الإنعام: هو إيصال الإحسان إلى الغير، وفي تعديته بـ”على” إشارةٌ إلى أنه ينزلُ من عَلٍ، وفي هذه الآية أنه ينزل مِن لدُن مَن هو حاكمٌ وغالبٌ على كلِّ شيءٍ، وأن علينا نحن العباد الشكر على هذا الإنعام. نعم، إنه بحرف الجر هذا (على) حصل التنبيه إلى ما نحن مكلفون به ومسؤولون عنه، مع بيان عظمة الله وربوبيَّتِهِ .
أ. الإنعامُ، ونعمةُ الاستفادةِ من النعمة
“الإنعام” يتضمَّنُ أيضًا استفادة الإنسان وتلذُّذَه بالنعمة، إن الله I يعطينا النعمة ونحن بدورنا نتنعم بتلك النعمة ونتمتَّع بها، فها هي ماهية “الإنعام”، يعني الإنعامُ ذلكَ الفعلُ الذي فاعلُه هو اللهُ مندمجٌ فيه تمتُّعُ الذين أُنعِمَ عليهم بهذه النعمةِ، والتلذُّذ إنما تحصَّلَ بالنعمةِ ذاتِها، ولذلك نعتَبِرُ الاستفادة من النعمة نعمةً، فكم من صاحبِ نعمةٍ لا يستفيدُ من النعمة التي يملكها؛ فترى الرجلَ يملك الخبزَ والزيتَ والملحَ والسكَّرَ، ولكن ذائقَتَهُ مفقودةٌ، وترى الشخص يملك المال والثروة ولكن في حنجرتِهِ وَرَمـًا خبيثًا، فلا يستطيع أن يأكلَ ويستفيد من الطعام إلا ما كان مائعًا مثل العصيدة ونحوها، وكم من أناسٍ وُلدوا وترعرعوا في بلدٍ إسلاميٍّ ولكنهم في الحقيقة عُمْيٌ غافلون عن الحقائق التي يرونها أمامهم منذ أن وُلِدُوا، وأمرُهم كما ورد في الـمَثَلِ: “كم من سمكٍ يعيش في البحر لكنه لا يدري عن البحر شيئًا”.
إن أعظمَ النِّعَمِ هو الإسلام؛ فهو من العظمة بحيث إنه نعمةٌ ليس فوقها نعمة، ولكن يا لها من فجاعة أن يكون الإسلامُ يَعرِض نفسَه كلَّ يومٍ مراتٍ عديدة بكلِّ عَظَمَتِهِ وشمولِهِ، وبالمقابل ترى هناك مَن تربَّى في ظلِّ المآذن وتحت قبب المساجد ولكنه لا يستفيد من هذه النعمة الكبرى؛ فتراهم يسمعون دويَّ الصرخات التي تهتف بـ”الله”، ولكنهم يا للأسف لا يعيرون لها سمعًا، وكم من “أبي طالب” أشَعَّتْ بمقرُبة منه الشعلةُ التي لا تخبو والتي أنارها سلطانُ الأزل والأبد، لكنك تراه لم يستفدْ من هذه الشعلة ولم يقتبس منها ولو لمعةً، مع أنه احتضنه أربعين عامًا، ولذلك نقول: إن وجودَ النعمة ليس هو كلّ الأمر؛ فالاستفادة من النعمة بجانب النعمة ذاتِها لا تقلُّ عنها من حيث الأهمية والخطورة.
إن الأمور التي تَجري في الكون متداخلةٌ ومعقَّدَةٌ بحيثُ إن الإنعامَ إذا لم يُسنَد إلى الله فلن يمكن فهمُ أيِّ قضيّة، فلذلك نُسنِد فعلَ الإنعامِ إلى الله تعالى ونقولُ: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، فالأمر لله لا لأصحاب السلطان والملوك، إنما هو لله صاحب الملك والملكوت الذي بيده مقاليدُ كلِّ شيءٍ، والذي ليس الزمان والمكان بالنسبة لعرشِهِ العظيم إلا بمنزلةِ حلقةٍ صغيرةٍ أُلقيت في فلاة، فنحن إذ نقول: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ نستشعر هذا بكل أحاسيسنا ومشاعرنا، ونحاول أن نُسمِع ذلك أرواحَنا.
