إن الماضي والحاضر والمستقبل أبعاد مختلفة لحقيقة واحدة، وعندما نشعر بأبعاد الزمن هذه ونحس بمذاقها، نعيش فيها معاً، ونتذوق رحيقها في آن واحد، ولا سيما الماضي؛ فحينما نرى آثارا تذكرنا بجذورنا الروحية وهويتنا الأصيلة تتحرك في دواخلنا خواطر وتداعيات ويزداد إحساسنا بالماضي عمقا، فتمتلئ أشرعة حاضرنا برياح العزم والثبات، نبحر نحو آفاق المستقبل الباسم بالأمل.
أجل، ما إن نعثر على بعض الآثار العزيزة على قلوبنا من الماضي الجميل حتى نقبل عليها فرحين، نتناولها كما نتناول باقة من الورد، نشم رائحتها الزكية، ونملأ أعيننا بجمالها، ونُقبِّلها بإجلال عميق، ونجعلها تاج رؤوسنا؛ فإذا بها تثير في نفوسنا خواطر من الماضي البعيد، فتتجلى صفحات التاريخ أمام أعيننا ناصعة، ونرنو إلى مشاهدها الجميلة حالمين، ونشعر كأننا نعيش الأيام التي كانت تلك الآثار فيها ملء العين والقلب، وموضع التقدير والتبجيل. ويبلغ بنا الإحساس بتلك الأشياء مبلغا تتراءى لنا فيه كأنها أحياء تتحرك في سكون عميق وتتنفس في صمت. فنقرأ في ملامحها معاني عجيبة ودلالات خفية فنحبها… نعم نحبها وكأنها فلذة من أكبادنا وجزء من أرواحنا. وكلما رأتنا مقبلين عليها بصدق وإخلاص أزاحت لنا الحجاب وفتحت لنا الأبواب وكشفت لنا عن السبيل المؤدية إلى أروع التصورات والرؤى وأجمل الخيالات والأحلام، ودَعَتْنا إلى عصورها ضيوفا أعزاء مكرمين، نلتقي في مكان واحد، نعانقها معانقة الصديق لصديقه والحبيب لحبيبه، وتعانقنا بدفء غامر، ويمتلئ المكان بمعان سامية عذبة، نسرع إلى ارتشافها كأنها ماء الحياة، ونستنشقها كأنها أنفاس الربيع.
أجل، كلما أقبلنا عليها بقلوبنا، شعرنا كأن رائحة شذية كالمسك والعنبر تسري في مسارب نفوسنا، وهي نفس الرائحة التي ينتشر عبقها الأصيل عندما تُفتَح صناديق جداتنا القديمة قدم الدهر. يخيل إلينا عندئذ أننا في عالم عجيب من السحر، وأن تلك الآثار التاريخية تتحدث إلينا بأفصح ما يكون البيان، وتهمس إلى قلوبنا أسمى المعاني، دون أن تستخدم حرفا أو كلمة أو صوتا يستخدمه بنو الإنسان، فإذا بنا في نشوة غامرة لا نريد مفارقتها.
ليست قيمة هذه الأشياء فيما تؤديه من منفعة عملية في الواقع، كما هو الحال بالنسبة لبعض الأشياء التي توزن قيمتها بميزان المنفعة الآنية؛ إنما قيمتها في المعاني العميقة التي تذكّر بها وتخبئها في طياتها وتشير إليها وتدعو لها. ومن ثم عندما ننظر إليها بعيوننا، ونتحسسها بأيدينا، نشاهد عليها إشارات من معتقداتنا السامية وخطوطا من ماضينا المجيد، فتنبسط أساريرنا، وتنشرح قلوبنا، ونحطم قيود زماننا الضيق محلقين في أجواء فسيحة وأمداء رحيبة فوق الزمان.
كلما نظرنا إلى تلك الآثار التاريخية التي أهلّت في ناحية من نواحي بيوتنا، أو ملأت أرجاء متاحفنا، تراءت لنا آمال حملتها النفوس سابقا، ورؤى اختبأت وراء حجب الماضي، وإذا بنا نشاهد الأيدي تلامس الآثار الغالية بلطف، والأنوف تشم رائحتها بعمق، وإذا بنا نراهم يتجولون بيننا أو نتجول بينهم في مكان واحد، فتخفق قلوبنا لهذا الإحساس.
إن هذه الآثار التاريخية مرآة صافية تحدثنا عن معتقدات أجدادنا النقية وإيمانهم العميق وثقافتهم المتسامحة وقيمهم السامية. نقرأ في وجوه هذه الذكريات العزيزة أخلاق أسلافنا وأحلامهم وآمالهم؛ هؤلاء الرجال الذين نسكب اليوم دموعا غزيرة لغيابهم، ولا نجد ما نسرّي به عن همومنا سوى ذكرياتهم.
