في هذا المقال أحب أن أتحدث عن موضوع يقتضيه خُلُقُ الوفاء، وهو في الوقت نفسه موضوع يصعب الحديث عنه لأنه يشبه قصص البطولة القريبة من الأساطير. ولا أدري هل يمكن لمقالة أن تحيط بحركة الإحياء والتجديد التي بدأت فسائلها ونبتاتها الصغيرة تورق في أرجاء المعمورة؟ لا أظن، فمعلوماتي في هذا الموضوع مقصورة على ما شاهدته في أفلام الفيديو، وشهادتي هنا بما نما إلى مسامعي، وقلمي أسير لقريحتي، ولا أدري متى تتجلى حقيقة ما تم وتتبلور معاني ما جرى.. فيا ليت شعري ماذا يمكن أن نقول في هذه الحال؟ إن كل ما يمكنني في هذا الأمر هو أن أصور زهرة واحدة تعبر عن بقية زهور البستان. وهل يمكن بصورة ميتة لزهرة واحدة تصوير جمال بستان بأكمله، لكل زهرة فيه لونها، ولكل وردة فيه جمالها الخاص؟ من الواضح استحالة هذا الأمر. ومع هذا فمثل هذه الجرأة باتت ضرورة ملحة لدعوة أرباب القلوب والعلم كي يسجلوا ملحمة العصر هذه ويشرحوها. فإن أفلحت محاولتنا هذه في دفع ذوي الهمة إلى البدء في هذه المهمة، فقد حققت بغيتها.
ينبغي الحديث عن هذه الملحمة مهما كان الأسلوب ومهما كان مستوى التعبير، لإيداعها في ضمير التاريخ أولاً وأداءً لحق الوفاء لأولئك الأبطال الذين نذروا أنفسهم لها وأنجزوها أيما إنجاز ثانيًا. وسيكون جحودًا إن لم يُنقَل عبير هذا النسيم الرقيق الذي هب في أرجاء المعمورة في زمن قصير إلى الناس كافة، وسيكون نكرانًا للفضل إن لم تتم الإشادة بهذا الهواء الدافئ، وبهذا الفكر النضر، وسيكون قدحًا في الشهامة، وعدم توقير لمثل هذه الخصال السامية، إن لم يُعبَّر عن موجات الحب وقبول الآخر التي تموجت بها أرجاء الأرض قاطبة.
إن هذا الحراك ظاهرة ينبغي أن يُلتَفَت إليها بجدية، فَقَدْ قررت فئة قليلة مَلَك الحبُّ قلبها أن تنطلق إلى مشارق الأرض ومغاربها رغَبًا في رضوانه ، في وقت عز فيه هذا الخاطر حتى ندر.. انطلقت دون أن تهتم بآلام الغربة وبفراق الأحبة، ملؤها العزم والثقة… طوت في أفئدتها –عشقا في خدمة الإيمان- لواعجَ الفراق، وَحُبَّ الوطن، وأوجاعَ ترك الأهل والأحبة… قليلٌ من اهتموا بما أهمّهم، وقليل من رابطوا في سبيل الله كرباطهم، وقليل من رددوا وهم ينتشرون في المغرب والمشرق مثلما ردد أتباع الرسل “سلكنا دروب الحب فنحن المجانين…” (الشاعر نيكاري).
لقد ذهبوا وهم في ميعة الصِّبا والشباب، لديهم آمال وأشواق دنيوية لها جاذبية لا تقاوَم كتلك التي تشتعل في قلب كل شاب، خاصة في هذه الفترة النضرة من ربيع الشباب؛ ذهبوا في عصر طغت فيه المادية والأحاسيس الجسمانية على المشاعر الإنسانية، كبتوا تلك المشاعر والآمال المشتعلة في صدورهم شوقًا إلى وصال آخر أقوى وأكثر التهابًا وتوهجًا، وانتشروا في مشارق الأرض ومغاربها حاملين في أفئدتهم تلك الجذوة المشتعلة من نشوة الرعيل الأول.
لم تكن تلك السياحة من ذلك النوع الذي يهيم به الشاب في مرحلة مراهقته خلف حلم ملكة جمال مزيفة، يعيش طول عمره بسذاجة في أوهام آلام الفراق وخيالاته، مبتعدًا عن ذاته ولا يستطيع الوصول إلى مبتغاه أبدا؛ بل كانت سياحة هؤلاء الأفذاذ واعية، ملؤها المشاعر الصادقة والإرادة الحازمة والإخلاص العميق… أو بعبارة أخرى، قد استعلوا على حب كل ما سواه تعالى.