وبما أننا نحتاج إلى نِعَمٍ لا متناهية أعطانا اللهُ نعمًا لا متناهية: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/34)، فنحن لن نستطيعَ جَلْبَ هذه النعم من شتى جوانب الكون لا باستحقاقنا ولا بقُدُراتِنا؛ فكلُّ ذلك إنما يتمُّ بِلُطْفِ الله بنا، وكما أن إتيان النِّعَمِ لطفٌ منه تعالى فكذا تحقيق استفادتِنا من تلك النعم لطفٌ منه.
ب. أنواع النِّعَمِ
يمكن تقسيم النعم التي حبانا الله بها إلى قسمين: دنيويّة وأخرويّة، كما يمكن تقسيمها من ناحيةٍ أخرى إلى وَهْبيَّة وكَسْبيَّة، ومن ناحية أخرى إلى مادِّيَّة ومعنويَّة.
فالله مَنَحَنا الحياةَ باعتبارها نعمةً معنويَّة؛ حيث إننا، على خلاف الكائنات الحيّة الأخرى التي لا تستطيع أن تُجري المناسبة إلا مع محيطها المكاني، متحرِّرُون من ذلك، ولذلك نستطيعُ أن نعقد المناسبةَ مع كلِّ الأمكنة وندخلَ في علاقةٍ مع وجه الأرض ذي الألوان المتعدِّدَةِ، فهذه ثمرةٌ خاصّةٌ نفخها الله فينا، وأثرٌ من آثارِهِ، ونفحةٌ من نفحاتِهِ.
ومن بين النعم المعنويّة التي حبانا الله بها: العقلُ والشعور والإدراك، بالإضافة إلى نعمةٍ نستطيعُ أن نستشعرَ بها كلَّ ما ذكرنا من النعم، ألا وهو “الوجدان” الذي هو أصلُنا وجوهرُنا.
وأما النِّعَمُ المادِّيَّــةُ، فإن الله قد أعطى كلَّ واحد منَّا -مثلًا- عينين وأذنين وأنفًا وفمًا ونحو ذلك من الأعضاء، فبكلِّ هذه الأعضاءِ نستفيدُ من النِّعَمِ الظاهرة التي يُنعِمُ الله بها علينا، فنستفيدُ بأفواهِنا من النعم التي يستفاد منها بالفم، ونستفيد بأعيُنِنَا من النِّعَمِ التي يُستفاد منها بالعين، وهكذا… وكذلك فقد أسَّسَ الله بفضلِهِ تناسبًا بين الأصوات التي تَمُوج في الكون وبين آذاننا، فلا تؤدِّي الأصواتُ بِصَخَبِها الشديد إلى خرقٍ في أغشيةِ آذانِنا ولا تضربُها.
وبعض هذه النعم وَهْبيَّةٌ قد أعطاناها اللهُ؛ فليس لنا أيُّ دخلٍ وأيُّ دورٍ في تحصيلِها، فكلُّ الأعضاءِ التي تتشَكَّلُ عنها أبدانُنا، والملكاتُ الروحيّة التي مَنَحَنا اللهُ إيّاها وهبيَّةٌ، وليس للإنسان فيها إلا أن يكون سببًا في تطوُّرِ هذه النعم أو ازدياد بعضها، ومهمَّتُه في هذا المجال ليس إلا الدعاء والشُّكر.
