سؤال: هلّا تبصروننا بماهية الشيطان ، وعمله، وطرق إغوائه، وسبل الوقاية منها، والحكمة من خلقه؟
الجواب :
1- اشتقاق كلمة شيطان:
الشيطان مخلوق مطرودٌ من رحمة الله، واشتقاقها من جذرين الأول “شَطَنَ”: بعُدَ عن الله وعن رحمته، والثاني “شَاطَ-يَشِيطُ”: احترق وهلك، وأشاطه: أذهبه، وكلاهما صحيح في الشيطان، لأنه مخلوق طُرِدَ من رحمة الله؛ فاستحقَّ الحرقَ والإبعادَ.
2- هل يمكن إطلاق كلمة “شيطان” على غيره؟
يمكن شرعًا إطلاق كلمة “شيطان” بمعناها المذكور على كل طاغٍ باغٍ، وقد سمَّى الله جلَّ جلالُه من يُغوي الناس من الجنِّ والإنسِ بزخرف القول شيطانًا: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 6/112).
وقد أطلق سيدُنا حمزة رضي الله عنه لفظَ شيطان على حصان جامح أُركِبه، فقال: “أركبتموني على شيطان”، وسمى رسولنا صلى الله عليه وسلم الكلب الأسود شيطانًا[1]، والبعير النادّ شيطانًا[2].
يُستنبط من هذا أن كلَّ متمرِّد جامحٍ إنسًا كان أم جنًّا أم حيوانًا يمكن أن يطلق عليه -بمعنى ما- لفظ “شيطان”، أمَّا الشيطان موضوع السؤال فهو إبليس الذي ابتُلِيَ به البشر، وأبى أن يسجد لسيدنا آدم عليه السلام، وكفر بتمرّده على الله تعالى، وصار عدوًّا أبديًّا لكل البشر.
3- لماذا طُرد الشيطان من رحمة الله تعالى؟
إنما طُرِد الشيطان من رحمة الله لإساءته توجيهَ قدراته ومشاعره الجِبِلّيّة.
لقد خلق اللهُ الإنسان مظهرًا “لأحسن تقويم” بما أُودِعَ فيه ماديًّا ومعنويًّا، وبيَّنَ سبحانه هذه الحقيقة بقوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (سُورَةُ التِّينِ: 95/4)، وماهية الإنسان حقًّا كالتقويم، تجتمع فيها الحقائق الخاصة بجميع المخلوقات، وتحتوي على جوهر كلِّ شيء؛ فالإنسانُ تقويمٌ يدلّ على الكون كلِّه، وهو في روعة فهرست فيه كلُّ ما كان خلال سنين وقرون، زِدْ على ذلك أن ماهيته غنيّة بمشاعر متنوعة مثل السرّ والخفي والأخفى والقلب، وهو كمال الباطن ومرآةُ الظاهر.
هكذا خلق الله البشر جميعًا غير أن منهم من ترقَّتْ لطائفُهُ كسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاقَ جبريل، ومنهم من وجَّهَ ملكاته توجيهًا سلبيًّا مثل أبي جهل؛ فتردَّى في دَرْكة تُخزي الشيطان نفسَه.
وهكذا طُرِدَ الشيطان وأُبعد عن رحمة الله عندما أساء استخدام طاقاته، تأملوا هذا المعنى؛ فهو لم يخلق بعيدًا عن رحمة الله، وإنما أُبعد عنها بعد ذلك عندما أساء استخدام طاقاته.
4- من أي المعابِر يتسلل الشيطان إلى الإنسان؟
نستهلّ حديثنا عن سبب عداوة الشيطان للإنسان، ثم نستنتج مما جاء في الآية الكريمة على لسان الشيطان نفسِه أضرُبَ حِيَلِه لإغواء الإنسان.
وصارت للشيطان جِبِلَّة أخرى بسخطه على الله وحقده وغيظه وكرهه لبني البشر بعد أن نال هذه الصفعة: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ (سُورَةُ الْحِجْرِ: 15/34). أجل، إنَّه طُرِدَ من الرحمة الإلهية لأنّه أبى أن يسجد لآدم عليه السلام، ولما طردَه الله أظهر عداوته له سبحانه.
أجل، إنّ امتحانَه بآدم عليه السلام ورسوبه فيه أثَّر فيه كثيرًا، فأقسم قائلًا: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (سُورَةُ الْحِجْرِ: 15/39-40)، أي بسبب تلك الأحداث طفح قلبه حقدًا على بني آدم جميعًا في شخص آدم عليه السلام، وأي قلبٍ يطفح حقدًا لن يكون فيه شيء من التوازن قطعًا، وهكذا الشيطان كان، لقد عبَّر عن غيظه وحقده كما جاء في القرآن الكريم:
﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/16-17).