فما بالك إن كان بين هذه الذكريات “البردة النبوية الشريفة” التي تذكرنا بفخر الإنسانية عليه الصلاة والسلام، وبكعب بن زهير بن أبي سلمى صاحب قصيدة “بانت سعاد”، أو تذكرنا بسلاطين المسلمين الذين احتفظوا بها في أجمل مكان من قصورهم طوال قرون وقرون بإجلال كبير وتقدير عظيم حتى حطت رحالها في ديارنا؛ أو كان بينها اللواء الشريف “العُقاب” الذي لازم رسول الله طوال رسالته المباركة؛ أو كان بينها شعيرات من لحيته المباركة التي تَنافَس الصحابة الكرام فيما بينهم لكي لا يضيعوا شعرة واحدة منها، وقصاصات شعره المبارك التي تناقلتها الأيدي قرنا بعد قرن منذ عصر السعادة الأغر إلى يومنا هذا، وتناولتها القلوب جيلا بعد جيل كأنها باقات ورد حبيبة، وبـجّلتها أيما تبجيل؛ أو كان بينها السيف المبارك الذي كان صاحب العمامة والقضيب يتقلده في جميع الغزوات لكن دون أن يؤذي أحدا أو يتلطخ بدم أحد؛ أو كان بينها رباعية السعادة التي فارقت أخواتها من اللآلئ المنتظمة في الفم المبارك كعقد الجمان، جراء ملامسة حصاة طائشة انطلقت حُبًّا في ملامسة الياقوت أثناء إحدى الحروب؛ أو كان بينها العصا السعيدة التي كان يحملها صاحب العصا ؛ أو كان بينها القوس المبارك الذي ما رمى به عليه الصلاة والسلام سهما نحو إنسان في حياته السنية إلا مرة واحدة، وذلك ناحية رجل أتى بغية قتله ، فاستهدف القوسُ الشريف منه غير مقتل؛ أو كان بينها نقش “القدم الشريفة” الذي تسابق سلاطين الإسلام وملوكه ليتوّجوا به رؤوسهم.
وبالقرب من هذه الذكريات الميمونة كلها قِدر إبراهيم ، وعصا موسى ، وعمامة يوسف ، والسيف المهيب الذي صنعه داوود بنفسه، والسيوف المباركة العائدة إلى بعض الصحابة الكرام والعشرة المبشرين بالجنة، والمصحف الشريف الذي كان يتلوه سيدنا عثمان ذو النورين أثناء استشهاده.
إضافة إلى بردة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وقلنسوة أويس القرني ، وتاج الشيخ عبد القادر الجيلاني، ومَحافظ الحَجَر الأسود الذهبية والفضية، وميازيب الكعبة الذهبية… أجل، ما بالك إن كان بينها أمثال هذه الودائع المباركة التي لا يعادل مُلك العالم كله قيمةَ واحدةٍ منها في نظر العاشقين.
إن كل وديعة من هذه الودائع تثير في النفس ذكريات وخواطر كثيرة، وتحمل معاني جليلة، وقدرا عظيما من الرفعة والسمو. فمن بحث لواحدة منها عن نظير، أو نقّب لها في البلاد عن مثيل فلن يجد لها نظيرا ولا مثيلا، فأنى له أن يقدّر ثمنها أو قيمتها مجتمعة.
وهناك أمر آخر لا يمكن أن نجد له مثيلا، وهو هذه العناية الخاصة التي أبداها أبناء أمتنا الأوفياء سلاطينَ ووزراء وعلماء وشعبا إزاء الآثار المباركة منذ اليوم الأول الذي شرّفت فيه أراضينا الطيبة. ففي اليوم الأول، ما إن حطت الأمانات الشريفة رحالها في إسطنبول حتى خصص لها السلطان أجمل مكان في قصره، وأجلّها إجلالا منقطع النظير حيث سمّى الجناح الذي نزلت فيه ضيفة كريمة “دائرة بردة السعادة”، وملأ أركان الدائرة بنور قرآني فياض وحيوية إيمانية سامية من خلال تلاوة أفضل الحفاظ للقرآن الكريم بأصواتهم الندية، فقدّم نموذجا حيا باهرا في حب النبي والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصحبه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
ومنذ ذلك اليوم أصبح هذا المكان الطاهر، أي “دائرة بردة السعادة” أو “جناح الأمانات المقدسة”، ملجأ يأوي إليه المتيمون بحب رسول الله باحثين عن الدفء والسكينة، متنفسين فيه أنفاس الربيع، مرتشفين ماء الحياة. نسأل المولى أن يذكي هذا الحب في القلوب فتستمر صلة المحبين بهذه الدائرة المباركة إلى الأبد.
