أودّ أن أستهل الموضوع بحديث شريف ذكرناه سابقاً وهو:«ما منكم من أحدٍ، ما من نفْسٍ منفُوسة إلا وقد كتَب اللهُ مكانَها من الجنة والنار».( ) بمعنى أن الله يعلم مكان الإنسان من الجنة والنار قبل أن يُخلق. فلنفصّل القضاء والقدر من حيث العلم الأزلي:
إن الله سبحانه عليم بكل شيء، يقدّر كل شيء ويعينه وفق علمه. وهناك من المسائل ما يتفضل الله فيها علينا بالعطاء، ويقضي علينا قضاءه وحكمه ويجعلنا مكلفين بالقرآن الكريم بالذات. ولكن كثيراً منها ما لا تهش لها نفوسُنا، إذ تجدها غير مرغوبة فيها. ولكن الله سبحانه، وهو العليم الخبير، لا يحكم بحقنا شيئاً ولا يقضي قضاءً إلاّ وفيه حِكَمٌ وفوائد ومصالح لنا. ففي تقديراته سبحانه وتعييناته قد أخذت هذه المصالح والفوائد بنظر الاعتبار. بيد أننا غافلون عنها جميعاً، حيث نجهل والله يعلم. إذ إن علمه بشيء ما ومقارنة حكمته له، لا ينفكّان أحدهما عن الآخر: العلم والحكمة. فالحِكَم والمصالح تعقب دائماً علمَه سبحانه، إلاّ أنه سبحانه ليس مضطراً إلى القيام وفق الحكم والمصالح، ولكن كما أن علمه محيط بكل شيء كذلك حكمته وسعتْ كل شيء. فهو عليم بكل شيء حكيم في كل شيء. ولا يمكن فك أحدهما عن الآخر.
في كل شيء له حكمة، فالله لا يعبث. فالحكمة دائماً طوع علمه، فأينما يتجلى العلم وتزدهر القدرة والإرادة، إذا بالحكمة تسطع هناك وتتلمع. إلاّ أننا نجد التكاليف -في أغلب الأحيان- كريهة على نفوسنا لجهلنا بهذه الحكم والمصالح. لأننا لا نعرف حُسن هذه التكاليف من حيث نتائجها، أي أنها حسنة لغيرها كما هو في المصطلح الفقهي. إذ لو نظر الإنسان إلى الموجودات من هذه الجهة -أي من حيث النتيجة- يجد كثيراً جداً من الحكم والمصالح. أمّا السيئات والشرور فهي مرتبطة بكسبنا الخاص، والآية الكريمة تبين المسألة بوضوح تام:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(البقرة: 216).
أي أن كثيراً من الأمور تنطوي على مصالح وفوائد وخيرات رغم ان ظاهرها كريه وقبيح. فالوضوء في أثناء البرد، وقطع المسافات لبلوغ الجماعة في المسجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.. وأمثالها أمور ثقيلة على النفوس كريهة عليها. ولكن تحت هذه الصعوبة والثقل خطوات تلو الأخرى للتقرب إلى الجنة والتنعم برحمة الله مرحلة مرحلة. وهناك أيضاً أمور تشتهيها النفوس وترغب بها وتسوق الإنسان إلى عالم الشهوات بينما وراءها سقوط في هاوية الجحيم وبعدٌ عن رحمة الله تعالى خطوة خطوة.
ولقد أصاب عمر بن الخطاب في إدراك هذه المسألة حيث قال: “ما أبالي على أي حال أصبحت، على ما أحب أو على ما أكره. لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره”.( ) والأصل في الأمر هو الانقياد لما يقضيه الله سبحانه والتجنب عن البحث عن الحكم فيها. نعم إن الواجب علينا هو السعي للخير وحمل نية الخير، فلا ينبغي أن ننخدع بالظاهر من الأمر والنهي بل علينا الطاعة التامة لأوامره تعالى.
إن خير مثال في هذا الصدد هو صلح الحديبية. إذ فيه من المواقف والأحوال ما لا ترغب فيها النفس، إذا ما نظر إليها من حيث الملك، أي من حيث ظاهر الأمر. ولكن إذا ما أخذ الأمر من حيث الملكوت والأبعاد اللدنية، فهو “فتح قريب” كما هو في التعبير القرآني.
وحقّاً إن ظاهر الأمر في الحديبية قد لا تتحمله النفوس، لكأن كل ما يعادي الإسلام قد اجتمع هناك، بينما الصحابة الكرام المستعدون للتضحية بكل غالٍ ونفيس، ليس لهم فيه أصغر حق. حيث كانت مشاعرهم متهيجة لأجل الطواف حول الكعبة المعظمة.
