لقد كانت ولادتك ولادة للإنسانية أيضًا… فقد استطاع القاصي والداني والصديق والعدو أن يبصر صوابه وأخطاءه بالنور الذي نشرته، ويقيّمها على أساسه وبواسطته، فيبلغ بفضله من الاطمئنان مبلغا. نحن جميعا ما كان بمقدورنا أن نفهم الجنة التي نشعر بها في أعماقنا حق الفهم، وندرك سعادتها الأبدية حق الإدراك إلا ببيانك السماوي… أجل، بشلال بيانك الساحر استطعنا أن نتوجه نحو ما يريده منا الحق تعالى وما يرضاه لنا.
إذا كانت أعيننا اليوم تَرِفُّ بتسبيح الله تعالى وتقديسه، وإذا كانت قلوبنا اليوم تنبض بشوق الوصال، فأنت الذي أشعلت فتيل هذه المشاعر والأفكار العلوية في أعماق قلوبنا… أنت من علّمتنا وأشرت إلى الذرى السامية الحقيقية للإنسان وللإنسانية… أنت من أوقدتَ في قلوبنا جمرات الحب وأذقتنا نشوة الوصال… أنت من كشفتَ للمتوجهين إليك وإلى رحابك بكل توقير عن السرّ الحقيقيّ للوجود. لقد دللتَ -بإقرار الملايين بل البلايين من الناس وتقديرهم- أصحاب الأرواح المنصفة إلى قيم ثابتة لكي يظل كل إنسان على ماهيته الحقيقية.
إن النفوس التي تذوقت حقيقة الحب بفضلك واهتدت إلى آفاق الحياة الروحية الواسعة بدأت تَشْدو وكأنها مطبوعة على الحب والتوقير بترنيمات سامية منبعثة من أعماق الروح، وكلمات حكيمة تعبّر عن عمق الأبعاد الإنسانية لديها، وأضحى أصحابها ممثِّلي القيم الإنسانية على مدى العصور، فما خاب وما ضاع من اقتدى بهم. لقد وَجَد جُلُّ العالم الإنساني فيهم وفي أصواتهم وكلماتهم وأقوالهم نبضات وجدانه التي لم يكن قد اكتشفها حتى ذلك اليوم، واطّلع كل واحد بفضلهم على أعماقه الداخلية.
أجل، بفضلك أصبح جميع الناس الذين بدوا مختلفين جدًّا بعضهم عن بعض، بل أصبح حتى الجن وأصحاب الأرواح الطيبة -بمعنى من المعاني- يتكلمون عن معانٍ ما كانت تخطر على بـالهم من قبلك ولا تنعكس على أحاسـيسهم، وإن انعكست فما كانـوا يستطيعون التعبير عنها، وإن استطاعوا التعبير فما كانوا يجيدونها، ولا يضعون كل شيء في مكانه الصحيح؛ ولكنهم أصبحوا يُتقنون هذا بفضلك، وبفضلك يحلّون مشاكل ومعضلات عديدة.
بعد أن شرّفتَ العالم بقدومك، وتربّعت على عرش قلوبنا حللتَ رموز أسـرار المعاني العميقة لمعنى الإنسان وماهيته الذي خُلق في أحسن تقويم، وأطلقتَ بذلك الألسن عن عقالها، وعلّمتَ الغربان كيف تتحوّل إلى بلابل صدّاحة، وأثَرت رغبة الصديق والعدو في الإصغاء إلى أعماقهم والتعبير عنها، كل من زوايا مختلفة.
لقد بعثتَ القواسم الإنسانية المشتركة من مرقدها فتألّقتْ، ومزجتَ آلاف الرؤى والفهوم في بوتقة واحدة، وجمعتها حول روح واحدة، وأشعرتَ الجميع بمعان من أفق قلبك لا تَبهت ولا تَبلَى. لقد تخلّت الإنسانية بأجمعها، بل حتى عالم الجن وعالم الأرواح الطيبة -بفضل المعاني المترشحة من رسالتك وبفضل لب هذه الرسالة وجوهرها- عن القوالب الجامدة لبعض المفاهيم فتملصت منها وولجت إلى عالم التغيير والتجديد.
وسواء أشعر به الجميع أم لم يشعروا فإن القسم الأعظم من الإنسانية حقق عديدًا من أنـواع التجديد وعديدًا من النجاحات بفضل منظومة الإيمان التي وضعتَها وبفضل الأهداف الإنسانية التي أشرتَ إليها وشجَّعتَ عليها.