أي لآتينَّهم من أَمامِهم بأن أرسمَ لهم مستقبلًا كلُّه جحودٌ وظلام حتى يقولوا: “لا بعث بعد الموت، ولا جنّة ولا نار…”، وأحطّم آمالهم حتى يقولوا دائمًا: “اليوم أسوأ من الأمس”، وأوسوس لهم بأنه كُتب عليهم أنهم أسرى للكفار إلى يوم القيامة، ولا أزال أُشيع الظلمات أمامهم.
ولآتينهم من خلفهم بأن أحول بينهم وبين تراثهم المقدّس الذي به يثقون، وأصوره لهم أنه مَزَارٌ موهوم، لأحطِّم آمالهم كلها وأهيّج مشاعر اليأس والقنوط لديهم.
ولآتينَّهم عن أيمانهم قائلًا: “أنتم أهل الحق والحقيقة، فلم تَدَعُوْنَ الآخرين يخدُمون الدين؟ هلا تقومون أنتم بها؟”؛ فأُشعِل الحسد فيهم، وأَعُوقُ خدماتهم، وسأحملهم على الحديث عما فعلوه، وأغرقهم في الرياء وإن أدّوا عباداتهم ظاهرًا.
ولآتينهم عن شمالهم بأن ألطِّخ أذهانهم بفلسفات مضطربة منحرفة، وأفكار يسارية، وأنفث في أرواحهم أمورًا خاطئةً دائمًا؛ فإذا أكثرهم جاحدون ولك لا يشكرون.
أجل، كم وكم ذكَّر القرآن الكريم بعجرفة الشيطان هذه بحقد وبغضٍ بين يدي الحقِّ تعالى.
5- لماذا لا يهتدي الشيطان؟
وإليكم مثالًا أو مثالين لنتبيّن لِمَ لا يهتدِي الشيطان: هبْ أنّ امرءًا أسلَمَ قلبه للحقد والكره لأسباب شتَّى، وفي حالةٍ ولحظةٍ كهذه تراه يعتدي على ما تحت يده، ويطوِّحُ بكل ما تصل إليه، ولا يتورّع عن فعل ما بوسعه حتى يتغلب على الآخرين؛ لأنه لا اتزان عنده، ولا محاسبةَ للنفس، ولا تفكيرَ سليمًا، أي إن اختلال التوازن هو مِقود ساعات هذا الإنسان ودقائقه ولحظاته وثوانيه، بل إنه أحاط بروحه، حتى غدت له جِبلّةً أخرى، فراح يفعل ما تقتضيه، وهذا الضرب من التصرفات ضرورة تفرضها جِبلّته عندئذ.
مثال آخر: لو أنَّ امرءًا غشيت قلبَه وكل مشاعره ظلماتُ الكفر، فلا ريب أن الشبهات والشكوك القسريّة ستهزه هزَّ الرياح النَّافِجة، فالشبهات الشيطانيّة في الله جل جلاله أو رسوله صلى الله عليه وسلم تغزو عالمه الفكري، وتزجُّ به في أودية الشكّ والشبهات.
فإن فرَّ إلى الله عندئذٍ، وسلك طريقًا يباعد بينه وبين تلك الشبهات، برِئ منها بعناية الله، أمَّا إن استمر ذلك الحال فقد يهمّ بالانتحار وتغلبه الهموم، وتلك هي حال الكافرين في الواقع، أي إن هذا الضرب من الأزمات والهموم لا يدعه ولو ساعة بل يطارده دائمًا؛ ذلك أنَّ الكفر لا يبرحه.
وبهذين المثالين يتبين لنا لِمَ عصى الشيطان: فمثل الشيطان في الأول مثل من أجهزَ طوعًا على كل مَلَكةٍ في جوهره المهيّإِ للخير والجمال، وأظهر كل ملكاته الشريرة، حتى طفَحَ صدره بالكفر وما بقي للإيمان مكانٌ؛ فقد أحاط الشر بحياته كلها ثوانيها وهنيهاتها إحاطةَ السوار بالمعصم، فمثله مثل ذلك الغضوب الذي يمتلئ حقدًا وكرهًا في كل آنٍ من حياته.