ولا يصح أن ننظر إلى الأمانات المباركة والزخارف الموجودة في هذا الجناح الميمون كأنها أشياء قديمة مزينة عادية لا تحمل أي معنى. أبدا، فالجناح برمته، بزخارفه التي تزين الجدران ومقتنياته الموضوعة هنا وهناك بعناية، يبدو للناظر الذواق حديقة فيحاء صُمّمت تصميما فنيا دقيقا، ونُثرت عليها أزهار بديعة الجمال. لقد صممت الخطوط والأشكال الفنية بتناسب عجيب مع روح المكان إلى درجة تُشعرك وكأن كل شيء هنا خُطّط له مسبقا تخطيطا شاملا من قبل يدٍ عُلوية. كل شيء هنا في موضعه المناسب، وهناك تناغم بين المكان والأشياء، بحيث لن تجد النشوة التي تحس بها والرائحة التي تشمها هنا في متاحف قديمة أخرى. إذ ما إن تلج الجناح المبارك حتى تشعر بأنك دخلت خلوة خاصة في عالم غير عالمنا، وأجواء غير أجوائنا، وجاورتَ ربانيين مقربين إلى الله سبحانه، فغرقت في سحر المكان ولم تشأ مغادرته على الإطلق. أجل، في هذه الدائرة التي تشع نورا، كلما أطل الإنسان إلى وجوه تلك الآثار التي لا تقدر بثمن، رأى كأن الزمان الذي يتدفق كالنهر في الخارج قد انكمش هناك وتقلص وأُدخل في فانوس قديم، ووُضِع في زاوية من زوايا الحجرة المباركة؛ وحينئذ ينجذب الإنسان إلى سحر المكان وينتشي بعذوبة روحانيته، ويذوب في بحر من الجمال الوردي السامي.
إن الإنسان الذي يوفَّق إلى استنشاق رائحة الجدران، واستشعار الروح الذي تَلبَّسه المكان بحواس قلبه، يسمع أجمل الألحان الشعرية، ويتسامى على طبيعته وكأنه غارق في عالم من الأحلام؛ وتتفتح في جنان قلبه أزهار من المشاعر المتنوعة تسحر الناظر بألوانها وتسكره بعبقها الطاهر الشذي؛ فيشعر بنشوة عميقة وقد سرت في كيانه كله، وتنطبع البسمة على شفتيه، ويمتلئ صدره بأنفاس الفرح المقدس، يقول: “لا شك أن هذا المكان صمّمته أيدي الملاكة، وهنا يكمن سر هذه الجاذبية وهذا السحر”.
إن الفارس الذي يشد رحاله إلى خواطر تثيرها الأمانات المباركة في إطار هذه المعاني يرفرف نحو آفاق عجيبة، ويشعر بأنه يعيش في زمان آخر غير زمانه، وفي حياة أخرى غير حياته، وفي مكان آخر غير هذا المكان. ويبدو له كأن زمانه الضيق ومكانه المحدود قد انفتقا عن زمان ومكان آخر. نعم هنا لا ينفع إلا الصمت… وما إن يرمي السالك بنفسه في بحار الصمت، ويرفع أشرعته لرياح الخواطر والذكريات حتى يجد نفسه مبحرا في آفاق شاسعة من الشعر الجميل، مصغيا إلى الدويّ الصامت لأحداث ووقائع لا يسمع صداها إلا هو؛ يتمثل كل أثر من الآثار المباركة وكأنه شخصية تاريخية ملؤها الدفء والحياة. إن كل شيء حوله في هدوئه العميق صديق مخلص قد فتح ذراعيه ليحتضنه بحب وحنان، ويخيل إليه للحظة أنه لو خطا خطوة صغيرة أخرى سيدلف إلى الزمن الذي وجدت فيه. يبقى هكذا مستغرقا في هذه التجليات السامية والمشاهدات الرفيعة إلى أن يوقظه أحد من هذه الرؤيا الجميلة.
إن أبناء أمتنا الأوفياء قد عرفوا الأمانات المقدسة بهذه الأبعاد والمعاني الكريمة، وفهموها بهذا الفهم، فوفّوها حقها من التقدير والإجلال.
وما إن لاحت وديعة من تلك الودائع في آفاقنا حتى هيّجت مكنون حبنا لديننا الحنيف فأسرعنا إلى عالمه المضيء مرة بعد أخرى عبر القرون. ولقد كنا في كل نظرة إليها نجدد صلتنا بهؤلاء العظماء الذين تشير إليهم، ونحس بجلالهم في أعماق قلوبنا من جديد. وحتى في الفترات التي أصيبت فيها هويتنا الروحية بجروح، وتزعزعت مشاعر التبجيل للقيم الدينية… حتى في تلك الفترات لم تتأثر مكانة الأمانات المباركة في قلوبنا وظلت موضع احترام الجميع وتقديرهم دائما.