ومن النعم التي أنعم الله علينا مغفرةُ الله I لأخطائنا التي نرتكبها من أمثال إفراطِنا وتفريطِنا، وتقصيرِنا في عبوديَّــتِنا، وتجاوُزِنا للحدِّ، وإساءتنا لاستخدام قُدُراتنا، فمغفرة الله لنا عن كلِّ ذلك من باب النعم الأخرويّـة، وكذلك تهيئةُ الله قلوبَنا لقبول الإيمانِ، وكونُ الجنَّة مُعَدَّةً لنا، ووجودُ شوقٍ عارمٍ في جوانحنا تجاه الجنة؛ كل ذلك من النعم الأخروية.
إنك -أيها الإنسان!- كما تُـحِبُّ الزهرةَ والربيع وتشتاق إليهما تشتاق إلى الجنة ومشاهدةِ جمالِ الله -ذلك الجمال الذي ليست الجنةُ إلا جلوةً واحدةً من جَلَواته-، إن هذا الشوقَ نحوَ الخلودِ والبقاءِ لا يمكن أن يكون نابعًا منكَ أنتَ الفاني؛ فهذا الشوق لا بدَّ إلا وأنه قد أتى من باقٍ لا فناءَ لِذاتِهِ وصفاتِه وهو الله عزّ وجل، وهذا يعني أن ما في قلبِك من الشوقِ العارِمِ نحو الجنّة، وانعكاسَ قولِه تعالى: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ﴾ (سورة يُونُسَ: 10/25) على روحك، وإحساسَك بصداه في فؤادِكَ، وسيرَك في الطريق نحو دارِ السلامِ بأملٍ ورجاءٍ، ووصولَكَ إلى هذا الهدف بأمان؛ كل ذلك من هدايا الله لَكَ وألطافِهِ، وليس لك في أيٍّ من ذلك دَخْلٌ.
والنعم الأخروية أيضًا منها ما هو مادّيٌّ وما هو معنويٌّ؛ فبعضُ هذه النعم تكون على هيئة المعرفة الإلهيّة بحيث إننا نحسّ بلذّتِها في وجداننا ونتذوَّقها في ضمائرنا؛ في حين أن البعضَ الآخر منها قد أُعِدَّت بحيثُ تُلَبِّي رغباتِنا الجسمانيّة.
فنحن إذ نقول: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فإننا نقصد بذلك: اللهم اهدِنا طريقَ تلك الزمرةِ الصالحة التي حَظِيَتْ برضاك وأحْرَزَتْ كلَّ هذهِ النِّعَم والألطافَ الدنيويّة والأخرويّة؛ والمادّيّة والمعنويّة، والوهبيّة والكسبيّة.
ونحن نحظى على الدوام بآلاف من نعم الله التي تنهَمِرُ علينا، وكثيرٌ من هذه النعم ذات قيمة كبيرةٍ بالنسبة لنا.
إن حقَّ الحياة الذي مُنحَ لنا، والوعيَ الفرديَّ والاجتماعي، وكذلك المجتمع الذي يتشكَّلُ بوازعٍ من هذا الوعي، وصلاحَ هذا المجتمع؛ كلّ ذلك من النعم العظيمة التي نعجزُ عن أداء شكرِها، ومن جانب آخر، بالإضافة إلى النعم التي لن نحصيها والتي تتحلَّى بها حياتُنا، قد فُتح لنا المجال لأن نُزيِّن حياتَنا بالعِلم والعمل الصالح، كما أن بانتظارِنا في نهاية المطاف التشرُّفَ بالجنة والجمال السرمديّ، وغيرها من النعم التي تَبثُّ فينا مشاعرَ التقدير والانبهار، وبالأحرى فإن الله قد مَنَحَنا بِلُطْفِهِ وكَرَمِهِ “حُريةَ الإرادة” التي نَصِلُ بواسطتها إلى هذه السعادة، فهذه نعمة تعجز عن وصفها الكلمات.
