أيها الشاب! توقف هنيهة، عد إلى داخلك لحظة، أنصت إلى أنفاس قلبك ونسمات روحك، اشحذ همتك، وتهيأ لمحاسبة نفسك. انهض مع فجر الإيمان الذي بزغ في أعماقك، وامشِ في “درب النور” الذي انبثق في وجدانك واصلا إلى الله سبحانه. هذا الدرب الذهبي يمر من داخل الزمان والمكان ومن خارجهما معا. لن ترى المعنى الذي يغمر روحك، والهدف القدسي الذي يمَّمتَ نحوَه وجهك ساطعا بالأنوار إلا في هذا الدرب، فتُفتَن بجمال هذه الحقيقة الأبدية، تهيم بسحرها وتذوب في بهائها.
ابدأ في هذا الدرب باكتشاف “نفسك” أولا؛ ستشعر في كل خطوة بحقائق نسيتها وكأنك تتذكرها لأول مرة، وتغوص في عالمك الداخلي من عمق إلى آخر حتى تنتهي إلى بُعدٍ فسيح من السكينة والرضى تبتسم في كل نواحيه الألوانُ وتتلألأ الأنوارُ.
سترى في ضوء “شعلة الإيمان” المتقدة في قلبك أن كل جنبات الزمان والمكان قد استضاءت بأمواج الأنوار الآتية من وراء الغيوب موجة موجة. وتسمو ثم تسمو بأجنحة الإيمان النورانية القوية حتى تتراءى لك النجوم النابضة والكواكب المستعرة والثقوب السوداء ورودا وبراعم تتفتح وتنطوي في قلب الكون، تراها، تحبها، وتنتشي بهجة وسرورا.
حينما تطل على “روحك” عبر نافذة “وجدانك” في بعض الأحيان، ستراها قد غدت نورا أبديا اخترق جُدران المادة وتجاوز حجب الزمان والمكان، وستشاهد أن كل شيء في الكون ينسكب من منبع أزلي، فيبلغ الانفعال والجيشان لديك ذروته. ستدرك أن كل بريق يسطع على الأشياء الشفيفة الصقيلة ويخبو، ما هو إلا لمعات تشع من عالم الغيب الأبدي؛ وفي خضم تلك المعاني المتلاطمة التي تغمر كيانك ستغيب عن نفسك نشوة. بيد أن كل منحةٍ ثمرةُ محنة، وكل نعمة يقابلها مشقة، وكل نجاح -مادي أو روحي- منوط بشيء من المعاناة والحرمان. لا عطاء بدون تعب ولا نعمة بلا نصب، لا نجاح دون التصبّر على شيء من البؤس والشدة والشقاء.
لذلك، على كل من اعتزم السير في هذا الطريق الشاق الممتع معا، أن يحدد الهدف الذي يريده أولا، ثم يضع خطته ويضبط ما ينبغي فعله لبلوغ ذلك الهدف، ينطلق على بركة الله وقد عقد نيته، وشحذ إيمانه، وثبّت عزيمته، وحسم قراره على ألا ينكص أو يتراجع مهما كان. أجل ينبغي أن يفعل ذلك حتى لا تضعف عزيمتُه في وديان سحيقة أو تخور قواه في مرتفعات شاهقة، أو يأخذه الدوار والحيرة فينحرف عن الوجهة، أو يصاب باليأس والإحباط إزاء بعض العقبات فيتوقف عن السير.
ثم إياك أن تسلك طريقا لم يُحَدَّد له هدف واضح، فالسير في طريق بلا هدف رفيع عبثٌ أولا، ومحفوف بالمخاطر ثانيا، لأن طريقا كهذا لن يوصل صاحبه إلى أي نتيجة مجدية، بل سيتعرض الأمل الذي يحمله في قلبه لشلل مريع مع الوقت، وتخبو شعلة الإيمان ووقدة العزيمة في النهاية ويصبح في خسران مبين.
عندما نشرع في قراءة كتاب ما نبدأ من فصوله التي يسهل علينا فهمُها ونقلّب الصفحات على مهل خطوة خطوة. كذلك سنفعل عندما نجتاز الجبال الشاهقة والوديان السحيقة، نقسّمها على مراحل، ونوزّعها على صفحات. وهكذا نتخطى أشد الطرق تمنُّعا على السير وأكثرَها شراسة على الاجتياز، لا يجد اليأس إلى قلوبنا سبيلا، ولا ننقطع عن المسير أبدًا.
بين أيدينا -اليوم- بناء فردي واجتماعي متهالك منذ قرون وقرون، قد نخره السوس من داخله، وأصابه البِلى من خارجه، وتآكل من جميع أطرافه. محال ترميم ذلك البناء بلمسة واحدة أو إحياؤه بنفخة واحدة ومنحه حيويته السابقة التي ترفعه إلى مقام يؤهله للتنافس مع أمم العالم، ولكن ليس محالا بعثُ الروح في أجزائه جزءا بعد آخر، حتى يغدو “الكل” في النهاية مستعدا للقيام بمهمته التي كان يقوم بها في السابق. سنأخذ بمبدأ “التدريج” فيما نقوم به ونفعله، نتقدم على روية، ونعمل على مراحل، ونتناغم مع طبيعة الأشياء في سيرها. إن هذا سيبعث في نفوسنا “الإيمان” بقدرتنا على إنجاز شيء ما، ويرفع من معنوياتنا، ويشحذ عزيمتنا على الإقدام والمثابرة. وفي الأخير، إذا بنا في يوم من الأيام، قد تجاوزنا تلك المفاوز المرعبة، ووصلنا إلى نهاية الطريق، نتطلع في دهشة وانبهار متساءلين كيف حصل ذلك؟ ثم نخرّ بين يدي “الذات العلية” التي لم تزل تشعرنا بمعيتها وتغرقنا بعطاياها طوال الطريق، وقد امتلأت قلوبنا لها بالمنة والحمد والشكر.
أجل، لا يمكن تحقيق أي شيء بالشجاعة الطائشة والعواطف الجامحة. إن السعداء الذين يتصدون للشدائد وينازلون الصعاب، فيتغلبون عليها واحدة تلو الأخرى، ويثبتون للعالم مساندة المولى لهم لقاء إرادتهم التي وفّوها حقها.. هؤلاء سيجدون أنفسهم وقد تَسنّموا الذُّرَى يوما، ويرون البذور التي نثروها قد أنبتت كلُّ واحدة منها سبع سنابل حمّالة تتهادى بدلال وتتمايل بنشوة، فتفيض نفوسهم بهجة وتزدهر بسمات، ويتطلعون إلى مستقبلهم المشرق بسعادة ما بعدها سعادة.