ذلكم هو الشيطان، لقد صار الجحود جبلَّة وركنًا في سجيته؛ فالأملُ في هدايته وبذل الجهد لإقناعه بما يُبيَّنُ له إن هو إلا كالرّقْم على الماء، لا سيما أنّه يعادي كلّ من آمن بالله حقدًا وبغضًا…
ولو أنه سلك طريق الرجل الثاني بأن فرّ إلى الله تعالى، واجتهد في الخروج من المأزق الذي زلَّ فيه، لنجا منه بعناية الله واهتدى.
6- ما حكمة خلق الشيطان؟
كُتبت في هذا كتب منها رسالة الإمام بديع الزمان، فهي جديرة بالقراءة[3]، فحسبنا الإشارة إلى هذا بكلمات:
إن الله جلَّ جلالُه منزَّهٌ مبرّأ عن العبث في أفعالِه، فهو حكيم له ألفُ حكمةٍ وحكمةٌ في الخلق، ومن الجهل به وعدم المعرفة تخيلُ العبث منه، فهذا تخيلٌ ممتنع ولو لم ندرك تلك الحِكم.
بعد ذكر هذه القاعدة التي هي أصلٌ راسخ في عقيدتنا نقول: إنَّ خلق الشيطان وتسليطه على الناس يحملهم على الحذَر، وقد حملهم؛ ولهذا سوف يفعّل الإنسانُ آلية اتقائه الشيطان والوقاية منه، فصار تسلط الشيطان محرِّكًا لعملِ آليّة الوقاية هذه على نحو أفضل، فالعقارب والثعابين السامة في الحقول تحمل العاملين فيها على اليقظة والحذَر، وتكشف قدراتهم في التنبه، والصقر لما سُلِّط على العصفور نمت مهارات العصفور؛ وهكذا تسلط الشيطان على الإنسان؛ لقد نمت بهذا مهارات الإنسان وقدراته على الهرب من الشيطان والتخلص منه ونقضِ حيله كلّها، بل غدا وسيلةً للجوء الناس إلى الله، وإلى قلعة السنة السنية، وأشار القرآن الكريم إلى هذا مرارًا، من ذلك قوله: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/200) وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى منه قال: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ (سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 23/97-98).
7- كيف نتقي تسلط الشيطان علينا؟
أ. الاعتصام بالله
إن الاعتصام بالله، والاستعاذة به هي -كما قدّمنا في الآيات الكريمة- أعظم حصنٍ وآلية للوقاية من إغواء الشيطان وتهييجه، وهذه الآلية شرط في كل الأحوال، وفي الحديث الشريف: “أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ”[4]، فنسأله سبحانه أن يوفقنا للتحقق بسر هذا الحديث لنسجد له داعين: “اللهم إني أعوذ بك منك، أعوذ برحمتك ومرحمتك من جبروتك وجلالك، وأعوذ بك من الشيطان”.
ب. ترك التكاسل
يَهْجُمُ الشيطان غالبًا على الكسالى الخاملين، ويراود العاطلين القابعين كالمساكين خاصةً من لا يقدِّمون لدينهم أيَّ شيءٍ إيجابيّ، لذا لزِم بحث الخمول أو السلبية في مسألة التحصُّن من الشيطان، أي ما دام الشيطانُ يستثمر خمولنا غالبًا فلا ريب أنه يتحيّن فُرَصَ فراغنا، فيُلقي فينا خيالاتٍ وأوهامًا غريبة عنّا، لنفكِّر في الخبائث ونقرأ عنها، لذا يجب علينا أن نملأَ بالفكر والعمل كلَّ فراغ يلج منه ويعبث فيه، ولنملأ شعورنا وأفكارنا بالله تعالى، بل ينبغي أن نطالع الآيات الكونية دائمًا، ونُشغَل برابطة الموت لنمتلئ خوفًا وخشية، وبتبليغِ دين ربّنا لمن حولنا؛ لئلا ينفذ الشيطان إلى قلوبنا فيوسوس لنا ويزعزع إيماننا.
هذا مع المداومة على الأذكار والأوراد، ولو أنَّا جعلنا حياتنا زاخرة بخدمة دينه تعالى، لما تركَنا ربُّنا للشياطين ببركة ما سنفعله، ولَبلغ بنا برّ الأمان في ظل هذه الأعمال المباركة.
