياتهن.. كان هذا هو الأثر الذي استعصى على الزوال والذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبهن. ومع أن مدة بقائه معهن لم تكن طويلة إلا أنه أصبح بالنسبة لهن منبعًا للحياة.. وهذا هو ما أردنا التأكيد عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1] ) النسائي، عِشرة النساء2؛ أبو داود، النكاح، 37، 38؛ الترمذي، النكاح، 42؛ الطبقات الكبرى لابن سعد،2/231.
المصدر: فتح الله كولن، النور محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ8، 2013، صـ290/ 291، بتصرف
ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية، وبعض العبارات من تصرف محرر الموقع.