نعم، إن الحريَّةَ نعمةٌ عظيمةٌ، وأبهى أشكال هذه النعمة إنما هو العبوديّة لله؛ فنحن إذا سلَّمْنا أنفسنا للحقِّ فحينذاك نُـحْـرِزُ الحريّة الحقيقيّة، وما أحسنَ ما يعبِّرُ مولانا جلال الدين الرومي عن هذه الحقيقة حيث يقول:
كلُّ رقيقٍ يسعدُ حينما يَعتِق
وأنا وجدتُ سعادتي في الرِّقِّ
إن الله قد منحَنا الحرّيَّةَ حينما رَبَطَنا بِذاتِهِ، فالحريَّةُ عبارةٌ عن أن يكونَ الإنسانُ مالكًا لحقوقه، والإنسانُ الذي لا يملك ما يدبِّرُ بهِ شؤونه أسيرٌ ورقيقٌ، فلذلك نقول: إن السعادةَ والحرية في اتباع قوانين الله، أما القوانين والأحكام التي تخالف أحكامَ الله فتأسِرُ الإنسانَ وتقيِّده بقيودٍ تسلبُ السعادة منه، فإن الذي لم يذقْ طعمَ العبودية لله لا يمكن الحديثُ عن حريته، فإذا كان المرء يستطيع أن يقول: “أنا حرٌّ لأني عبدُ الله”، فها هو التوحيد.
إن الحرية لا يمكن تصوُّرُها بمعزلٍ عن العبودية لله؛ فبينهما تلازمٌ؛ بمعنى أن الذي لم يَستشعر حقيقةَ العبوديَّة لله استشعارًا تامًّا، ولم يتشبَّع بها، فلن يَعرف -بتاتًا- ما هي الحريّة، فقلبُه مشحونٌ بعديد من الآلهة المتوهَّـمة، بحيث إن كلَّ من يملكُ القوَّة يستطيع أن يكون إلهًا له؛ لأنه لم يستطع الوصول إلى التوحيد في قلبه، ولم يركز قلبه على نقطةٍ واحدة، ولم يتنفَّسْ أجواء الحريّة، والأدهى والأمرُّ في هذا الأمر أنَّ المجتمع الذي يتشكَّل من أمثال هؤلاء الأفراد يكون مجتمعًا دائبًا على الأَسْر، والسبب في هذا هو كفرانهم لنعمة الحرية. نعم، إن الله يسلب نعمة الحرية عن الذي لم يُقدِّرْها حقَّ قدرِها.
ج. صراطُ الذين أنعمَ اللهُ عليهم
يمكن أخذُ “أنعمتَ عليهم” على إطلاقه كما يمكن أخذُه على “صراطَ الذين أنعمتَ به عليهم” بتقدير “به” أي “بذلك الصراط” فتكون النعمة هي الصراط نفسه.
ومهما كان المراد فإننا نفهم من الآية الكريمة أن هذا الطريق طريقٌ قد بزغ فيه مِن قَبْلِنا أشهرُ الناس وأقواهم صِيتًا ولمعَ نجمُهم ثمّ غابوا، فهم نجومُ الإنسانية وشموسُها، إن هذا الطريق سلكه آلافٌ من المنوَّرين، وهو الطريق الذي أدَّى إلى مئاتٍ من الدول التي أُسِّسَتْ على الأصول الدينيّة، إن هذا هو الطريق الذي سارَ عليه الأنبياءُ من لدن آدم إلى سيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام…
إننا نتوجَّهُ إلى الله بكلِّ كياننا قائلين: اللهم إننا نسألك طريقَ أولئك الذين لا ندرك ماهيَّتهم ومدى سموِّهم، ولكنهم يَحْظَوْن لديك بقيمةٍ فائقةٍ إذ إنهم يحظَون بنعمةٍ منك، فاهدنا إلى طريقهم حتى إذا تحدَّثَ الذين سيأتون مِن بعدِنا عنهم، نكون نحن أيضًا مندرجين في عِدادهم.