ج. الوفاء بالعهد
إن الوفاء بالعهد لا يقلّ أهمية عما ذكرنا من أمورٍ نتقي بها إغواء الشيطان. أجل، فمن وفَّى بعهده، ونصر دين الله فلن يسلمه سبحانه للشياطين والضلال، ألم يقل الله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/40)؟
أجل، طالما استمسك العبد بهذه الرؤية وهذا الاعتقاد، وطبَّقَه فعلًا، فسيكفيه الله بلا ريب تسلّط الشيطان بأن يذكّره بآية أو يريه برهانًا، ويرفع الغشاوة عن بصره، ويحفظه حقًّا، وما أكثر الأمثلة على هذا في حياة الصحابة والأصفياء والأولياء، وكلّها تكشف أن برهانَ الله قد تجلَّى لهم حينما تاهت عقولهم وغُشِي على أبصارهم، فهداهم سبحانه فورًا إلى الاستقامة، ومن يدري كم وكم أنقذَنا من التردي والتعثّر عدمُ إصرارنا على استخدامنا إرادتنا استخدامًا سيئًا، وحظينا بنعم ربنا تلك.
إن من وفَّى وأخلص له تعالى يحظى بوفائه وعنايته بمقتضى الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (سُورَةُ مُحَمَّدٍ: 47/7)، بل منْ قصدوه بإرادتهم المحدودة حظوا بنعمه التي لا تُحَدّ، وهنا ينبغي علينا -نحن رجال الدعوة المباركة- أن نمضي في هذا السبيل الذي ينتهي بنا إلى جمال الله وجنته، وألَّا نتخلى ولو هنيهة عن الوفاء بالعهد، وألا ننسى ولو لحظةً أننا تحت مراقبة ذلك الرقيب المهيمن، إيمانًا منَّا بأنه سبحانه معنا مطلع علينا أنى وحيثما كنّا، فلنراقب أنفسنا هكذا، ولنسيطر على جوانيتنا دائمًا.
د. تجنب الوحدة
تجنّبُ الوحدة أمضى سلاحٍ للتحصُّن من إضلال الشيطان وإغوائه، ولا بُدَّ من إشهاره دائمًا على أيَّة حال، وأقلّ ما يتحقق به ثلاثة أصدقاء فأكثر كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[5]؛ أي إننا بصحبةِ أهل سوقِنا وبيتنا وحياتنا كلِّها ممن يشعر ويحس مثلنا ويؤمن مثلنا لَنَتعالى عن أن نكون لعبةً بيدِ الشَّيطانِ.
أجل، إنَّ الخواطر السَّيئة كالبذرة المدفونة فينا، تنمو يومًا إثر يومٍ، وتتكشف برعمًا، فما أجمل أن تُقطع هذه الخاطرة السيئة وهي برعم وتُلقى بعيدًا! وإلا نمت وكبِرت وتفاقمت، فهدمت بنيانها الذي سمقت فيه، فلنستأصل منذ البداية صغار البذور التي نثرها الشيطان في أرواحنا، وإلا فربما يطول الزمن، فتغدو أمرًا يستحيل التغلب عليه، فتخلّ بتوازننا ومنطقنا بل بمخيّلتنا، وتكاد تتعذّر النجاة عندئذ.
لذا ينبغي تجنبُ الوحدة فعلًا حقًّا لئلا تتجذر مثل تلك الخواطر الخبيثة في بنيتنا، ثم تتغوَّل فتأسرنا. أجل، إنَّ عزيمتنا ورُقيَّنا الروحيّ وحياتنا القلبية ربما لا تكفي لتحصيننا؛ إذ إن صلتنا بالله ليست كما ينبغي، وكذا اختلال صلتنا بالآخرة نتيجةَ الفوضى الاجتماعية القائمة.
نعم، لنا أصدقاء تنطق وجوههم بالحقيقة، وتتجلى إرادة الله في إرادتهم، إنْ نأتهم ونشاركهم المناخ والبيئة نفسها فقد نكتسب منهم قوةً من يجالس وليًّا؛ فكلماتهم وأحاديثهم تبدو نارًا تُذيب صَلْدَ المشاعر والخواطر الخبيثة فينا، وأحيانًا ما نكون نحن أيضًا هكذا، فيأتوننا، فيستفيدون هم منا.
أجل، إنّ الله جلَّ جلالُه خلق الإنسان اجتماعيًّا بفطرته، وهو ذو حاجات مادية ومعنوية تقتضي أن يعيش في مجتمع على هذه الشاكلة، فعلينا ألا نفارق جماعة على هذا النحو، وألا نعتزل الأصدقاء الخيرين الطيبين الأبرار.