نعم هؤلاء الكرام ينتظرون منذ سنين وعلى مضض هذه الفرصة، والآن يحول الأعداء بينهم وبين ما يرغبون. لذا فإنه ثقيل على نفوسهم الرجوع من مكان قريب للكعبة، ولم يك هيناً. إذنْ على تلك النفوس المتهيأة للطواف أن ترضخ لبنود الصلح. ولاسيما بعدما شاهدوا ردّ أبي جندل وهو مكبل بالسلاسل إلى الكفار بينما هو يريد الاحتماء بالرسول r. ولا شك أن هذا المنظر مؤلم جدّاً لنفوس الصحب الكرام.. بمعنى أن جميع ما في ظاهر الحديبية يجري خلاف رغبات المؤمنين. ولكن رغم الانفعال الذي بلغ ذروته في نفوس المؤمنين فإن الرسول الكريم حافظ على سكينته وهو على يقين من العاقبة التي ستؤول إلى خير بلا شك. وهو معنى الابتسامة الحلوة التي كانت تحت نظراته الشجية. وحقاً إن إدراك أبعاد المسألة أمر صعب جداً. حتى أن عمر بن الخطاب الذي لم يدرك سر المسألة، أخذ بالاستغفار والتصدق طوال حياته لمّا أدرك السر كفارةً لما بدر منه في الحديبية. ولكن بعد نـزول الآيات الكريمة أخذت العقد تنحل والمشاكل تتوضح وتتبدد لدى الصحابة الكرام بجميع أبعاد المسألة ظاهراً وباطناً.
نعم، الحديبية فتح، حيث إن قريشاً أخذت موقع المعاهد مع المسلمين، وهذا اعتراف رسمي بوجودهم. والمسلمون بدورهم ضمنوا العمرة في السنة القادمة، وهذا يعني أن الكعبة ليست حصراً بالمكيّين، مما أحيا في القبائل الأخرى روح الشجاعة. وفي صلح الحديبية فرصة عظيمة جداً للمسلمين لنشر دعوتهم، حيث قُرر ألاّ يحارِب الطرفان طوال عشر سنوات، وفعلاً دخلت القبائل، قبيلة إثر أخرى في الإسلام بعد أداء الإرشاد والتبليغ طوال هذه المدة الطويلة. فالحديبية حقاً فتح مبين.( )
ومثال آخر نسوقه من سـيدنا يوسـف u لرؤية الجانب الملكوتي للحوادث وبيان وجهها الحسن.
إنه لأجل أن يكون عزيز مصر، كان لا بد أن يُرمى أوّلاً في الجبّ، ويباع بيع العبيد، ثم يُزجّ في السـجن… وقد تجرع آلام كل هذا سـيدنا يوسف واجتاز الامتحانات الصعبة بنجاح باهر يليق بنبيّ كريم. فوَراء الحوادث التي ظاهرها الصعوبة والثقل والكراهة مرتبة يرتقي إليها ليحكم ويؤدي دوره في قدَر الأمة، وقد بلغ سيدنا يوسف هذه المرتبة فعلاً.
ولقد ارتقى سيدنا الرسول الكريم إلى المعراج في مثل هذه الظروف الصعبة والآلام تحيط به والمضايقات تشدد عليه الخناق، وكانت الأحداث كلها ضده. إذ المسلمون تحت الحصار، وقد توفي إثنان ممن كانوا السند له، فلم تعد خديجة الكبرى ولا أبو طالب جنب الرسول بحياتهما الجسمانية، فضلاً عما لاقاه في الطائف من الرد.( )
ففي هذه الأثناء بالذات جاءت الدعوة الكريمة من الله سبحانه ليرفعه إلى السـماء، فارتقى بالمعراج حتى بلغ قاب قوسين أو أدنى (بين الإمكان والوجوب). نعم لقد بلغ موضعاً لم يقدر جبريل إلاّ الاكتفاء بمشاهدته فحسب، حيث لا يمكنه أن يتقدم ولو بمقدار أنملة.( )
أما سيدنا موسى u فقد بدأت معاناته منذ الولادة حيث وضع في التابوت وأُلقي به في النهر، ثم أدخله الله إلى قصر فرعون، عدوه وعدو الله الأكبر، ثم عاش عيش الغرباء البعيد عن الأهل بعد أن لطم قبطياً فقضى عليه.( ) نعم إن تربية بني إسرائيل ورفعهم إلى المستوى المنشود لا بد له من اجتياز هذه الصفحات من الحياة التحضيرية. فعلى الرغم من أن سلسلة هذه الحوادث التي ترد بانتظام كريهة ظاهراً، فالله سبحانه يخلق الخير المطلق من هذه البدايات المليئة بالأحداث الصعبة الكريهة.
وكذا سيدنا المسيح u كيف رُفع إلى السماء؟ وقد أُعدّ له الصليب ليصلب بعد أن عانى ما عانى من مضايقات وترصدات متعاقبة رهيبة. إلاّ أن الله سبحانه في تلك الأثناء بالذات يرفعه بيده الرحيمة إلى السماء.( ) فكما كانت ولادته معجزة، عاد إلى السماء بمعجزة أيضاً.
والأمر نفسه واقع في الأمة المحمدية. وسيخلق الله سبحانه خيرات كثيرة مما تعانيه كالأمم السـابقة، وسـينعم عليها بالفرج والنصر بعد اجتيازها هـذه الحوادث الجسـام التي يبدو ظاهرها كريهاً مؤلِما.
فكل حادثة ببدايتها ونهايتها تنطوي في العلم الإلهي على أسرار كثيرة كهذه. فالله الذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن عليم بجهة الملك والملكوت بكل شيء. والقدر هو عنوان ذو أسرار لعلمه هذا، وبكيفيته هذه فالقدر اسم آخر لحقيقة اللوح المحفوظ.