هؤلاء المرابطون في سبيل دعوتهم، ديناميكيتهم الإيمان دومًا، وأحوالهم الطبيعية العشق، ومبتغاهم نذر أنفسهم للحق تعالى، وأسوتهم النور الخالد . أجل، لم يَعلَقوا في طبائعهم النفسية، ولم يستسلموا أمام عقبات تعترضهم. حب الله تعالى والسعي لنيل مرضاته، وتوق وصاله تعالى كان هو العشق الوحيد الذي لم يبهت في أفئدتهم، لذا شدوا رحالهم إلى أبعد زوايا العالم، وساروا في هذا الطريق، فافتخر بهم الطريق، وسعد بهم الربانيون، وشقي بهم الشياطين.. ساروا دون خيل ولا عربة، لا سلاح لهم ولا ذخيرة… الإيمان العميق الذي كان يعمر قلوبهم ويتفجر فيها كالحمم كان منبع قوتهم… وهدفهم المرسوم في آفاقهم سعادةُ الإنسانية ورضوانُ الله تعالى… حظوظهم كحظوظ الحواريين والصحابة… وصلوا في عفتهم وطهرهم إلى عفة الملائكة الأطهار، وسجلوا ذكريات ملاحم لا تنسى ولا تمحى.
أَسَالوا في كل مكان وصلوا إليه نورا دفّاقا من عالم الخلود.. وأشاعوا الأنس والسلام في كل جانب أشعلوا فيه مواقد رحلهم.. تهاوى سحر الظلم وانقشع الظلام.. وطار النوم من أعين خفافيش الإلحاد.. تعالت شكايات الظلام كله واحتجاجاته.. وتصاعدت موجات الكذب والافتراء والزور.. وارتفع ضجيج الفكر الفظّ وصياح التعصب.. وتوجهت السهام نحو الفكر الحر، ونُصبت المصائد المميتة للإيمان. لكن جميع هذه المحاولات اليائسة ذهبت سدًى، فقد عمَّ النور الآتي من عالم الخلود كل الأرجاء، وطاف الدنيا بأكملها، وغدا العصر عصر الأرواح النيرة وصار الزمان زمانهم.. ولئن كانت بعض آثار الغبار والدخان لا تزال تطل برأسها ويصيب الأفقَ منها بعضُ غُبْشة، فقد بطل سحر الظلام وبطل تأثير الفكر الغليظ الجافي وآذن بالزوال.
لقد أصبحت الكلمة الآن لأصحاب الأرواح النيرة؛ ستكتشف الإنسانية بهم نفسها من جديد، وستأخذ مكانها الصحيح في كيان الوجود. فهم الجيل الذي تترقبهم الإنسانية في كل مكان.. بخلقهم الرفيع وتواضعهم الجم وبعبوديتهم لله وتعظيمهم له، وبتوقيرهم للناس واحترامهم لهم، ينتظرون اللحظة التي سينهمر فيها النور الإلهي عليهم ويرصدونها من فُرْجة باب الرحمة المتجلية من اسمه الرحمن الرحيم.
إنهم جيل المستقبل وأَبناؤهُ أيًّا كان تقييم الناس إياهم. المستقبلُ المشرق حامل بأسرارهم. كل فرد من هؤلاء السعداء حواريّ الإحياء والإنقاذ قدر وُسعه، يحملون في أيديهم باقات من ورود الأخوّة، وترتسم على شفاههم أناشيدها. أقوالهم الحاسمة حسمَ فيصلٍ مهنَّدٍ تتغذَّى من شلاّل القرآن، وأحاديثهم ذات أبعاد أخروية. كلماتهم وأحاديثهم تبدد حجب الظلام وتقشعه دون أن تجرح أحدًا. وتطبع في الآذان خرير ماء الكوثر، دون أن تغادر أثرًا من حسرةٍ.
هؤلاء لا يحتاجون إلى يد أو لسان، وجوهُهم المتلألئة كالمشاعل، تُذكِّر بالله أينما حلوا أو ارتحلوا، يعجز كل بيان أمام سحر البيان الذي يَرشَح من محياهم الطاهر ويقف مبهوتا إزاء قوة المعاني المتدفقة من أحوالهم، لا تملك الألسن إلا أن تقبع رابضة في أفواهها، تراقب في صمت. تحترق الفراشات الحوامة حولهم من ظلالهم، بَلْهَ ضياءهم، ونورُهم يبهر عيون من يمر قرب منازلهم. تقول الحكمة الشهيرة: “ما الداعي إلى المقال إذا حضر الحال؟ وما الحاجة إلى التبليغ بالقول إذا نطق التمثيل بالسلوك؟” فقد انطبقت معاني هذه الحكمة على هؤلاء الأخيار.