ه. استماع الوعظ والنصائح
الإنسان كائن يحتاج إلى أن يخفق قلبه يوميًّا، وتدمع عيناه، ويجدِّد جوّانيته بضع مرات، وقد عظَّم القرآن شأن من يتصلون بربهم، ويخرون للأذقان سجّدًا من شدة خشيتهم إياه، وقد تبلغ بنا المواعظ والنصائح أحيانًا هذا الأفق، ومن المؤسف أننا عامةً جيل منكوب محروم من الاستماع إلى هذه النوع من الوعاظ والمرشدين الدالين على الخير، ليت لدينا مئات وآلافًا من الوعاظ الذين يَحْدُون قلوبنا، فيبلغون بنا حالة العشق والشوق.
أجل، ليت عندنا آلافًا من الوعاظ الذين تغصّ حناجرهم بكلماتهم من البكاء، فلا يُفهم ما يقولون على المنابر كما كان حال فخر الدين الرازي! ليت هذا يحدث، وإن لم نفهم شيئًا على الإطلاق، فحسبنا الاتعاظ بحالهم، ليت عندنا مئات وآلافًا من المرشدين يروون لنا حياة الصحابة والتابعين وتابعيهم ويُضفون عليها روحًا من روحهم، فنستمع إليهم، ونُغضي حياءً من إنسانيتنا، ليتنا نشعر بالحاجة إلى التفتيش في حياتنا ونمطِها، وننظم أنفسنا.
وعندئذ قد ترقُّ قلوبنا، وتزول الأصداء التي تشوّشها، وتحيطنا التجليات الإلهية التي تنعكس على أرواحنا؛ فنبعد بهذا عن الوساوس والدسائس الشيطانية كافَّةً.
وأعيذك أن تقول: “أعلم هذا فلن أقرأه مرةً أخرى، لقد سمعت هذا من قبل، ولا حاجة لأن أسمعه مرة أخرى!”، إن لحياتنا المعنوية وقلبنا وروحنا وضميرنا ومشاعرِنا كلِّها حاجاتها كما نحتاج إلى الطعام والشراب، وهي حاجات متكررة، فوجب أن نقف بباب مرشد ونلوذ به، ونلج مناخ ولي الله هذا الذي يذيب كل شرٍّ، ويحول دون نفوذ الشيطان إلى نفوسنا، فلنجدّد أنفسنا دائمًا.
8- ما الأدعية الواقية من شر الشيطان؟
لو أننا أطلقنا على الأمور التي تحدثنا عنها “أدعية فعلية” في هذا الشأن، فثمّة أدعية قولية تردفها، وكلاهما كالوجهين لشيءٍ واحد، إذ إن فعل أحدهما وإهمال الآخر أو تركه ربما يمنع تحقّق النتيجة المستهدفة.
إذًا ينبغي أن نحافظ على الأدعية القولية حيثما وأينما كنّا، ولا نهملها.
وإذا ذكر الدعاء القولي فمن البدهي أن تتبادر إلى الذهن أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم من مناسبةٍ لا تُحصى في مقالة سردًا وشرحًا قد استعاذ فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيطان: عند الطعام ودخول الخلاء والجماع… إلخ، وعليكَ بكتبٍ ومجلاتٍ جمعت أدعية في هذا الموضوع وغيره، وإليك نموذجًا من دعاء علّمَناه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الخوف من الشيطان.
علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء للتحصن من الشيطان:
“أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّٰهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمٰنُ”[6].
اللهم تولَّ أجيال القرن العشرين التَّعِسَة البائسة، الشاردة عن طريق مسجدها ومنبرها ومحرابها، التي تتيه في أودية الكفر والضلال، وكلّما تاهت غرقت، والتي تحتاج إلى الهداية والإرشاد بقدر تيهها وغرقها، اللهمّ فاحفظها من شرّ شياطين الإنس والجنّ وأعوانهم، اللهمّ آمين…
[1] سنن أبي داود، الصلاة، 109؛ سنن ابن ماجه، إقامة الصلوات، 38؛ مسند الإمام أحمد، 35/250.
[2] سنن أبي داود، الصلاة، 25؛ سنن ابن ماجه، المساجد، 12؛ مسند الإمام أحمد، 22/27.
[3]بديع الزمان سعيد النُّورْسِي، اللمعات، اللمعة الثالثة عشرة، ص 98-123، المكتوبات، المكتوب الثاني عشر، السؤال الثاني ص 53.
[4] انظر: صحيح مسلم، الصلاة، 215؛ سنن أبي داود، الصلاة، 148؛ سنن النسائي، التطبيق، 78.
[5] سنن الترمذي، الجهاد، 4؛ سنن أبي داود، الجهاد، 86.
[6]مسند الإمام أحمد، 24/202؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 6/80.