وحتى فجرِ الإنسانية ويومِها الذي طلعتَ فيه كان الظلام يسود كل جزء من هذا العالم. كان الجميع يرتجفون خوفًا من وحشة العدم، ويَقلَقون من المشاكل التي تحيط بهم وتحاصرهم. ولكن بفضل رسالتك التي كانت تبشّر بحلّ كل مشكلة وتلبية كل حاجة وتحقيق كل أمنية وكل أمل، انشرحت الأنفس وتفتحت الآمال في الأرواح، فبدأت نسائم الأمل تهبّ على القلوب التي كانت تتقلب على جمرات اليأس، وصدحت أنغام الأمل والسلوان في كل مكان، حتى صارت النغمات السحرية التي بدأت تتعالى وتنتقل عبر النسائم تبشّر القلوب الحزينة على الدوام بالسعادة والبهجة، وتتحدث معها عن الحب، أيْ كيف تُحِبّ وكيف تُحَبّ، وتنفث الحياةَ في العلاقات الإنسانية وروابطها التي بدت وكأنها تحتضر، وتحيي المحبة والعشق، وتمد المشاعر الإنسانية –التي هجعت في القلوب منذ عصور- بالحركة والنشاط، وتدعو الناس جميعًا إلى الغوص في أعماق قلوبهم لكي يعرف كل إنسان حقيقته، ويقدِّر إنسانيته حق التقدير.
كانت أنفاسـك الصادقة الحرّى تبعث الحياة في القلوب الظامئة إلى الحـب والأمـل والسـعادة، وتثير في النفوس المرهفة التي استقبلت رسالتك بتبجيل وإكبار انفعالا قدسيا، وتحفّز الأرواحَ السـامقة إلى التنقيب عن سبل شتى لتعميق العبودية لله سبحانه، وتضيء الدروب التي تسير فيها العقول التي تبحث عن النور.
لقد كنت بإيمانك الخارق الذي لا يعرف التردد أو الخور وبأصحابك الميامين الأوفياء الذين وقفوا معك تسعى نحو أمل كبير فوق كل أمل، وهو أن تُسمع صوتك للإنسانية جمعاء. لقد بذلتَ كل ما في وسعك طوال حياتك السنية وفي كل فصل من فصولها، بل في كل نَفَس من أنفاسك العطرة من أجل السعادة الأبدية للإنسانية جمعاء، ولم ينقطع جهدك هذا ووفاؤك وإخلاصك قطُّ. وما كان كل هذا لينقطع أو يتوقف لحظة، لأنك كنت تسعى لتحقيق أحلام الإنسانية جمعاء لكي تكون لجهودها معنى، ولكي تحقق الأرواحُ الظّامئةُ للأبدية أملَها وحلمَها. فهذه هي رسالتك، ومن أجلها أُرسلتَ وبُعثتَ… لتأمين الحاجات القلبية والروحية والمادية للإنسانية، ولتحقيق أملها في الحب والتحابّ، ولتحقيق أحلامها وآمالها في السعادة هنا وفي الدار الآخرة. كان هذا الأمر يشكل عمقًا مهمًا من رسالتك، وكنت قد عزمت على تحقيق هذا الأمر.
كانت رسالتك عالمية كونية، كان كل شـخص يأخذ منها حسب سـعة قلبه ويقيّمها حسب قابليته وحسب أجواء قلبه وأحواله. وذلك بفضل الطـابـع الفطري فيها، وبفضل أحكامها التشريعية المسايرة للقوانين السائدة في الكون والموافقة للطائف القلبية والروحية والعقلية في الإنسان. فكل قلب وكل فؤاد يجدها موافِقة لفطرته وملائمة لها، ويطّلع بواسطتها وفي جوها الروحاني على الأسرار العميقة للوجود.
إن كل ما سمعناه من درر بيانك وما قرأناه في سلوكك الرفيع، كان مصدره ساميا متعاليا، لكنه مع ذلك تنزّل إلى مستوانا واحتضننا وشملنا بعنايته الخاصة ففهمنا المعاني وتذوّقنا المرامي وأدركنا الدلالات. لقد أحسسنا بقربها منا وكأنها نبتت ونمت ثم ترعرعت في إقليم قلوبنا وبساتينها؛ شعرنا بدفئها في صدورنا حتى لكأنها توشك أن تتدفق منها. لقد احتضنت ماهيتنا الإنسانية وتفرسَّتْ في أعيننا وسحرتنا بطعمها ونكهتها من قمة رؤوسنا حتى أخمص أقدامنا. تلك كانت خصلة من خصالك تَفرَّدتَ بها، وسجية من سجاياك لم يشاركك فيها أحد.