إنني أريدُ أن أركِّزَ على هذه النقطة بالذَّات؛ وهي أنه سيأتي يومٌ، وسيُذكر الذين يَملؤون المساجد في أيامنا هذه، فإذا قيل: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ $ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فسنكون مندرجين ضمنهم، فالإنسان حينما يلهجُ لسانه بهذه الجملة؛ يهيج بداخله شوقٌ واشتياقٌ، وكأنه يقول فيما بينه وبين نفسه: ينبغي أن أخلِّف لمن بعدي ميراثًا بحيث يمكن الاستفادة من ذلك العمل الذي لا ينقطع خيرُه، حتى يَذْكُروني بالخير، ويَدْعُوا لي.
وآيةُ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/69) تعيِّنُ المرادَ من قولِهِ “صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم”، أي اهدِنا صراطَ النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وفي حديث المعراج يتحدَّثُ الرسول عن رؤيتِهِ للأنبياءِ كلًّا على هيئتِهِ الخاصَّةِ به، وأنهم أعلنوا علاقَتَهم بالنبيّ ، وهذا المشهدُ ذو أهـــمّــيّــة فائقةٍ من حيث بيانه لمدى نورانيّة الكوكبةِ الذين نتبع خطاهم، وفي هذا تحفيزٌ على الاقتِداءِ بهم والسيرِ خلفَهم.
إن هذا المشهدَ من الروعةِ بحيث إن الجماعات المؤمنة إنْ أدركتْ معناه بروحِها وخيالِـها، فإنها ستؤدّي عبوديَّتَها لله بذوقٍ وشوقٍ، لأنها ستحسّ بأنها تسير على خُطَى النبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين.
د. صراطُ غيرِ المغضوبِ عليهم
الغضبُ حالةٌ نفسيَّةٌ يُرادُ منه هنا لازمُهُ وهو إنزالُ البلاءِ والعذابِ، فـ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم﴾ يعني “صراط الذين لم ينزلْ عليهم البلاء، ولم يُعَرَّضوا لعذابِ الله”، لكن الغضبَ لا يلزمُ منه البلاء والمصيبة دائمًا، فقد يكون غضبٌ ينطوي على رحمة، فلا يَبدأ الغضبُ دائمًا من النقطة التي تنتهي فيها الرحمة، كما لا تنتهي الرحمة دائمًا من حيث يبدأ الغضب، بل قد يكون ضمنَ الغضب رحمةٌ، فمثلًا يَقتلُ إنسانٌ إنسانًا؛ فالشريعة تقف من هذا القاتل موقفَ الغضب -إن صحَّ التعبير- وتَأْمُرُ بِقَتْلِهِ، ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيٰوةٌ يَۤا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، فنحن كذلك نغضبُ على ذلك القاتل باسم الشريعة، لكن لا يعني هذا الغضبُ عدمَ الرحمةِ؛ لأن هذا الحكمَ ينطوي على رحمةٍ تجاه المظلوم ومهضومِ الحقّ، وكذلك المجتمعِ والحياةِ الاجتماعية، أي إن في هذا الغضب رحمةً خفيّة، وسُبْحَانَ مَنْ جَمَعَ الرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ..!
وما دام الإنسان متوجِّهًا إلى الله بحياتِهِ الروحيّة وعالَمِهِ القلبي يكون الغضبُ بالنسبة له عينَ الرحمة، نذكر في هذا الصدد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”[1]
فنحن إذ نقول ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم﴾ نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا من الذين تعرَّضوا لِغَضَبِ الله، وانحرفوا عن سبيله .
هـ. صراطُ غير الضالين عن الحقّ
وأما ﴿الضَّالِّينَ﴾ فهو من الضلال وهو الانحراف، والضلالُ عَمًى وعدمُ إعمالٍ للعقل ووقوعٌ في الحيرة، هذه الأمور قد تكون سببًا للضلال وقد تكونُ نتيجةً له، إذ قد يقعُ الإنسان في الضلال وعلى إثر ذلك يتعرَّضُ للسَّفَهِ والعَتَهِ والخَرَفِ والحيرة، فكأنّ بين الضلال وهذه الأمورِ تلازمًا، هذا يستلزم هذه وهذه تستلزم هذا. نعم، إننا إذ نقول: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ نتضرَّع إلى الله ونسأله أن لا يزجَّ بنا إلى سبيل الذين يتخبَّطون في الضلال في حيرةٍ وارتباك، ولا يبصرون الوجه الناصعَ للحقِّ والحقيقة.
