“مُغمَض العينين أنا.. ألحظ أجيال الغد.. تتفتح عن منابت الأمل..”
إننا نوقن بأن كل شيء في عالم الغد الطيب الجميل، سيكون بروعة الوجوه المشرقة لأهل الجنة وجمالها، مشرق تعبيرُه كنظراتهم، فواح عطرُه مثلما يتضوع من أجسامهم، ومن عبق تلك الروائح الزكية التي تفوح نفحاتها مِسْكِيَّة من كل جانب ستلين القلوب المتحجرة، بل ستذوب.
أجل، سيتفتح الوجود في راحة إنسان المستقبل المستنير روحًا والمتقد ذهنًا كبرعم وردة يتفتّح ورقة ورقة. ويمضي الإنسان السعيد نحو المستقبل المنير مكتشفا أقاصي الأكوان متنقلا من نصر إلى نصر كالفاتحين العظام، حتى يصل إلى اكتشاف سر أن الأشياء كلها مسخرة لبني الإنسان، ويسير تحت أقواس النصر الواحد منها تلو الآخر، لينصب راية الفكر والوجدان على برج مرضاة الله تعالى، ويرى قدرته في عجزه، وغناه في فقره، فيحلّق بأجنحة الشكر والشوق، ويستمر في البحث عن عوالم أخرى يفتحها. وحتى تحين اللحظة التي يفتح فيها عينه على العالم الآخر، يعيش في دنياه الحلوة هذه حلاوة الأحلام، محاولًا إضافة أبعاد جديدة لها.
إنْ قُدِّرَ لنا أن نصل إلى تلك الأيام نحن الذين نقاسي عقدة في لساننا وضيقًا في صدورنا وشللًا في مشاعرنا، ونعاني الحرمان فلا نجد فرصة لتوسيع عالم وجداننا وأفكارنا… فستهيج بنا الأشواق وستسَّاقط من أفواهنا الحِكَمُ. وعندما نرى الآمال التي أخفيناها في صدورنا تلوح أمام أعيننا ومشاعرنا الخفية التي تتردد بين الحسرة والأمل تنكشف أمامنا، وأفكارنا السجينة الحزينة على قلة حظها تبرز إلى الميدان، سنتذوق حلاوة عوالم كانت تعيش دومًا في خيالنا.
أجل، إن مشاعرنا الهامدة في أعماقنا ستقوى وتتقد بشوق، وتذوق لذة هذه الحياة كفراشة تتنقل في الصباح الباكر بين أفنان الورود وأغصان الزهور، باحثة عن أبعاد جديدة من سعادة الحياة التي هي اللذة بذاتها. في هذه الأجيال التي تبرعمت في جوارحها أنواع من اللذائذ، سيجد أصحاب الأرواح المنفتحة على ذاتها وعلى عوالم حسها وشعورها، فرصة للبحث عن عوالم أخرى من الجمال اللدنّي، وعوالم أخرى من الخيال المذهل الذي يخطف الأبصار، وسيشاهدون في سهول قلوبهم وبراريها المشرقة بالإيمان، عناقيد نجوم متراصة جنبا إلى جنب، وسفوحًا كسفوح تلال الجنة موزعة هنا وهناك. وفي ظلال هذه الأفكار الملونة الجميلة التي تتوالى، سوف يمزقون الرتابة التي تسعى لإطفاء جمال عالمهم إربًا إربًا فيعيشون في شوق وطرب يعجز اللسان عن وصفه.
إن المرء الذي يبلغ هذه المرتبة، يظل مستغرقًا في تأمل وجه الحقيقة التي تشرئبّ له عبر المنافذ المتفتحة على قلبه ضاربًا عرض الحائط بالصورة الضيقة لعالم الوجود، متخلصًا من أسر ماديته، باحثًا عن مأوى جديد له خارج كل أبعاد الزمان والمكان. وفي كل قفزة، تحوطه هالات نورانية مضاعفة، وفي كل عملية من عمليات التنوير هذه يزداد إحساسًا بالمنبع الأساسي لوجوده، وينسى تمامًا ما كان يُطلق عليه من قبلُ “أنا”، فيغدو كل صوت يطرق سمعه صوتَ عشق، وكل لون يسيل إلى عينيه لون عشق، ذلكم الذي غُرس كبذرة في روحه منذ الأزل وأحاط بكل كيانه كحمى نافضة، عند ذلك يحترق بنار الوصال ولوعته؛ ولا يعود لبكاء الألوان ولا لانزياح الأنوار والأطياف، ولا لعبوس الموت وحزنه أيّ أهمية أو معنى؛ ويرنّ كل صوت في أذنيه كنغمة أمل باسم، وينبض كل دبيب في أعماقه نبض الخلود، وتُكشَف له جميع الأسرار، ويجد نفسه بين أذرع العشق يحرق كل ما هو أجنبي في قلبه وعقله ويذروه رمادًا، فيدرك الغاية من وجوده.
أجل، إنني آمل أن ترتشف أجيال الغد لذائذ مثل هذه الحياة في كل يوم وكل ليلة وكل ساعة بل وكل ثانية، وأن تستوعب في صدرها أمواجا متلاطمة متعاقبة من بحار العشق والوصال، تتحول كل موجة صغيرة منها إلى بحر خضم، وأن يصل يومًا أولئك السعداء -الذين يرتشفون قطرات من العشق والوصال في كل حين- إلى العشق الأعظم والوصال الأكبر، وينجون من ضجيج “الكثرة” وخداع “الظلال”.