استطعتَ أن تخاطب الناس جميعًا خطابًا يعلو على جميع المشارب والثقافات الخاصة، بأسلوب فائق الجمال سامي الدرجات لا يجرح أحدًا أو يخدش شعور أحد… تخاطب كل الناس فتؤثر في الأرواح المهيأة وتوقظها. خطابك بليغ ذو رموز وإشارات وإيماءات خاصة تكثِّف المعاني وتُعمقها وتُجسدها… لقد فتحت أبواب أسرار الأشياء والحوادث أمام من سيأتي من بعدك، بل فتحتها على مصاريعها أمام بعضهم حتى سموا إلى تذوق نشوة عالم آخر… نشوة لا تبلغها أي نشوة أخرى ولا ترقى إليها. إننا لا نزال نحتفظ في قلوبنا بهبات السماء وهداياها (الآيات القرآنية)، وعندما نعبر عنها بتعابير جديدة ونترجمها إلى الواقع حسب مقتضيات العصر نتذكرك على الدوام، ليس مرة واحدة بل ألف مرة… ومن أعماق قلوبنا ننحني إجلالًا لك وتوقيرًا. فهذا حقك، كما هو واجب على جميع رعاياك وأتباعك الذين تنبض قلوبهم بالوفاء لك.
أنت هبة الخالق جل وعلا للكون، هبة لا نظير لها ولا مثيل، رسالتك وتعاليمك أمانة منه تعالى. الذين عرفوا هذه الحقيقة وآمنوا بها عدّوك أعز من أرواحهم وأغلى، وما فتئوا يرددون عبارات العرفان والامتنان لك مدى الحياة، وقد أثيبوا من الخير مقابل وفائهم هذا أضعافا مضاعفة.
لكن جـاء يوم خرج فيه من جحرهم بعض المختلين نفسيًّا وعقليًّا من منتسبي ثقافات أخرى وتقيئوا ما في قلوبهم من دنس وبدأوا يتحرشون بمقامك السامي ويصمونك –حاشاك ألف مرة- بالبداوة، ويَصِمُون صوت السماء ورسالتك بأنها “قانـون الصحراء”، ويحاولون حبسك في عهد قديم، ويتجرأون على القول بأنك تعود “لذلك العهد وأولئك القوم”، وشجعوا بهذا عالما مليئًا بالأحقاد والعداوات، واستعانوا على ذلك برسوم كاريكاتيرية شنيعة بعيدة عن الأخلاق؛ فتعرضتَ لجحود أتباعك وعدم وفائهم، ولهجوم أعدائك وأحقادهم. ولو نحينا الجهود المباركة لِسَلَفنا الصالح وأجدادنا الأوفياء جانبًا لأدركنا بأننا لم نستطع أن نُعرِّفَ العالم بك. وكلما مرت على خواطرنا الآن محاولات التعدي والتهجم عليك تَمْتَمنا: “ما أجحدنا وما أبعدنا عن الوفاء!”.
مع ذلك، إن جذور الروح والمعنى في هذا العالم قوية، يسري في جِيناته صفاء أجدادنا الأخيار، ويبشر ماؤه وترابه وهواؤه بعهد وردي جديد، فلا أشك في أنه سوف يلف ويدور ثم يعود إلى رحابك النابضة بالرحمة والرأفة فيسعد ببعث -بعد موت- جديد، إن لم يكن اليوم فغدا. وقد بدأ الآلاف بل مئات الآلاف من الآن يترقبون لحظة سعيدة كهذه.
لا أستطيع أنا، ولا يستطيع الآخرون أن يطلبوا منك العفو والصفح… نستحي من هذا ونخجل… لكننا لم نشكَّ لحظة في سعة كرمك. وفي أحلك الظروف، عندما أظلمت آفاقنا، وهجم الخريف علينا، وخربت الطرق وتهدمت الجسور… حتى في هذه الأوقات لم نصرف عيوننا عن تعقب آثار قدميك ورددنا مع “كتّانجي زاده”:
“أنت عزيزنـا… مرشدنـا… أستاذنـا… سيدنا… نورنا المضيء… ضياؤنا في الدارين… وكل إخواني متفقون على هذا”. ردَّدنا ذلك مرة بعد مرة تعبيرًا عن وفائنا لك وإخلاصنا. نواقصنا كثيرة، وإهمالنا كبير، ولكنه سيبقى كقطرة بجانب بحار عفوك وسماحتك.
مولاي! عن البؤساء لا تقطعنَّ كرمك!
فما لسلطان الجود أن يقطع عن ذي فاقة نوالَه؟!
(محمد لطفي)