وحرف التعريف (أل) في كلمتَيْ ﴿اَلْمَغْضُوبِ﴾ و﴿اَلضَّالِّينَ﴾ إذا كان للاستغراق يكون المقصودُ جميعَ الذين تعرَّضوا لِغَضَبِ الله وجميعَ الذين وقعوا في الضلال، ونكون قد التجأنا إلى هداية الله حتى لا نسقط في الطريق الذي سَلَكَهُ هؤلاء.
ورد في الحديث أن الرسول قال: “إِنَّ اليَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ النَّصَارَى ضُلَّالٌ”[2]، لكن هذا الحديث لا يفيد حصر المغضوب عليهم والضالين في هاتين الطائفتين، وقد قُصد بهما في القرآن الكريم اليهودُ والنصارى وغيرُهم، فكأن الحديث يفيد أن أقرب المعارضين للمسلمين هم اليهود والنصارى، ونعوذ بك اللهم من أن نُدفع ويُزَجَّ بنا إلى طريق جميع الذين تعرَّضوا لغضبك وضلُّوا.
ومن هذه الزاوية يمكن أن يقال: إن جميع الكفار -مِن أَهونهم إلى أشَدِّهم- تعرَّضُوا نوعًا ما لغضبِ الله، وانحرفوا إلى الضلالة بشكلٍ من الأشكال.
فكيف كان حالُ اليهودِ والنصارى في العهدِ الذي نزل فيه القرآن، ولماذا وُصفوا بأنهم مغضوبٌ عليهم وضالُّون؟ فالآن لِنُلْقِ نظرةً سريعةً على ذلكَ:
إن بعضَ اليهود كانوا قد حرّفوا التوراةَ، وكانوا يقولون عمَّا كتبوه بأيديهم: “هذا كتابُ الله”، وكان زعماؤهم الروحانيّون يشرحون كتابَ الله على حسب أهوائِهم، ويقدّمون شرحَهم للناس على أنه “كلامُ الله”، وكانت الأنظارُ متوجِّهةً تمامًا نحو المادّة؛ فكانوا يحاولون أن ينتزعوا الإيمان من القلوب ويُـحِـلُّوا الرفاهَ المادِّيَّ والسكينةَ والسعادةَ المادِّيَّتَين محلّه، وكان الأنبياءُ الذين يحاولون بكلِّ ما أوتوا من قوَّةٍ أن يحوِّلوا هذا الوضعَ المنحطّ بهذه الدرجةِ، ويوجِّهوه من الكثرةِ إلى الوحدةِ، ومن الباقي إلى الفاني يُقتَلون بأيدي أولئك شرَّ قتلة، وتُداهَمُ منازلُهم، وتنفَّذُ فيهم أحكام الإعدامِ بكلِّ سهولةٍ، ويُنشَرون بالمناشيرِ نِصْفَين.
والواقع أن اليهودَ كانوا قد انمحوا عن الساحة المعنويّة عقبَ مُلْك سيدنا سليمان وقُوِّضتْ أركانُهم وأفلَسوا، فأعقبَ هذا الدمارَ المعنويَّ الدمارُ المادِّيُّ، حيث إن المادَّةَ تتبعُ المعنى، فلم يَعُد الحكّامُ الذين جاؤوا بعد سليمان يستطيعون أن يواصلوا السيطرةَ على اليهود، فإذا بهم تتعاقَبُ عليهم فترات الأَسْرِ، وكان اليهوديُّ يُستَحقَر ويُستذَلُّ حيثما ارتَحلَ أو حَلَّ، ولذلك كان يحاوِل أن يحافظَ على وجوده عن طريق الجمعيات السِّرِّية التي أسَّسَها، ولكنه جرَّاءَ سلوكِهِ هذا المسلَكَ الخاطِئَ كان يُثيرُ الريبةَ والشكَّ حتى في أقربِ المقرَّبين إليه، وبذلك كان يَفقد الجدارةَ بالرحمة وحقَّ الاستفادة منها، سواء على المستوى المادِّيّ أو المعنويّ.