لقد عاش على الأرض أخيار كثيرون في كل زمان، إلا أن أداء هؤلاء الأخيرين وأسلوبهم كان مختلفا. لا أقول إنه ليس لهم مثيل أو نظير. ولكن إن قيل لي: “أرنا إذن” لا تسعفني الإجابة حالًا، بل ربما قلت: “هؤلاء يشبهون الملائكة الأطهار”.
لا يهمّ بمن نشبّه أصحابَ تلك الأرواح النيرة، فقد حوّلت الأنوارُ التي نشروها الصحارى القاحلة إلى جنّات عدن، وتحولت الأرواح التي تُشبِه الفحم قتامة وظلامًا إلى أرواح كالألماس شفافية وضياءً، ولانت الطبائع الغليظة الخشنة ورقّت، وسمت الجبلات والأمزجة الهابطة وارتقت. فتحدث الجميع عنهم، وترقبوا أن تتحقق الأخوة والمسامحة التي وعدوا بها وسعوا من أجلها. لا يعاديهم أو يثير الأقاويل والشبهات حولهم سوى الذين لا يفرّقون بين الظلمات والنور، ويقضون كل حياتهم في سجن الجسد ورغباته. لقد أزعجوا منهم خفافيشَ الظلام، وكشّرت الوحوشُ الضارية لهم عن أنيابها، وبات الذين فقدوا رشدهم وصوابهم في ضيق وانزعاج بسببهم. وهذا –في رأيي- أمرٌ طبيعي، فالله تعالى يقول: (قل كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ((الإسراء:84).
ومهما أطفأ بعضُهم الشموعَ هنا أو هناك، فإن هؤلاء الأخيار يَروُون القلوب الظامئة أينما حلوا أو ارتحلوا، وينبّهون الفِطَر السليمة الطاهرة إلى ما وراء أستار الأشياء والحوادث، ويغرسون في السجايا السليمة القيمَ الإنسانية.
إنني على يقين بأنه ستتأسس أرضية لـ”تفاهم جديد” بفضل هؤلاء الربانيين، ولا سيما بعد أن انزاحت العقبات بين القارات بفضل القرآن وتَأسَّس حوار مستند إلى الحب والتوقير. لقد عرفت الإنسانية في الماضي أمتنا بأنها أمة مستبشِرة قد ضحك لها سعدُها، فما المانع أن تكون اليوم أيضًا كذلك؟ لا سيما وقد بدأنا نرى شلالًا من الحب يهدر بين الناس في كل مكان وصل إليه هؤلاء المهاجرون في سبيل غايتهم. لقد بدأت نسائم الطمأنينة والسكينة تهبّ في كل موضع حَلُّوا فيه وأحسّ بها الجميع، بل غدت ما يمكن أن نطلق عليها “جزر السلام والمحبة” تضرب أوتادها على أسس مستقرة ومتينة في كل ناحية وجانب.
ومن يدري؟ لعل صلحًا بين العقل والقلب يتأسس في المستقبل القريب بفضل هؤلاء المخلصين الذين نذروا أنفسهم لفكرة الإحياء والبعث. فيكون كلٌّ من الوجدان والمنطق بُعدًا مختلفًا للآخر، وينتهي النزاع بين الماديّ والميتافيزيقيّ، وينسحب كل منهما لساحته ويجري كل شيء في طبيعته وماهيته، يعبّر عن نفسه وعن صور جماله بلسانه، ويُكتَشَف التناغم بين السنن التشريعية والنواميس التكوينية من جديد، ويشعر الناس بالندم على ما جرى بينهم من خصام وعداء لا موجِب له.
وحينها سيسود في الشارع وفي السوق وفي المدرسة وفي البيت جوٌّ من السكينة والسلام لم يتحقق حتى الآن، وتهبّ نسائمه على جميع البشرية. وحينها لن يُنْتَهَكَ عرض، أو يُدنَّس شرف، بل سيسود القلوبَ الاحترامُ، فلا يطمع إنسان في مالِ آخَرَ، ولا ينظر نظرة خائنة إلى شرفه. حينها سيصبح القويّ عادلا، وسيجد الضعيف والعاجز فرصة في حياة كريمة، لن يُعْتَقَلَ أحد لمجرد الظن، ولن يتعرض مسكنُ أحدٍ ولا محلُّ عملِه لانتهاك أو هجوم، ولن يُرَاقَ دَمُ أي بريء ولن يبكي أي مظلوم، بل سيبجِّل الجميعُ الباري ويحبون الإنسان. حينها فقط ستغدو هذه الدنيا -التي هي معبر للجنة- فردوسًا لا تُمَلُّ فيها الحياة.