على الرغم من كون الإنسان صاحب اختيار وإرادة، فلله الخلق والأمر. فلا يحدث شيء قطعاً ولا يرد شيء إلى الوجود أصلاً ما لم يصدر الأمر منه تعالى. فلولا مشيئته لم يكن زمان ولا مكان؛ ولو لم يرد دوام ما أوجده لأصبح كل شيء هباءً منثوراً.
فهو الذي قلّد جواهر الوجود على جيد العدم، وهو الذي فتح أبواب السماء على ظلمات العدم، وهو الذي جعل الأكوان كلها كالكتاب وكالمعرض ونوّرها ليُقرأ الكتاب ويُشاهد المعرض. فالعيون تتفجر بأمره، والسيول تجري بأمره، والجبال تتصدع وتسقط بأمره أحجاراً تتحول إلى تراب، بفتح صدره للبذور والنوى، والسهول والوديان تتسربل بحلل سندسية بأمره، حتى تغرى نظر الأرض والسماء، وتتحول الأرض من أقصاها إلى أقصاها جناناً وارفة بنسائم أوامره، فتشحن البساتين والحدائق بالثمار والفواكه، وتغرد الطيور والطويرات بأمره.. بل حتى يتكلم كل كائن حي وغير حي، كل بلسانه، حامداً، داعياً، سائلاً منه تعالى.
فهذا الكون الواسع الذي لا يُرى له ساحل، لا يمكن أن يدّعي أحدٌ تملكه، فما هذه الأرض بعظمتها، بأنهارها وسيولها وبحارها إلاّ قطرات من رحمته تعالى، وما جميع الموجودات الحية وغير الحية إلاّ ذرة من خزائن ثروته. فنعمه تعالى لا تعدّ ولا تحصى ولا تسعها الأرقام. فله وحده الشكر والحمد والمنة تجاه هذه النعم السابغة على الجميع. وله التصرف والتدبير الواسع المشاهد في كل جزء من أجزاء الكون والإنعامات التي أسبغها على كل موجود، وكذا له وحده جميع الحسنات والخيرات وجميع المباركات والفيوضات التي تحققت بعمل الإنسان. فإفراغ الطمأنينة إلى القلوب المؤمنة وإعطاء العلم والدراية لعقول روّاد الحقيقة، وإسباغ الأخلاق الفاضلة والحكمة السديدة عليهم، وهداية الرؤوس العاشقة للسجود له… يخصه وحده تعالى. وكل سعي وعمل لمن لا يعرف عنايته ولا يقدرها حق قدرها عبث وهباء، بل سراب زائل كل ما لا تضفى عليه عنايته تعالى. فالأعمال تتحول عبادات بالفكر في رضاه. والعبادات هذه تكبر وتتسع برعايته وصيانته لها. حتى تصبح وسيلة نجاة الذين كانوا السبب في إقامتها وأدائها. وبخلاف هذا لا يمكن الوصول إلى شيء ولا المرور على الصراط المستقيم، أي خلاف هذا خيال لا حقيقة له. “أنا الذي عملت كذا، أنا نظمت ذاك، أنا الذي وجهت فلان..” هذه الكلمات التي تنم عن الفخر والغرور، مزالق شيطانية حتى مجرد التفوه بها.
إنه الله العلي القدير يدفع أصغر الأشياء لإنجاز أعظم الوظائف، وهو الذي دمّر بنملة قصْر فرعون. إن راية ملكه ترفرف في كل زاوية من زوايا الكون. ويا خسارة من لا ينضوي تحت رايته، أدامها الله على رؤوسنا وأظلنا بظلها. نعم، إن الأرض والسماء تحت حكمه، ونحن بأيدينا وأرجلنا وبصرنا وسمعنا ولساننا وقلبنا ووجداننا… ملكه I. وما هذه الجوارح إلاّ قطع لحم في ملكه الواسع، فهي وسائل شاعرة صغيرة جداً.
فكما أن هذا كله له وحده سبحانه، فإن جميع ما يرد منه من ثمرات وفوائد تخصه وحده سبحانه؛ إذ كيف يمكننا أن نقول: “لساننا، فمنا، عيننا، أذننا.. لو لم يمنحنا هذه الجوارح والمشاعر والحواس، ولو لم يرتّب ثمرات على هذه الحواس والمشاعر، كم كانت حصتنا من تلك الثمرات التي ندّعي تملكها؟. فالدنيا كلها بأمره تدور، والأرض كلها تمتلئ بجود كرمه وتفيض”. لذا فإن إسناد الوجود إلى غيره تعالى “كفر ما بعده كفر” حتى أنه لا يغتفر؛ والتعامي عن يد إحسانه وراء كل إحسان شرك مشين.
فيا ذا الرحمة الواسعة التي يطمع فيها حتى الشيطان! ارفع الغشاوة عن أبصار الذين يقولون: “أنا.. أنا..” وأظهر تجلياتك للمستحسنين المعجبين أمام إجراءاتك وأفعالك، واملأ القلوب الخاوية بمعرفتك.