فانظروا إلى هذا المشهد، ولاحِظوا كيف لازَمَهم هذا العار والتصقَ بِـجَـبِـيـنِـهِم، وإياكم -يا أمةَ محمد – أن تستبدلوا المادَّة بالمعنى؛ فتتورَّطوا في الهاويات التي سقطت فيها تلك الأمة السالفة، ولا تنحازوا إلى تربُّعِ المالِ والاقتصادِ والرفاهِ المادِّيِّ والدعةِ ورغدِ العيشِ على أفئدَتِكم بدلًا عن الله جلَّ جلاله، وحاوِلوا إرشادَ الناس إلى الطريق المستقيم الذي هو الطريق الحقّ، سائرين على نهج الرسول الأكرم وفي إطار ما جاء بها من الحقائق، لأن الناس يُلدغون دائمًا من نفسِ الجحور، ويفسُدون بالمفاسد نفسها، ويتعرضون لغضب الله تعالى بالأسبابِ نفسِها…
والنصارى أيضا حرّفوا الإنجيل، وأوصلوا عدد الأناجيل إلى المئات. نعم، فإلى حين اجتماع “إزنيق” وإنزالِ عدد الأناجيل إلى أربعةٍ كان هناك مئات من الأناجيل يناقضُ بعضُها بعضًا، وكان الصراعُ بين المذاهب والشجارُ يُنهِكُ النصرانيّة، كيف لا وقد كان المنطِقُ معزولًا عن منصِبِهِ، والعقلُ سجينًا!؟ وكان قد ضُرِبَ ختمُ: “ممنوع” على قفا كلٍّ من المنطِقِ والعقْلِ، فكلاهما لم يكن يستطيع دخول المعبد، والذي يأتي إلى الزعيمِ الروحاني ما كانَ بإمكانِهِ إصحابُ عقلِهِ ومنطِقِهِ معه، بل يرميهما بعيدًا ثمَّ يأتي، وكانت النصرانية تؤمن بالتثليث من دون الاستناد إلى أيِّ برهانٍ عقليٍّ، وكان الإلَهُ عندهم واحدًا وثلاثة في الوقتِ نفسِهِ! وكان الزعماء الروحانيون الذين حادُوا عن الطريق إلى هذا الحدِّ يبيعون أراضي الجنة في المعابِدِ بكلِّ سهولَةٍ، ويدَّعون أنهم يُنقِذون الناسَ من نارِ جهنّم، فضَلُّوا وأَضَلُّوا، وكان “الصراط المستقيم” قد صار منذ أمدٍ بعيدٍ طَيَّ النسيان، وهُجِرَ سبيلُ سيدنا عيسى عليه السلام، وبالتالي فإن هؤلاء كانوا في الانحراف والضلال ولو كانوا غارقين في جميع نِعَمِ الدنيا.
فنحن نتضرع إلى الله تعالى أن يحفظَنا من الانحراف والانجرافِ إلى طريق هؤلاء ونقولُ: “اللهم لا تدفع بنا إلى طريقهم”، ونستصرخُ قائلين: “آمين”، طلبًا لاستجابة هذا الدعاء الشاملِ العام.
[1] صحيح مسلم، الزهد، 64.
[2] سنن الترمذي، تفسير القرآن، تفسير سورة الفاتحة.
[3] صحيح البخاري، الأذان، 111، 113؛ صحيح مسلم، الصلاة، 72.
[4] سنن ابن ماجه، الإقامة، 14.